العمل السياسي والحزبي في التجارب المقارنة ينبني على الاعتراف بمساوئ السياسة عامة والانتخابات خاصة؛ ذلك أن منطق الدوام في تصدر الحياة السياسية لا يستقيم في ظل طموح وجموع الفاعل السياسي المنتخب وطمعه في الوصول إلى السلطة، ما دام هو الغرض والهدف من إنشاء الحزب . سياق هذا الكلام هو محاولة إسقاطه على الواقع المغربي بعد مرور مسلسل انتخابي جديد لسنة 2021، جمع كل أصناف الانتخابات ذات الصلة بالفاعلين السياسيين، خاصة على مستوى انتخاب أعضاء مجلس النواب (الغرفة الأولى من البرلمان) وأعضاء مجالس الجهات، تمخض عنه بروز خريطة سياسية جديدة بملامح قديمة، نهلت في اعتقادنا من فارقين اثنين: الأول: سقوط وتدحرج حزب العدالة والتنمية، زعيم الأغلبية الحكومية المنتهية ولايتها، بعدما قاد المشهد الحزبي والسياسي المغربي لما يزيد عن ولايتين حكوميتين، في مشهد سوريالي فاجأ كل المتتبعين والمحللين، إذ لم يتوقع أكثر المتشائمين من أنصار هذا الحزب ومنافسيه النتائج المحصل عليها (13 مقعدا)، مع العلم على أن "البيجيدي" حصل في بداية ولايته هاته على ما يزيد عن 125 مقعدا؛ وهو ما عبر عن واقع جديد لخريطة سياسية جديدة في ملامحها تصدر المشهد السياسي من قبل حليفه في الأغلبية الحكومية حزب التجمع الوطني للأحرار، مما يقودنا إلى استخلاص بعض الملاحظات التالية: أن سقوط الحزب الأغلبي، قائد الحكومة، وتفوق حليفه في الأغلبية نفسها وهيمنته على الخريطة السياسية والحزبية الجديدة إنما يعكس مزاجا سياسيا غريبا يصعب التكهن بأسبابه حاليا بالنسبة إلى الناخب المغربي، إذ يصعب على الباحث والمحلل لسوسيولوجيا الانتخابات الجزم في دوافعه ومسبباته ما دام أن نتائجه ومخلفاته لا يمكن الحسم في ربطها بمحاسبة سياسية لأداء الحكومة، لا سيما أن الذي تصدر هذه الانتخابات (حزب التجمع الوطني للأحرار) شكل عنصرا أساسيا في هذه الحكومة من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية لا يستقيم قياس نتائج الحزب الفائز نفسه بقدرته على تأطير المواطنين والمواطنات ما دام أنه حزب لم يكن يوجد على رأس المعارضة، حتى يتسنى له الوقت الكافي لذلك، على غرار حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاستقلال مثلا. كما لا يمكن، من ناحية ثالثة، التأكيد على أن الأمر في مجمله مرتبط بالسياق الإقليمي العالمي لمجابهة تنظيم الإسلام السياسي، خاصة أن المغرب له مقاربته الخاصة في تدجين وتأطير سلوك الحزب ذي المرجعية الإسلامية، لا سيما أنه شكل في لحظة من اللحظات عنصرا مساهما في استقرار الدولة إبان أحداث الربيع العربي؛ أن النتائج المحصل عليها من قبل حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب العدالة والتنمية لم تكن موضع اختبار لمدى قدرة وفعالية الحزبين معا في تدبير الشأن العام، خاصة أنهما معا مسؤولان عن تجربتين سياسيتين لهما وعليهما، عاش خلالها المغرب واقعا ومخاضا حقوقيا واجتماعيا كبيرا مس في مجمله صورة البلد الحقوقية؛ وهو ما يفرض تسجيل مسؤوليتهما معا عن مخلفاته ونتائجه، لا سيما أنهما الحزبان القويان على مستوى الأغلبية الحكومية السابقة.. وبالتالي، فالجزم في الاعتقاد بارتباط هذا الوضع السياسي والحقوقي لهذه الولاية الحكومية بالنتائج المحصل عليها انتخابيا لا يستقيم، ما دام أن أحدهما تدحرج إلى درجة العدم (حزب "المصباح") والثاني حلق إلى حد الهيمنة (حزب الحمامة)؛ أن العقاب الشعبي لحزب قاد الحكومة، في مقابل تزكيته لحزب قوي أيضا في هذه الحكومة، يعبر عن حالة سياسية سوسيولوجية مغربية فريدة، عوقب من خلالها رأس الحكومة (حزب العدالة والتنمية ب13 مقعدا) وحمل على الاكتاف فيها مسانده بل العنصر المهم في تشكيلة هذه الحكومة (حزب التجمع الوطني للأحرار ب102 مقعد)..!! إنه، بالفعل، وضع جديد يحتاج إلى مقاربات علمية جديدة في علم السياسة لتحليله وقياسه بل وحتى تنميطه على التجربة المغربية. أما الفارق الثاني: فهو ما بعد تحقيقه النتائج الانتخابية لحزب التجمع الوطني للأحرار، ودخوله إلى مسار تشكيل الحكومة المغربية الجديدة وباقي مجالس الوحدات الترابية خاصة منها الجهات، إذ إن المنطق الانتخابي لما بعد ظهور النتائج يجب أن يركز في جوانبه السياسية على ملاحظتين اثنتين: الأولى أن حزب التجمع الوطني للأحرار سيتحالف مع باقي الأحزاب المكونة للحكومة السابقة دون حزب العدالة والتنمية طبعا، مما يعكس ويجيب في الأصل عن حقيقة العقاب السياسي لحزب العدالة والتنمية وليس عقاب سياساته التي ساهم فيها بشكل أكبر حزب التجمع الوطني للأحرار وباقي أحزاب الأغلبية الحكومية، وبالتالي الجزم في ربط مشكل الأداء الحكومي بغياب انسجام الأغلبية؛ ذلك أنه فما دام الشعب عاقب حزبا سياسيا في مقابل تزكية حلفائه، إنما يعبر في الحقيقة على موقف سياسي من حزب سياسي دون ربطه بالأداء الحكومي لأغلبيته. والملاحظة الثانية تتمثل في تحالف حزب الأغلبية (التجمع الوطني للأحرار وباقي أحزاب الأغلبية الحكومية (الاتحاد الاشتراكي والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري) مع أحزاب المعارضة (الأصالة والمعاصرة والاستقلال)؛ وهو ما يعني العزم على تسجيل قطيعة تامة مع التدبير الحكومي لحزب العدالة والتنمية، بما يعنيه ذلك من محاولة عزله سياسيا ومحو مخلفاته التدبيرية على مستوى السياسات العمومية، في ترابط تام مع السياق العالمي والإقليمي لمحاولة عزل تيار الإسلام السياسي عن الحياة السياسية؛ وهو الأمر الذي تؤكده المؤشرات الإقليمية والدولية، لا سيما أن صمود هذا التيار بالمغرب لولايتين حكوميتين شكل بالفعل تجربة فريدة ومنفصلة عن سياقها الخارجي. تلكم بعض الملاحظات الأولية التي نعتقد من جهتنا بارزة في سياق انتخابي مغربي فريد من نوعه، سواء من حيث المعنيين بنتائجه السياسية والحزبية وطنيا أو من حيث ربطه بالسياق الدولي الإقليمي لما بعد تجربة الإسلام السياسي لدول العالم العربي. (*) أستاذ باحث بكلية الحقوق جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس