يتميز الدستور الجديد للمملكة المغربية لسنة 2011 بعدة مميزات وخصوصيات على مستوى التكريس الدستوري لمبدأ الفصل بين السلطات اعتبارا لكونه وسع من نطاق هذا المبدأ من خلال تجسيد مظاهر جديدة للفصل بين السلطات، وخصوصا عند ارتقائه بوظيفة القضاء إلى مصاف السلطات الدستورية المعترف لها باستقلاليتها عن باقي السلطات ( الفصل 107 من الدستور الجديد لسنة 2011). وفضلا عن هذا التوسع الجديد لمبدأ الفصل بين السلطات المرتبط بالسلطة القضائية، فإن ما يتميز به كذلك الدستور الجديد كونه أعطى لبعض الهيئات المتعلقة بالحكامة الجيدة ومحاربة الفساد استقلاليتها عن باقي السلطات ( الفصل 159 من الدستور الجديد لسنة 2011)؛ الأمر الذي يمكن اعتباره مظهرا جديدا للتوسع الذي يشهده نطاق مبدأ الفصل بين السلطات، خاصة وأن الباحثين في الحقل الدستوري أكدوا على أن ماهية ومفهوم الفصل بين السلطات لا يعني بالضرورة ثلاثية السلطات بقدر ما يعني ضرورة تجسيد استقلال حقيقي بين السلطات والمؤسسات المكونة للشخصية القانونية والموحدة للدولة. وفي سياق هذا التوسع الجديد لنطاق الفصل بين السلطات الذي جاء به الدستور الجديد للمملكة المغربية، تنبغي الإشارة إلى تنصيصه الصريح على الاستقلالية الممنوحة للمجلس الأعلى للحسابات ( الفصل 147 )، وذلك على خلاف الدستور الملغى لسنة 1996 ( الفصل 96 من الدستور الملغى ) الذي وإن كان قد ارتقى بهذا المجلس إلى مصاف المؤسسات الدستورية فإنه لم يكن ينص صراحة على هذه الاستقلالية بقدر ما كان يتم استنتاجها ضمنا عبر مسألة الارتقاء الدستوري. 2- وإذا كان نطاق التكريس الدستوري لمبدأ الفصل بين السلطات شهد اتساعا على مستوى السلطة القضائية والتنصيص الصريح على استقلالية المؤسسات الدستورية الأخرى، فإن مفهوم وشكل مبدأ الفصل بين السلطات المعتمد في النظام الدستوري للمملكة المغربية عرف هو الآخر تميزا واضحا بالمقارنة مع الدساتير السابقة، خاصة عند تنصيصه الصريح في الفقرة الأولى من الفصل الأول من الدستور الجديد على أنه : « يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة»؛ الأمر الذي يؤكد بكل وضوح على أن مفهوم الفصل بين السلطات في النظام الدستوري المغربي ينبني على الاستقلالية العضوية والوظيفية للسلطات والهئيات التي تمت دسترتها. غير أن الاستقلال الممنوح للسلطات والهيئات المدسترة يظل في نطاقه محكوما بمعياري التوازن والتعاون فيما بينها دون استعلاء سلطة أو هيئة على سلطة أو هيئة أخرى؛ وهو الأمر الذي يتضح بشكل جلي عند استقراء مقتضيات الفصول المنظمة لكل سلطة أو هيئة مستقلة؛ إذ سهر المشرع الدستوري على تحديد من جهة أولى اختصاصات كل واحدة منها تفاديا لكل تطاول سلطة أو هيئة على اختصاصات سلطة أو هيئة أخرى، ومن جهة ثانية سهر أيضا على تحديد مجالات وأشكال التعاون فيما بينها درءا لأي انتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات عبر حلول سلطة أو هيئة محل سلطة أو هيئة أخرى في ممارسة الاختصاصات الدستورية الممنوحة لها. ورغم التحديد الدستوري الواضح لمجالات الاختصاص والتعاون فيما بين السلطات والهيئات الدستورية، برزت على مستوى الممارسة عدة سلوكات شهدت انحرافا خطيرا للمفهوم الدستوري لأنماط التعاون فيما بين بعض السلطات والهيئات، أبرزها تعامل مجلس النواب مع بعض هيئات الحكامة والمراقبة العليا على مالية الدولة؛ إذ يمكن تسجيل من خلال هذا التعامل أنه أفضى إلى تحويل مفهوم التعاون المحدد دستوريا إلى مفهوم آخر يتجسد مع الرغبة الأكيدة في تكريس مفهوم إحلال هيئة محل سلطة أخرى في مزاولة الاختصاصات المحددة دستوريا لكل هيئة أو سلطة أخرى. وفي هذا السياق، تندرج واقعة تعامل مجلس النواب مع المجلس الأعلى للحسابات في قضية تقييم منظومة المقاصة في المغرب؛ إذ جاء في تقرير هذا المجلس الأخير المؤرخ في شهر يناير 2014 ( لطفا، أنظروا الصفحة 2 ) ما يلي : « 1. توصل المجلس الأعلى للحسابات بتاريخ 18 يوليو 2013 بطلب من رئيس مجلس النواب من أجل القيام بمهمة لتقييم منظومة المقاصة بالنسبة للمواد الأساسية، طبقا للمادة 148 من الدستور والمادة 224 من النظام الداخلي لمجلس النواب.» واستنادا إلى هذه الواقعة، يتضح أن مجلس النواب برسالته المذكورة قام بتكليف المجلس الأعلى للحسابات بمهمة تقييم منظومة المقاصة في المغرب مستندا في ذلك على مقتضيات الفصل 148 من الدستور الجديد وعلى المادة 224 من النظام الداخلي لمجلس النواب؛ وهو التكليف الذي يطرح معه الإشكال الدستوري حول مكانة هذا التكليف في ظل التحديد الدستوري لمجالات وأشكال التعاون بين مجلس النواب باعتباره من مكونات السلطة التشريعية وبين المجلس الأعلى للحسابات باعتباره من الهيئات الدستورية المستقلة؟، وبعبارة أخرى هل يندرج هذا التكليف، أو الطلب كما سماه مجلس النواب، ضمن أشكال التعاون المنصوص عليها دستوريا بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للحسابات؟ تقتضي الإجابة عن هذا الإشكال تحديد أولا مكانة وظيفة التقييم في ظل التحديد الدستوري للاختصاصات ( المحور الأول )، وذلك حتى يتم التمكن من تحديد الحدود الدستورية لأشكال التعاون ( المحور الثاني ) : المحور الأول : مكانة وظيفة التقييم في ظل التحديد الدستوري للوظائف 3- رغبة منه في تجسيد فصل حقيقي للسلطات والمؤسسات الدستورية، قام المشرع الدستوري بتحديد وظيفة كل واحدة منها على النحو الذي من شأنه أن لا يترك أي مجال للتطاول والتداخل في الممارسة الفعلية للوظائف المنوطة بها. وفي هذا الإطار، يتضح بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 92 من الدستور صلاحية ووظيفة التداول في السياسات العمومية تعود لاختصاص الحكومة، إذ نصت هذا الفصل على ما يلي : « يتداول مجلس الحكومة، تحت رئاسة رئيس الحكومة، في القضايا والنصوص التالية : - السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري؛ - السياسات العمومية؛ - السياسات القطاعية...» وفي مقابل وظيفة التداول في السياسات العمومية الممنوحة دستوريا للحكومة، فإن الدستور منح وظيفة تقييم هذه السياسات العمومية والقطاعية المنتهجة من طرف الحكومة للبرلمان، إذ نص في هذا الإطار الفصل 70 من الدستور في فقرته الثانية على ما يلي : « يصوت البرلمان على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية.» 4- وتأسيسا على هذا المقتضى الدستوري، وفضلا عن مهمتي التشريع والمراقبة، أصبح البرلمان مكلفا بمهمة تقييم السياسات العمومية مستأثرا في ذلك بعدة وسائل وآليات تمكنه من ممارسة هذه المهمة؛ وفي هذا الصدد، نص الفصل 101 من الدستور على ما يلي: « يعرض رئيس الحكومة أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة إما بمبادرة منه، أو بطلب من ثلث أعضاء النواب، أو من أغلبية أعضاء مجلس المستشارين، كما تخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها.» وكذلك نص الفصل 100 من الدستور على ما يلي : « تقدم الأجوبة على الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة من قبل رئيس الحكومة وتخصص لهذه الأسئلة جلسة واحدة كل شهر. وتقدم الأجوبة عنها أمام المجلس الذي يعنيه الأمر خلال الثلاثين يوما الموالية لإحالة الأسئلة على رئيس الحكومة.» ومن جانب هذه الوسائل، يعتبر تسيير إمكانيات اللجوء إلى اللجان النيابية لتقصي الحقائق، طبقا للفصل 67 من الدستور، وسيلة أكثر قوة من شأنها تمكين البرلمانيين من تجميع المعطيات حول المجالات القطاعية؛ الأمر الذي يعتبر تمهيدا للقيام بوظيفتهم المنصوص عليها في الدستور والتي تخول لهم بشكل حصري، في إطار انتمائهم للسلطة التشريعية، تقييم السياسات العمومية. 5- وزيادة على هذه الوسائل والآليات الذاتية التي مكنها الدستور للبرلمان في تقييم السياسات العمومية والقطاعية، نص الدستور الجديد كذلك على آلية أخرى تتمثل في إمكانية لجوء البرلمان إلى آلية التعاون مع المجلس الأعلى للحسابات؛ إذ نصت الفقرة الأولى من الفصل 148 منه على ما يلي : « يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة؛ ويجيب عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة». وفي نفس الإطار، نصت الفقرة الأخيرة من ذات الفصل على ما يلي : « يقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة». وانطلاقا من هذه المقتضيات الدستورية، يتضح أن المشرع الدستوري أوجد أشكالا للتعاون في التفاعلات التي تكون بين السلطة التشريعية وبين المجلس الأعلى للحسابات باعتباره الهيئة العليا لمراقبة المالية العليا بالمملكة المتمتعة بالاستقلالية عن كافة السلطات والهيئات الأخرى. وتعتبر أشكالا التعاون بين المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان وسيلة أخرى تضمن لهذا الأخير عدة إمكانيات تؤهله للقيام بوظائفه في التشريع والمراقبة والتقييم على مستوى تدبير وتنفيذ الحكومة للسياسات العمومية؛ غير أن هذه الأشكال يتعين في أجرأتها التقيد بالحدود المرسومة في الدستور وذلك تفاديا لمساس استقلاليتهما اتجاه بعضهما البعض، الأمر الذي يثير التساؤل حول نطاق هذه الحدود في الممارسة العملية؟ المحور الأول : الحدود الدستورية لأشكال التعاون 6- يتضح من خلال المقتضيات الدستورية المنصوص عليها في الفصل 148 من الدستور المشار إليها أعلاه، أن المشرع الدستوري حدد على سبيل الحصر أشكال التعاون بين البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات فيما يلي : * تقديم المساعدة فيما يخص مجالات مراقبة المالية العامة؛ * الإجابة عن الأسئلة والاستشارات المتعلقة بوظائف البرلمان في مجال التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة؛ * تقديم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان يكون متبوعا بمناقشة. ومن تم، فإن البرلمان كلما ارتئ الاستعانة بالمجلس الأعلى للحسابات يتعين عليه عدم الخروج عن هذه الأشكال وذلك تفاديا لكل انتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات وأيضا درءا لكل مساس باستقلالية المجلس الأعلى للحسابات، أو حتى باستقلالية البرلمان. وفي هذا الإطار، فعلى مستوى وظيفة البرلمان في تقييم السياسات العمومية وفقا لما ينص عليه الفصل 70 من الدستور، فإنه يتعين أن يكون شكل التعاون محددا في طلب أجوبة عن أسئلة واستشارات يوجهها البرلمان للمجلس الأعلى للحسابات، لا أن يطلب البرلمان من هذا الأخير القيام بوظيفة التقييم اعتبارا لكون هذه الوظيفة مخولة دستوريا للبرلمان وليس لسلطة أو هيئة أخرى. وفي نازلة تقييم منظومة المقاصة، يتضح من خلال تقرير المجلس الأعلى للحسابات أن مجلس النواب قدم طلبا لهذا المجلس يكلفه بواسطته بمهمة تقييم منظومة المقاصة؛ الأمر الذي يجعل من هذا الطلب قد تجاوز الحدود الدستورية لأشكال التعاون والتفاعل بين المؤسستين اعتبارا لكون وظيفة تقييم السياسات العمومية في إي قطاع من القطاعات هي وظيفة منوطة دستوريا للبرلمان والتي لا يجوز له تفويضها لأي هيأة أخرى؛ ومن تم كان على مجلس النواب عوض أن يفوض وظيفته هاته للمجلس الأعلى للحسابات أن يقوم هو بهاته الوظيفة ويقتصر في تفاعله مع هذا المجلس على طلب استشارات وأجوبة عن أسئلة تتعلق بمنظومة المقاصة من الناحية المالية تمهيدا لممارسة وظيفته في تقييم هذه المنظومة. وتبعا لذلك، لا يجوز للمجلس الأعلى للحسابات تقييم منظومة المقاصة من زاوية اعتبارها من السياسات العمومية التي تقع على عاتق الحكومة، نظرا لكون هذا التقييم يعد من وظائف البرلمان وليس من وظائف المجلس الأعلى للحسابات التي تعتبر وظائفه محددة في دستور 2011؛ إذ على مستوى علاقة هذا المجلس بالبرلمان حدد الدستور وظائف هذا المجلس في تقديم الاستشارة والأجوبة عن تساؤلات البرلمان فيما يتعلق بممارسة هذا الأخير لوظيفته المتمثلة في تقييم منظومة المقاصة كسياسة عمومية، لا أن يحل محل مجلس النواب في القيام بهذه الوظيفة.