في المعايير الدولية، منظومة الرقابة والمساءلة على المال العام داخل الدولة تتجسد على شكل مثلث: تتشكل من البرلمان كمؤسسة أساسية في الرقابة والمحاسبة، والبرلمان يشترك مع المجلس الأعلى للحسابات في ذلك الاختصاص. لكن عملية الرقابة و المحاسبة التي ينبغي أن يضطلع بها البرلمان أهم. لكون عمله ذا طابع سياسي، كما أن وظيفة البرلمان التشريعية (إضافة إلى وظيفته الرقابية) تمنحه إمكانات التدخل في أنظمة الرقابة والمحاسبة بشكل يحسن من فعاليتها. ثم هناك المجلس الأعلى للحسابات على يسار المثلث، وعلى يمينه تتواجد الحكومة. أما قلب المثلث فيحتله الرأي العام من خلال الإعلام والمجتمع المدني. وبالتالي فالحكومة ضمن هذا النسق تعمل والبرلمان يراقبها مستعينا بتقارير ومساءلات المجلس الأعلى للحسابات. و أخبرا هناك مؤسسات المساعدة للحكامة الديموقراطية، وهي مؤسسة حقوق الإنسان والوسيط ومقاومة الرشوة وهيئات الضبط والاستشارة كمجالس الاقتصاد والمنافسة والاتصال. هناك عنوانان أساسيان للإصلاح في المغرب. أولا تكريس قيم ومنظومة الرقابة والمساءلة. ثانيا إعادة النظر في بنية السلطة من خلال الإصلاح الدستوري. وقد تمت الإشارة إلى العنوانين ضمن التوجهات الأساسية في الخطاب الملكي ل 9 مارس. المطلوب أن يشار في التعديلات الدستورية المرتقبة إلى الرقابة والمساءلة كمبدأ من المبادئ التأسيسية للمجتمع والدولة، وأن يتم دسترة هذا المبدأ في ديباجة الدستور المقبل. وأقترح أن يتضمن الدستور المقبل فقرتين: الأولى هي التأكيد على أن للمجتمع الحق في أن يطلب من كل من يتسلم سلطة أومهمة عمومية أن يقدم الحساب. بحيث يرتبط أي تعيين لمسؤول أو أي إحداث لمؤسسة عمومية بمعادلة بسيطة: السلطة=المسؤولية، والنقطة الثانية الإشارة إلى أن المال العام مقدس ولا تنتهك حرمته. مع إقرار ضمانة دستورية لحق المواطن في حماية المال العام فديباجة الدستور الكويتي الخالي تتضمن هذا المقتضى. كذلك ينبغي دسترة مبدأ استقلالية المجلس الأعلى للرقابة مع توفير ضمانات دستورية وآليات عملية لضمان ذلك. مع تحديد توقيت نشر التقرير السنوي، ونشر أحكام المجلس القضائية، ومتابعة طرق تنفيذ تلك الأحكام. وإعادة تدقيق طريقة تعيين وإعفاء ومدة انتداب رئيس المجلس في اتجاه تكريس استقلاليته. مع تدعيم شفافية عمل المجلس، حتى يعطي القدوة في تعزيز آليات المساءلة والرقابة في المجتمع. والعمل على استنبات آليات الرقابة والمحاسبة في كل المؤسسات، وضمان حق الولوج إلى المعلومة. و أخيرا أن تقترن دسترة هذه المبادئ بدسترة مبدأين لا معنى للرقابة والمحاسبة بدونهما، وهما الشفافية في الولوج إلى المعلومة وحكم القانون أي المساواة أمام القاعدة القانونية.كما ينبغي أن يخضع المجلس الأعلى للحسابات أيضا للرقابة حتى يطمئن الجميع إلى نتائجه. وهنا يطرح سؤال: من يراقب المراقب؟ لقد أثير في السنوات الأخيرة سؤال مشروع حول المعايير المعتمدة في اختيار الجماعات المحلية التي تتجه إليها لجان المجلس. شفافية المجلس من حيث عمله ومعايير اشتغاله أساسية أيضا كي يبتعد عن شبهة الانحياز لبعض الجهات. فيما يتعلق بالمحيط المؤسساتي للرقابة والمحاسبة، فيجب دسترة إحداث لجنة للرقابة وتقييم السياسات العمومية في البرلمان، مع التنصيص على منح رئاسة اللجنة للمعارضة. كما يجب أن يخضع البرلمان أيضا للرقابة والمحاسبة وتصحيح عدد من الاختلالات التي تعاني منها الإدارة البرلمانية. فيما يتعلق بالحكومة يجب تضمين الدستور بأن تعمد الحكومة إلى مساعدة البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات في كل ما يتعلق بالرقابة. مثلا على الحكومة إحالة الملفات المتعلقة بتنفيذ القانون المالي في الوقت المناسب إلى المجلس. غياب هذه المساعدة يؤدي إلى تأخير المعلومات الخاصة بقانون النصفية. مع التنصيص على تعاون القضاء والمجلس الأعلى للحسابات بشكل متبادل. فالقضاء مثلا يجب أن يحيل الملفات التي تتعلق بالتأديب المالي المتراكمة في المحاكم على المجلس الأعلى. فغياب قرائن الدعوى الجنائية يجب أن لا يمنع من تحويل الملفات إلى قضاء التأديب المالي داخل المجلس للنظر في المخالفات المالية. مع تدعيم العلاقة بين المجلس وهيئة مقاومة الرشوة. وكذلك أقترح أن تمنح لهيئات حماية المال العام ومحاربة الرشوة إمكانيات الإحالة الرسمية للقضايا التي تتضمن المخالفات المالية. مع العمل على تفعيل مؤسسات المساعدة الحكامة الديمقراطية كمؤسسة الوسيط والهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة والهدف بناء منظومة للرقابة والمساءلة تتمتع بالفعالية والمصداقية. أما دور البرلمان، أسجل بارتياح تضمن عدد من مذكرات الأحزاب السياسية الخاصة بالإصلاحات الدستورية توصيات تخص تفعيل الدور الرقابي للمؤسسة التشريعية. وذلك من خلال إحداث لجنة دائمة للرقابة والتقييم. وهنا أقول بأن اللجنة البرلمانية حتى وإن تشكلت فلن تتمكن في وقت قصير من القيام بأدوارها كاملة، إذا لم يتم تزويدها بخبراء وتستفيد من تراكمات المجلس الأعلى للحسابات، الذي يجب أن يؤهل لذلك. المطلوب أن يتم التنسيق بين عمل المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان، فالنظام الحالي الذي يجعل من المجلس غير تابع عضويا للبرلمان جيد، لكن من الضرورة والحاجة الملحة توثيق العلاقات الوظيفية بين الهيئتين. إذ يمكن للبرلمان أن يستشير المجلس في الأمور المتعلقة بالرقابة المالية، كما يمكنه استدعاء رئيس المجلس أو خبراء منه، لتنوير نواب الأمة في بعض القضايا. وأذكر بأن القانون لا يمنع هذا التعاون. بل إن من المعايير الدولية للرقابة على المال العام التي أقرتها مثلا المنظمة الدولية للرقابة والمحاسبة، التشديد على وجوب توثيق الصلة بين الجهاز الأعلى للرقابة والمؤسسة التشريعية. المجلس الأعلى للحسابات لا يمكنه أن يتحول إلى ''دونكشوت'' يحارب طواحين الهواء في غفلة عن تفاعل منظومة الرقابة ككل. كما لا يمكن إغفال دور العامل الثقافي وأخلاقيات النزاهة والشفافية والمساءلة التي يجب أن تسود داخل مؤسسات الدولة. و على رأسها مؤسستا الرقابة والمحاسبة أعني البرلمان والمجلس الأعلى للحسابات اللذين عليهما أن يعطيا القدوة والمثال، وذلك من باب أولى وأحرى. خبير المحاسبة والمراقبة