الحدث كان بمستوى زلزال متوسط لم يسقط أي بناية ولا أي ضحايا، ولكنها كانت على كل حال ثورة أخلاق نبيلة ومجيدة استمرت هزاتها الارتدادية الإيجابية ردحا من الوقت، لتتوج بإعلان الملك عن إسقاط عفوه عن الإسباني مغتصب الأطفال المغاربة، وبإسقاط هذا العفو، يكون المغاربة أجمعين قد استردوا البعض من كرامتهم المهدورة، أمام جار إسباني، ما فتئ يشهر في وجوهنا تحاملا إعلاميا فيه الكثير من التحقير والإذلال. لقد اعتدنا كمغاربة أن نرى حركات الاحتجاج المتواصلة أمام البرلمان، وغيره من الساحات ومؤسسات الدولة. ولقد ألفنا جحافل المعطلين وهي تعتصم أو تتظاهر لأجل الحصول على الحق المشروع في العمل. كما ألفنا أنواعا جد مختلفة، وقد تكون غريبة أحيانا، من الاحتجاجات والمظاهرات والاضرابات. وكل هذا الأمر لم يحظ دائما بإجماع كل شرائح الشعب المغربي المتنوعة ومكوناته الحية. بل حتى حركة 20 فبراير التي ضمت أطيافا مختلفة ومتنافرة أيضا، ولربما جمعها هدف واحد، ولكن يحتوي على تشعبات جد متناقضة وغير منسجمة البتة، وبزخم وازن في عدد المتظاهرين الذين وضعتهم في الشارع، وطيلة أسابيع طويلة جدا. حتى هذه الحركة التي بدت مع انطلاقتها وكأنها تمتلك في رحمها بوادر ثورة باردة، لم تجد أرضية صلبة في الشارع، وبدا جليا أن الشعب المغربي لم يتعاطف مع هذه الحركة مطلقا، بل واجهها في الواقع بالكثير من النفور. ولكن سيحدث هذه المرة استثناء جد نادر، وهو مؤشر في كل الأحوال ينم على تنامي الوعي لدى رجل الشارع المغربي، الذي يقوده بكل يقظة، المجتمع المدني المغربي النابض بالحياة وهيئات حقوق الإنسان الفاعلة، والنخب الساهرة على نشر المفاهيم الأخلاقية الإنسانية بكل تجلياتها. الخلل الذي حدث " بفعل فاعل أو عن طريق خطأ فادح " بإطلاق مغتصب أطفال مغاربة، إسباني الجنسية، بموجب عفو ملكي شمل الكثير من السجناء الإسبان، بالإضافة إلى هذا البيدوفيلي المجرم. هذا الحدث أشعل الروح المتوهجة في أنفس المغاربة الأحرار الذين لا يرضون بالمذلة والهوان. وهكذا انتفض الضمير الجماعي للأمة المغربية غضبا شديدا، وسادت رغبة حقيقية لإعادة الكرامة للوطن أولا ولأبناء هذا الوطن. وتم بالفعل إسماع صوت المواطن المغربي المستنكر، وغير المستكين، لكل العالم الذي نقل إعلاميا أخبار المظاهرات والإدانات الشعبية لقرار العفو. وهذه المرة كان خروج المتظاهرين ينطوي على دلالات جد نبيلة وعميقة في أبعادها القيمية، فلأول مرة ربما لا يخرج المغربي متظاهرا لأجل الخبز أو العمل، أو لأجل تسوية وضعية معينة في قطاع ما من القطاعات التي تشهد إختلالات في تسييرها. أو لمساندة قضايا الأمة العربية أو الإسلامية التي أصبحت عادة غير ملفتة للانتباه. ولم يخرج العمال أو الموظفين لأجل المطالبة بزيادة الراتب الشهري..لا، هذه المرة خرج المتظاهر المغربي مطالبا بالزيادة في قيمة حقه من الكرامة التي لم يكن لينبغي أن يهدرها شخص عجوز استغل بعض الفئات الفقيرة من أطفال وأبناء هذا الوطن ليفرغ مكبوتاته المرضية فيها. ورغم أن القضاء انصف أسر الضحايا والضحايا بذاتهم، وحوكم المجرم بثلاثين سنة نافذة. إلا أن الخلل الذي تحدثنا عنه حول العفو الملكي أعاد كل شيء إلى الصفر، وهكذا تسلل هذا المغتصب المجرم الإسباني عائدا إلى البلد الذي منحه الجنسية وشغله ليتجسس على أبناء جلدته في العراق. وبينما كان ينبغي أن ينال جزاء تورطه في الكثير من الجرائم التي ارتكبها في حق أطفال المغرب، وفي خيانته لبلده العراق، نراه وعلى نحو مثير للغثيان يخرج سالما من السجن. ولكن مع كل شيء نسجل بكل اعتزاز أن المغربي ليس ذلك الكائن الذي لا يفتح فمه إلا حين يتعلق الأمر بدوافع تتعلق بشؤون حياته المعتادة، أو احتياجاته اليومية كما أشرنا أعلاه، بل أصبح مجتمعنا المغربي على درجة كبيرة من الوعي، وأضحى الهم الأخلاقي والإنساني من أولوياته التي يضعها نصب أعينه. وهو بهذا يؤكد على أنه شعب حي ومتطور في إدراكه لخطورة التفكك الأخلاقي والخطر الذي تشكله بعض العناصر الشاذة على طفولة بلدنا البريئة. ولقد برهن الضمير الحي اليقظ في المغرب على أنه عازم، وبكل إصرار من أجل التصدي لكل الشوائب التي تخدش أخلاقيات هذا الشعب والقيم النبيلة التي تربى عليها وتشربها عبر قرون طويلة من حضارة حية ومبهرة. ولكن رغم كل هذا ينبغي تكثيف المزيد من الجهود لأجل وضع حد لهذا النزيف الذي تعرفه الأخلاق في بلادنا. وعلينا أن نعي بأن الخطر لا يأتي دائما من الخارج فقط، وان كان هذا النوع من الخطر يحظى بمتابعة إعلامية أشد وأقوى. بل لدينا في مجتمعنا، وفي شوارعنا، وفي أحيائنا نماذج مثل البيدوفيلي الإسباني، وعلينا أن نراقبهم، وأن نحمي أبناء هذا الوطن منهم. هناك منظمات كثيرة ومتعددة تشتغل في هذا المجال، ولكن المطلوب الآن هو تعبئة الرأي العام الوطني وتوعيته بمكامن الخطر، وعلى المدارس أن تلعب دورا محوريا في التوعية، إلى جانب الأسر التي عليها أن تتحلى باليقظة الدائمة، ودفعها إلى التحلي بالجرأة على التبليغ وعدم اعتبار الأمر تابو وفضيحة ينبغي التستر عليها. وفي الأخير مرة أخرى يثبت محمد السادس أنه جزء من كيان الأمة، وأنه معني على نحو مباشر بالقضايا التي تمس المواطن المغربي، تراجعه عن العفو عن مغتصب الأطفال الإسباني يعطي الانطباع مجددا أن محمد السادس ملك يتفهم الشعب، ويتجاوب معه، وأكثر من ذلك فهو قريب من هذا المواطن المغربي، وهو قرار شجاع يحسب له، وعلينا أن نصفق له بحرارة كما غضبنا لأجل العفو الغريب الذي طالب الملك بشأنه إجراء تحقيق نزيه وشفاف لأجل معرفة خبايا هذا الاستهتار بمشاعر المغاربة وعدم احترام عزتهم وكرامتهم. لقد تراجع الملك محمد السادس عن العفو، وان كان هذا التراجع لا يحمل من الحقيقة إلا الدلالة الرمزية، ففي كل الأحوال لن تعيد إسبانيا هذا المجرم إلى المغرب، ولن تتعاون بالتأكيد مع البوليس الدولي الإنتربول. ولكن الملك محمد السادس ، بقراره هذا أعاد شيئا من الاعتبار إلى المواطن المغربي على الأقل. كاتب مغربي مقيم في هولندا