يتطلب تفعيل دور الرقابة العليا على المال العام في تدعيم الشفافية والمساءلة إعادة النظر في موقع ومكانة وأداء الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة وفي علاقاتها بمحيطها القريب والبعيد . ولئن كان من الواجب والمصلحة أن تعمل الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة نفسها باستمرار بالتوافق والتعاون مع (أصحاب الشأن) على تدعيم استقلاليتها وفعاليتها ومصداقيتها ، كي تنخرط بشكل مضمون ومأمون في ترسيخ الشفافية والمساءلة في محيطها، فإنه ليس من المعقول والمقبول أن تتحول إلى سلطات طاغية قد تكون هي أولى ضحاياها ، ولا إلى (معامل لطبع الأوراق) أو هيئات ديكورية مهمشة ضررها المادي والمعنوي أكثر من نفعها العملي، ولذلك من المنطقي والطبيعي أن تعطي الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة القدوة والمثال في تبني معايير الاستقلالية والفعالية والشفافية والمساءلة، كي تعزز من جدوى و مصداقية السعي نحو ترسيخ دورها وموقعها في مشهد الحكامة العمومية . فما هي يا ترى الشروط والمتطلبات الذاتية لاستقلالية وفعالية وشفافية ومسؤولية الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة ؟، ذلك ما سنحاول الإجابة عنه من خلال أولا: مستلزمات استقلال وفعالية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسب، وثانيا : مستلزمات شفافية ومسؤولية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أولا: مستلزمات استقلال وفعالية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة: أولى هذه المستلزمات هي الاستقلالية التي لا يمكن تصورها عمليا في غياب الفعالية والمصداقية التي تتطلب الالتزام بالمعايير العامة للتدقيق والمراقبة، وعلى رأسها المؤهلات المهنية، والعناية المهنية، ثم العمل الحثيث على التطبيق الأمين والصحيح والتام للمعايير المتعارف عليها دوليا فيما يتعلق باستقلال وفعالية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة. المعايير العامة للتدقيق: في هذا الصدد تشير أدبيات معايير التدقيق إلى ثلاثة معايير عامة، أي مشتركة بين الجهاز والمدقق أو المراقب وهي: - المؤهلات - تجنب موانع الاستقلال - الحرص المهني وسنستعرضها تباعا: المؤهلات: يتمثل المعيار العام الأول للرقابة المالية العليا المتعلقة بالقطاع العام، أو الحكومي فيما يلي: يجب أن يمتلك المراقبون أو المدققون المكلفون بإجراء الرقابة مستوى مرضيا من الكفاءة المهنية لإنجاز المهام المطلوبة. وينيط هذا المعيار بالجهاز الأعلى للرقابة، وبالمراقب على حد سواء (معيار مشترك) مسؤولية ضمان إجراء الرقابة المالية من قبل أشخاص لهم الخبرة الضرورية لإجراء نوع الرقابة المالية المزمع إنجازها. وبالنسبة للذين يمتلكون الخبرة الضرورية في مجال معين غير مجال الرقابة والمحاسبة فلا مناص من تلقي تدريب في الرقابة والمحاسبة ويشمل هذا التدريب الشكل الرسمي للتدريب في قاعات الدرس، وشكل التدريب أثناء العمل. وتختلف الرقابات المالية من حيث الأغراض والنطاق وتقسم عموما إلى قسمين كبيرين: رقابة المشروعية ورقابة الفعالية، ولفحص الجوانب القانونية والجوانب المالية والاقتصادية والإدارية.. يتعين توفر أنواع شتى من الخبرات. . وينبغي أن تنطبق معايير المؤهلات المذكورة على خبرات الجهاز الأعلى للرقابة ككل وليس بالضرورة على المراقبين بصفتهم الفردية. وإذا كان للجهاز الأعلى للرقابة خبراء أكفاء، أو إذا استأجر مستشارين من خارجه ممن يتمتعون بدرجة مقبولة من الخبرة في مجالات مثل المحاسبة والقانون والإحصائيات والإعلاميات والهندسة... فليس من الضروري أن يمتلك كل مراقب على حدة جميع هذه الخبرات. وتتمثل المؤهلات المطلوبة من المراقبين فيما يلي: - الإلمام بنظريات وإجراءات المحاسبة والرقابة المالية وامتلاك المستوى التعليمي والقدرة والتجربة الكافية لتطبيق مثل هذه المعرفة على نوع الرقابة المالية المعنية بالإنجاز؛ - الدراية بالهيئات والبرامج والنشاطات والمهام الحكومية، ويمكن اكتسابها بالتعليم أو بالدراسة أو بالتجربة. . وإن المراقبين وأجهزة الرقابة المالية مسؤولون عن المحافظة على مستوى الكفاءة الفنية بواسطة التأهيل والتدريب المستمرين. تجنب موانع الاستقلال: (1 - الموانع الشخصية : - العلاقات الشخصية، أو المالية، أو المصلحية بين الجهاز، أو أعضائه والجهاز الخاضع للمراقبة. - الأحكام الجاهزة والأفكار المسبقة إزاء موضوع المراقبة سواء كان هذا الموضوع شخصا ،أو أشخاصا معينين، أو مجموعة، أو جهازا، أو برنامجا أو مشروعا ما. - المشاركة السابقة في صنع القرارات، أو في وظيفة إشراف إداري داخل الجهاز 0 الخاضع للمراقبة: - وجود تواطؤ مسبق سياسي، أو جمعوي، أو عصبوي، أو كل ما له علاقة بالعقائد والقناعات الشخصية أو الفلسفية أو الدينية أو الطائفية.... 2 - الموانع الخارجية: -التبعية أو التدخل في تعيين العمالة الفنية ) المراقبين أو المدققين). -تعقيد أو تقييد تصرف الجهاز الأعلى للرقابة في موارده المادية والمالية. -التأثير على محتويات التقرير الرقابي أو موضوع المراقبة أو مواقف وأحكام المراقبين. -عدم استقرار المراقب في وظيفته وقابليته للعزل والنقل لأسباب لا علاقة لها بالكفاءة أو بالحاجة إلى خدمات الرقابة المالية. 3 - الموانع التنظيمية: في هذا المستوى من المسلم به أن الجهاز الأعلى للرقابة المالية والمحاسبة لا تنطبق عليه هذه الموانع ما دام يتوفر على صفة الجهاز القضائي، أو المراقب الخارجي المستقل تنظيميا عن الإدارة الحكومية, ولكن هذا لا يعني أن الجهاز الأعلى للرقابة يعتبر كامل الاستقلالية بالنتيجة, إلا إذا تحرر من العراقيل والموانع الشخصية والخارجية السالفة الذكر. الحرص المهني: ينيط هذا المعيار بالمراقب وبالأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة مسؤولية استخدام معايير مهنية عند إجراء الرقابة على هيئات وبرامج ونشاطات القطاع العام. ولا يعني هذا المعيار افتراض مسؤولية غير محدودة عن الكشف على المخالفات أو أوجه عدم المطابقة، كما لا يعني افتراض العصمة في هيئات الرقابة المالية أو في المراقب بصفته الفردية، غير أن هذا المعيار يقتضي فعلا أداء مهنيا على مستوى من الجودة يناسب المهمة الرقابية التي اضطلع بها المراقب. ويقتضي هذا المعيار أن يتحلى المراقب باليقظة إزاء الحالات أو العمليات التي يمكن أن تدل على الغش أو إساءة الاستعمال أو النفقات أو الأعمال غير القانونية أو أوجه عدم الكفاءة أو عدم الفعالية، غير أن هذا المعيار لا يقتضي من المراقب تقديم التأكيد المطلق على عدم وجود أية ممارسات غير سليمة، كما لا يقتضي إجراء الرقابة المالية المفصلة على جميع العمليات. وتعني ممارسة الحرص المهني الضروري التحلي بنفاذ الرأي في اختيار الاختبارات والإجراءات وفي إعداد التقارير وذلك من خلال مراعاة حد أدنى من الأمور الضرورية لتحقيق أهداف الرقابة: - الأهمية النسبية للمجالات التي ستطبق عليها إجراءات الاختبار. - فعالية الرقابات الداخلية. - ضبط تكاليف وفوائد العمل الرقابي الذي هو تحت الإنجاز. ويشمل توخي الحرص المهني الضروري متابعة الاستنتاجات الصادرة عن رقابات مالية سابقة لتحديد ما إذا تم اتخاذ إجراءات تصحيحية مناسبة... المعايير الدولية لاستقلال وفعالية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة: تتمثل هذه المعايير في العناصر التالية: - وجود إطار دستوري وقانوني مناسبين وفعالين ومقتضيات التطبيق الفعلي لعناصر ذلك الإطار. - استقلال رئيس الجهاز وأعضائه - فيما يتعلق بالأجهزة ذات البنية الجماعية - وكذا عدم قابلية العزل والنقل. - سلطات وصلاحيات واسعة بالقدر الكافي وحرية كاملة في القيام بالوظيفة . - حق النفاذ أو الولوج إلى المعلومات. - الحق والواجب في نشر نتائج أعمالها. - حرية القرار في تحديد المضمون والجدول الزمني والعملاني لتقارير الرقابة ونشرها. - وجود آليات مناسبة لتتبع توصياتها. - الاستقلال المالي والإداري وفي مجال التسيير الداخلي والتوفر على الموارد البشرية والمادية والمالية المناسبة. ثانيا: مستلزمات شفافية ومسؤولية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة: لكي يصبح الجهاز الأعلى للرقابة والمحاسبة ذا دور فاعل في تعزيز الشفافية والمساءلة فعليه أن يبدأ من نفسه من خلال التزام المعايير والمبادئ والأهداف ذات العلاقة بالشفافية والمساءلة، فيما يخص إطاره المؤسساتي، والقانوني، وأنشطته، ومخرجاته. الإطار النظري والمعياري: يتجلى هذا الإطار في المعايير والمبادئ المتعلقة بموقع الجهاز ورسالته وأدائه لوظائفه وجودة معلوماته ومدى تحمله لمسؤولياته أمام (أصحاب الشأن) والجمهور. المعايير والمبادئ : - 1 ) المعايير : تنصرف هذه المعايير إلى مساهمة الإطار القانوني وأسس وضع التقارير، والبنية التنظيمية والتوجه الإستراتيجي ومساطر وإجراءات وأعمال الجهاز في تأمين: -أن يستجيب الجهاز للمقتضيات القانونية الضامنة لرسالة الجهاز ومهامه ولاسيما التقارير المطلوبة منه. -أن يقيم الجهاز ويتابع تنفيذ متطلبات الأداء الخاصة به وكذا الآثار المرتقبة لعملية التدقيق. -أن ينجز الجهاز تقارير حول مراقبة النظامية والفعالية في مجال استعمال الموارد العمومية بما فيها أعماله وإنجازاته وموارده المالية. -أن يكون رئيس الجهاز وأعضاؤه مسؤولين عن أعمالهم. -2 المبادئ: يتعلق الأمر بتسعة مبادئ : - المبدأ الأول : يؤدي الجهاز مهامه في إطار أسس قانونية تنص على المساءلة والشفافية. - المبدأ الثاني: ينشر الجهاز على العموم رسالته ومسؤولياته ومهامه وإستراتيجيته. - المبدأ الثالث: يتبنى الجهاز معايير للتدقيق وإجراءات ومناهج تضمن الموضوعية والشفافية. - المبدأ الرابع: يعمل الجهاز على تطبيق المعايير العليا للنزاهة وأخلاقيات المهنة على مستوى موظفيه وأعضائه على كافة المستويات. - المبدأ الخامس: يؤمن الجهاز أن لا تؤدي الإستعانة بخبراء خارجيين إلى تهديد مبادئ المساءلة والشفافية. - المبدأ السادس: يؤدي الجهاز عملياته بطريقة تحترم مبادئ الاقتصاد والفعالية والنجاعة، وذلك طبقا للقوانين والأنظمة، وينشر على العموم كل ما يتعلق بهذه الشؤون. - المبدأ السابع : ينشر الجهاز على العموم نتائج التدقيق وملاحظاته واستنتاجاته بخصوص جميع أوجه النشاط الحكومي. - المبدأ الثامن: يعمل الجهاز على الإبلاغ عن نشاطاته ونتائج التدقيق في الوقت المناسب وعلى نطاق واسع وذلك من خلال الإعلام والمواقع الإلكترونية ووسائل أخرى. - المبدأ التاسع: يستعين الجهاز بالاستشارة الخارجية المستقلة من أجل تدعيم جودة ومصداقية أعماله. التقارير و المعلومات : 1 - أهداف التقارير: تخدم التقارير مبدئي الشفافية والمساءلة إذا كانت مفهومة ونافعة وتعالج أهم القضايا والقطاعات في الدولة، وفيما يلي الأهداف الأساسية التي ينبغي لتقارير الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة أن تتوصل إليها في نطاق منظومة الشفافية والمساءلة . - الهدف الأول: ينبغي للتقارير أن تقدم لأصحاب المصلحة جميع المعلومات التي هم في حاجة لها إلى حدود واقعية. - الهدف الثاني: يجب أن تساعد التقارير أصحاب المصلحة على إدراك حجم القطاع الحكومي، وطبيعة ونطاق نشاطاته، وكذا وضعيته المالية. - الهدف الثالث: ينبغي للتقارير المالية أن تساعد على فهم كيفية تمويل الحكومة لنشاطاتها. - الهدف الرابع: ينبغي للتقارير المالية أن تساعد على فهم آثار النشاطات الحكومية. - الهدف الخامس : يجب على التقارير أن توضح هل نفذت الحكومة تعهداتها وما هي كلفة نشاطاتها. -2 معايير جودة المعلومات أما معايير الجودة التي ينبغي للمعلومات الواردة في التقارير أن تتحلى بها فيمكن إجمالها في الخصائص التالية: - مفهومة : ينبغي أن تكون المعلومات مفهومة قبل أن يمكن استعمالها، أي أن تقدم المعلومات بصورة واضحة وبسيطة... - مناسبة: أي أن تساعد المعلومات أصحاب الشأن في أداء نشاطاتهم، وعلى معدي التقارير أن يدركوا حاجيات أصحاب المصلحة من أجل الاستجابة لها بما فيها توقيت نشر التقارير. - موثوقة: أن تترجم بالفعل وبأمانة ما تدعي أنها تقدمه من معلومات، أن تكون دقيقة، وخالية من الثغرات، ومتكاملة، وقابلة للتحقق من صحتها... - مؤثرة فعليا: تكون المعلومات مؤثرة فعليا وبدرجة معقولة عندما تؤثر على أنشطة المخاطبين بها، ويتعلق موضوع التأثير الفعلي بمسألة التقدير أو الحكم الشخصي، هل يهم التأثير موضوع التقرير، أنشطة الأطراف المعنية، وحجم المعلومات، أم طبيعة الوحدة محل التدقيق...؟؟؟. - التوقيت المناسب: ينبغي للتقارير أن تنشر في وقت مناسب أي مبكرا بقدر الإمكان مباشرة بعد حدوث الوقائع موضوع التقارير، على أن تكون المعلومات واقعية، حيث لا يؤثر التوقيت المبكر على جودة وواقعية المعلومات... - ذات منهجية مستقرة: لكي تكون مفهومة ويسهل استيعابها وإدراكها ينبغي للتقارير أن تتبنى نفس المعايير المحاسبية بقدر الإمكان، إن استقرار المعايير والمناهج يسهل عملية التحليل والمقارنة بين المعلومات والتقارير. - قابلة للمقارنة: تكون المعلومات قابلة للمقارنة عندما يتمكن مستعملوها من تحديد أوجه التشابه والاختلاف، سواء فيما بين هيئتين أو أكثر من الهيئات الخاضعة للرقابة، وينبغي أن يتم تفسير وتوضيح أي تغير أو تعديل في مناهج التقديم ومعايير المحاسبة لكي تسهل عملية المقارنة؛ كما في حالة الاستقرار المنهجي أعلاه. وخلاصة القول أنه سيكون دور الجهاز الأعلى للرقابة والمحاسبة فعالا في تعزيز الشفافية والمساءلة في محيطه الإداري والسياسي والاقتصادي بقدر تشبعه النظري بهذه المعايير والمبادئ والأهداف وتمثله إياها في حدود قدرته الذاتية وصلاحياته القانونية وبقدر توفر بيئة مؤسساتية وثقافية مساعدة. هذا عن الناحية النظرية والمعيارية فماذا عن الجوانب والتجليات التطبيقية ؟ ذلك ما سنتناوله في عدد لاحق.