تثير الرقابة المالية، التي تمارسها مؤسسات مثل المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية والبرلمان، العديد من التساؤلات حول الظروف التي تتم فيها والإكراهات التي تواجهها ودورها في محاربة الاختلالات التي تغذي الفساد. في هذا الحوار مع محمد حركات، الخبير المالي المغربي، والأستاذ بجامعة محمد الخامس السويسي ورئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والحكامة الشاملة، نحاول أن نقارب أداء المؤسسات الرقابية بالمغرب. - كيف تقيم أداء أجهزة الرقابة المالية في المغرب؟ بداية، لا بد أن نشير إلى ملاحظة أساسية تتمثل في أنه لا يوجد ثمة تنسيق كاف بين الأجهزة الرقابية في المغرب، الشيء الذي لا يتيح تقاسم المعرفة الرقابية بين كل الفاعلين. هذا من جهة أخرى، ومن جهة أخرى، نلاحظ غياب أو تغييب البرلمان عن العملية الرقابية، إذ أنه باستثناء لجنة تقصي الحقائق، لا يتوفر البرلمان على آليات من أجل القيام بالمراقبة الضرورية وفق برنامج واضح ومتكامل، مما يدفع إلى القول إن الحكامة البرلمانية هشة وضعيفة، أولا، لأن البرلمان لا يتوفر على لجن للدراسات والاستشارة والخبراء، التي يمكنها أن تقدم له المساعدة، وثانيا، لأن المؤسسة التشريعية لا تعير اهتماما كبيرا للمساءلة المالية والرقابة، التي قد ترى بأنها يمكن أن تمس بعض المصالح داخلها. ويجب نشير إلى أن الأمر لا يتوقف عند غياب التنسيق بين الأجهزة الرقابية، أي المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للجماعات المحلية وبنك المغرب والخزينة العامة للمملكة وبنيات الرقابة في المقاولة وحتى التقارير الدولية في شبكات الإنترنيت، وعدم استغلال بعض التقارير الأخرى مثل تقرير ديوان المظالم، بل يمتد ذلك إلى عدم إشراك الخبراء المغاربة والجامعة المغربية ومراكز البحث والجمعيات والمواطنين ووسائل الإعلام في الوقوف على التجاوزات في مجال الفساد المالي والإداري، الذي تعرفه البلاد، والتي ازدادت خلال السنوات الأخيرة، حسب التصنيفات الدولية، فضلا عن غياب إستراتيجية للرقابة واضحة المعالم قوامها مكافحة الفساد وتقويم السياسات العامة والتعبير عن ضمير المواطنين باعتبار أن الرقابة هي حق من حقوق الإنسان، وفقا للتصريح الفرنسي 1789 ومواثيق الأممالمتحدة خاصة. وهناك مفارقة غريبة، فمثلا مع بدء المحاكم المالية في إصدار تقاريرها السنوية ازداد الفساد في المغرب بوتيرة هندسية، الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل عن أداء ونجاعة ودور أجهزة الرقابة برمتها في مكافحة آفة الفساد البلاد، والدليل على ذلك نجد أن مطالب حركة 20 فبراير الجوهرية تكمن في المطالبة بإسقاط الفساد ورموزه أولا. - يلاحظ أن المجلس الأعلى للحسابات هو الأكثر نشاطا بين المؤسسات الرقابية في الثلاث سنوات الأخيرة.
شيء إيجابي أن يباشر المجلس المهام الموكولة إليه بحكم القانون، ولو أن ذلك جاء متأخرا، غير أنه يلاحظ من خلال قراءة التقارير الأربعة (2006، 2007، 2008 و2009)، التي قدمها المجلس، اتجاهه بالأساس إلى إعطاء الأولوية إلى رقابة التسيير على حساب الرقابة القضائية، والواقع أننا في كليات الحقوق ندرس المالية العامة نظريا في غياب اجتهادات في مجال القضاء المالي، حيث إن المغرب اليوم يتوفر حقيقة على اجتهادات قضائية في المجال الإداري والتجاري والجنائي والمدني والشرعي، ولكنه لم يراكم بعد اجتهادات قضائية في مجال مراقبة المال العام، فعلى سبيل المثال نجد أن تقرير المجلس برسم عام 2009 لا يخصص إلا صفحتين ونصف من مجموع 1102 صفحة للأنشطة المتعلقة بالرقابة القضائية للمجلس ولا تخصص المجالس الجهوية إلا خمس صفحات ضمن أنشطتها الرقابية العامة، والمغرب يفتقر إلى هذه الأحكام التي قد تنير الطريق أمام الآمر بالصرف والمحاسب. كما نلاحظ أن الأحكام القضائية المتوفرة وغير المنشورة لا ترقى إلى المستوى المطلوب ولا يمكن اعتمادها في تأويل الممارسة المالية والميزانية، التي هي معقدة جدا، وتحتاج إلى تعميق ودراية فقهية من أجل اعتمادها قضائيا ومذهبيا في مقاربة قضايا الحكامة المالية، سواء على المستوى الوطني والجهوي أو الدولي لضعف سندها. وربما هذا راجع إلى تشكيلة المجلس، إذ استناد إلى إحصائيات هذا المجلس نلاحظ غلبة أطر الهندسة والاقتصاد، التي تتحمل مهاما قضائية في التوظيف، على حملة شهادات الدراسات الحقوقية والمحاكم المالية، كما يدل على ذلك اسمها، وهي مطالبة بدعم قدراتها كذلك في أعمال الرقابة القضائية للنهوض بالاختصاصات القضائية الضعيفة في أعمال المجلس، ومشروعيتها تتمثل في دعم هذا الجانب. ويجب الإشارة هنا إلى أن مراقبة التسيير هي مراقبة إدارية وليست مراقبة قضائية، رغم أنها تمارس من قبل المحاكم المالية. لهذا نحن ندرس المالية العمومية في الجامعات المغربية من الناحية النظرية فقط ولا نعثر على الاجتهادات القضائية في المستوى المطلوب، ورغم إيجابية توظيف الأطر التقنية (المهندسين)، فإن المحاكم المالية في حاجة إلى قضاة أحكام لأن عمل المجلس ينبغي أن يتسع لإصدار أحكام قضائية ذات حمولة فقهية كبرى . ومن جهة أخرى، نسجل أن المجلس الأعلى للحسابات لا يمارس تقييم السياسات والبرامج العامة، التي هي اختيارية وليست إجبارية، كما جاء في النص المنظم للمحاكم المالية، فالمشرّع ينص أنه «يمكن» ولا «يجب» في المادة 75 بالنسبة للمجلس والمادة 147 بالنسبة للمجالس الجهوية للحسابات. كما ينبغي الإشارة كذلك إلى أن المجلس لا يصدر تقارير دورية موضوعية نقدية حول قطاعات استراتيجية معينة تشغل بال المواطنين كالتفاوت في الأجور وكلفة المهام إلى الخارج والخوصصة وتفويت الملكية بأثمان رمزية والتهرب الضريبي... الخ. - يبدو أن عمل لجان تقصي الحقائق البرلمانية يترك صدى كبيرا في الساحة العمومية، لكن اللجوء إلى تلك اللجان نادر في المغرب.. بطبيعة الحال يجب الاعتراف بأن البرلمان قام ببعض المبادرات عبر لجان تقصي الحقائق، التي أنجزت تقارير حول القرض العقاري والسياحي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، لكن على مستوى الرقابة المالية فقط، ويجب أن يبذل مجهودا كبيرا في تقويم السياسات العمومية و المشاريع، فالأجهزة الرقابية لا تمارس تقويم المشاريع والسياسات العمومية، بل تكتفي على هذا المستوى بإبداء بعض الملاحظات الخفيفة، من حين لآخر. والواقع لا توجد استراتيحية واضحة للرقابة وتقويم الحكامة للبلاد من أجل توجيه المغرب نحو مجتمع المعرفة والإبداع والتقدم الاجتماعي والإنساني، وهناك علاقة وطيدة بين رداءة الحكامة والفساد ينبغي أن تساهم كل أجهزة الرقابة كل حسب موقعه في إبرازها وتقديم الاقتراحات الإيجابية لتجاوز الرداءة وتأسيس لمغرب القرن الواحد والعشرين - يبدو أن ضعف الرقابة البعدية راجع إلى أن المراقبة مزعجة في بلد مثل المغرب، ويمكن أن تمس ببعض المصالح المحمية. هناك إكراهات كثيرة، سوسيولوجية وسياسية، تواجه تفعيل الرقابة وينبغي الاعتراف بها، على اعتبار أن الرقابة قد تمس بمصالح الطبقات الغنية والمدبرة للمال العام، وعندما تبدأ الرقابة لابد أن تفصح عن هويات أشخاص معنيين بها، وربما تحرك في حقهم المتابعة، وهم يتحاشون اتساع مجال ثقافة الرقابة التي نفتقر إليها في المغرب. ويجب أن نشير هنا إلى إكراهات أخرى تتمثل في عدم كفاية عدد الموارد البشرية، التي تتوفر عليها الأجهزة الرقابية في المغرب، والتي لا يمكنها أن تحيط بكل مناطق الاختلالات التي تشوب تدبير المال العام، زيادة على ذلك، نلاحظ أن التخصصات والدراسات العلمية والجامعية حول المالية العامة تكون فيها الرقابة المالية نسبيا ضعيفة جدا. - هناك بعض التقارير التي تصدر مثل تلك التي تأتي من المجلس الأعلى للحسابات، لكن لدينا انطباع بأنه ما دام الأشخاص لا يحاسبون، فإن تلك التقارير تفقد جاذبيها وجدواها. المثل الشعبي يقول في المغرب: «كبرها تصغار»، وهذا مثل له دلالة عميقة، بمعنى أنه عندما تتصرف بدون وجه حق في المال العام لا تحاكم وعندما تسرق مبلغا بسيطا عادة ما تحاكم. هذا يعني أن الثقافة السائدة تحاكم على الأخطاء الصغرى وتتغاضي عن الأخطاء الكبرى. ونحن نلاحظ أن الأشخاص، الذين أثيرت مسؤوليتهم في التقرير، الذي أنجز حول القرض العقاري والسياحي، لم يحاكموا، وأنا أتصور أن الرقابة التي تنجح هي تلك التي تتناول المسائل الهامة جدا، مثل الأجور العالية والتهرب الضريبي والتنقلات والمهمات بالخارج... هذه أمور مغيبة في التقارير، فمن السهل أن تقف على مخالفات على مستوى التدبير العمومي المحلي، الذي يستغرق وقتا كبيرا من مجلس الحسابات، لكن يجب وضع إستراتيجية رقابية كبرى للأموال التي تبذر أو تختلس أو التي لا تطالها الرقابة، ويفترض الاهتمام على هذا المستوى بالصفقات الكبرى والرشوة الكبرى والاختلاسات الكبرى. نحن لا نؤيد الفساد الصغير، لكن لا بد من وضع إستراتيجية لمراقبة الفساد الكبير، ويجب التركيز على القطاعات والعمليات الاستراتيجية. - كيف تقيم عمل المفتشية العامة للمالية التي تنجز تقارير، لكن لا أحد يعرف مآلها؟ القانون لا يجيز للمفتشية العامة للمالية نشر التقارير التي تنجزها، رغم اختصاصاتها العمودية والأفقية، فهي مختصة في رقابة مصالح الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية .. ووزير المالية هو الذي يحرك ذلك الجهاز، الذي يعتبر تابعا للوزارة، التي لا يمكنها أن تراقبه عمليا، وهناك مشكل يطرح بالنسبة لهاته المؤسسة على مستوى حيادها، في الوقت ذاته هي تعاني من ضعف عدد المفتشين العاملين بها، و كان يتوجب أن تكون تلك المؤسسة تابعة للوزير الأول، ففي بعض الأحيان يمكن لوزير المالية أن لا يراقب المؤسسات، التي يوجد على رأسها أشخاص من نفس الحزب الذي ينتمي إليه. - ما هي في تصورك تكاليف عدم التنسيق بين الأجهزة الرقابية؟ ينجم عن ذلك إهدار للجهد والمال، على اعتبار أن كل جهاز يراقب قطاعا دون أن يعلم الجهاز الآخر بذلك، حيث لا تتبادل الأجهزة المعلومات حول الهفوات والاختلالات التي يتم اكتشافها، مما يعني أن وجود التنسيق يمكن أن يوجه الجهود نحو الأولويات. وغياب التنسيق ناجم عن كون كل قطاع رقابي يرى في نفسه الأكثر أهلية و جدارة للقيام بالمهام الرقابية. وهاته مسألة ثقافية لدينا، تقوم على إقصاء الآخر، وهذا التنافر له العديد من التداعيات، أهمها هدر المال العام. - أنت من الذين يقولون إنه يجب ملاءمة الرقابة مع المعطيات السوسيو اقتصادية في المغرب، في الوقت الذي يعتقد فيه أن ثمة معايير دولية على هذا المستوى يفترض أن يسترشد بها الجميع. ما هي الاعتبارات التي تبني عليها رأيك هذا؟ الرقابة المالية في المغرب تقتصر على الجوانب التدبيرية بالاستناد في غالب الأحيان على الوثائق المحاسبية، ولا يمكن لمن يمارس الرقابة المالية، بالنظر للقانون، أن يمد فضوله إلى ما يمكن أن يشوب، في بعض الأحيان، الصفقات من ممارسات لها علاقة بالرشوة، كما لا يمكن لمن يتولى الرقابة أن يتتبع عمليات تهريب الأموال، علما أن المعايير الدولية تفرض مراقبة مثل هاته العمليات على اعتبار أن الأمر يهم الأموال العامة التي تغذي حسابات بعض الأشخاص، وهذا ما يغذي الفساد الذي ما فتئت مساحته تتسع في المغرب. - كيف يمكن أن نتوفر على رقابة على الطريقة التي تتحدث عنها، دون الحق في المعلومة؟ الموظف محكوم بالسر المهني، حيث يحظر عليه تزويدك بالمعلومة، التي تسعى إليها. هذا إكراه بنيوي. لكن إذا كانت ثمة مؤسسة تتوفر على استراتيجية في مجال الرقابة فيمكن أن تتجاوز هذا العائق، ذلك أن المؤسسات الرقابية لا تشتغل كما يجب، بسبب ضعف الإمكانيات وغياب رؤية واضحة و ضعف أو الافتقار لإرادة قوية للمراقبة. وفي غالب الأحيان توضع التقارير لأهداف استهلاكية (تخفيف الاحتقان الشعبي) من أجل الإقناع بأن ثمة رقابة تمارس، وقد يكون البحث والتحقيق في بعض الأحيان مقتصرا على فئة دنيا من المسؤولين ويتم استثناء المسؤولين الكبار. يجب أن أشدد على أن المسألة لا تتعلق، في نهاية التحليل، بالرقابة، بل بمدى وجود الرجل المناسب في المكان المناسب.ففي غالب الأحيان تتحكم الزبونية في منح بعض المناصب بدل الرجوع إلى معايير الاستحقاق والكفاءة. وهذا العنصر مهم جدا في تفسير التجاء الأشخاص الذين لم ينصفوا إلى الجنوح نحو الفساد. كما أن تطبيق آليات موضوعية في تداول السلطة والمناصب والترقية الاجتماعية من شانها أن تحصن المال العام من الضياع والفساد بحكم المنافسة الشريفة التي تنتجها ميكانيكيا بين مختلف الفاعلين في حماية المال العام وصيانته والغيرة عليه. - في ظل الإصلاحات الدستورية المرتقبة ما هي المكانة التي يفترض أن تتبوأها الرقابة المالية؟ يجب أن نتوفر على استراتيجية للمجال الرقابي والعمل على توجيه الأجهزة الرقابية نحو تنسيق تدخلاتها، في الوقت ذاته يفترض وضع بعض الآليات التي تتيح السيطرة على بعض المخاطر الكبرى، فالصفقات العمومية التي تمثل 17 في المائة من الناتج الداخلي الخام، يجب إحاطتها بجميع الضمانات القانونية، التي تؤمن عدم انزياح المكلفين بها عن القواعد التي تنظمها، ونحن نرى أن بلدا من جنوب إفريقيا حرص على النص على الصفقات العمومية في الدستور. ويجب التنصيص على الرقابة كحق من حقوق الإنسان .كما ينبغي توسيع اختصاصات أجهزة الرقابة لمراقبة وتقويم تجليات الفساد وآثاره في تعطيل مسلسل التنمية الإنسانية الشاملة.