أصاب قرار الملك العفو عن الاسباني مغتصب أطفال القنيطرة شرف المغاربة في مقتل، ومرّغ كرامتهم في التراب. داس القرار آدمية الصبية، وهاض نفوسهم ونفوس عوائلهم، وجعلهم مثار سخرية المرضى والشواذ من كل صنف، ووأد طمأنينتهم وطمأنينة سائر الأطفال إلى الأبد. فكيف لأطفال هذا المغرب الاطمئنان والسكينة بعد اليوم، وسيف العفو مشهور أمام أعينهم. وأنّى لمدرس أو واعظ أو والد إقناعهم بأن الوطن وطنهم، وبأنهم يعيشون في بلد يدين بالإسلام مكتوب ذلك في الدستور،وأنهم في كنف الشريعة وأحكامها، وبأنهم في حضن الوطن وفي حماية الوطن، وأنه منبت الأحرار، مشرق الأنوار. إلى عقدة الآباء والأمهات النفسية أضاف العفو عقدة ثانية كونهم مواطنين من الدرجة الأخيرة. ترى لو كان المجرم لامست يده فقط جسد أمير أو ولد من علية القوم، هل كان سيظل حيا يرزق وإن كان من فرنسا أو أمريكا ؟ جاء في الدستور الممنوح سنة 2011 أن "المملكة المغربية، العضو النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبتها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا"، وبأنه "لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة" ... فأين المغاربة من هذا أيها الدستوريون ؟ وعلى من تضحكون ؟ تصكّ أسماع المغاربة كان الله لهم تلفزة المخزن في أي مناسبة بأن "الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين"، ويقرأ العبارة المهتمون على صفحات الدستور، فيتساءلون عن معاني الملة والدين، ويستغربون لما يرونه في الواقع من تنكر للدين وإعراض عن أحكام الدين بالعفو عن المغتصبين، بينما يسجن الأحرار فقط لأنهم ينتقدون النظام، وفي بعض الأحيان لأتفه الأسباب، أو ظلما وعدوانا. وإذا كان من عادة النظام المغربي التستر على الجناة والمجرمين وأصحاب الفواحش من الأقارب والبطانة "الصالحة" والحلفاء من النصارى واليهود حفاظا على مصالحه ومقايضة يما يحقق من "مكاسب" على الصعيد الديبلوماسي، فإنه هذه المرة تجاوز التستر إلى العفو، وإبطال حكم قضائي نهائي صادر عن هيئة قضائية محترمة. وللتذكير،ألقت الشرطة المغربية منذ سنتين فقط بمدينة مراكش القبض على شخصيات فرنسية ضمنهم وزير سابق تمارس شذوذها الجنسي على أطفال المغاربة المسلمين، مثلما أكد ذلك الوزير الفرنسي السابق لوك فيري خلال حوار تلفزي مع قناة كنال بلوس، لكنه أطلق سراحهم بأوامر هاتفية من جهات عليا. دوّت صدمة القرار في أرجاء محاكم المملكة الشريفة والمؤسسات القضائية، وفي أروقة الجمعيات النزيهة التي تنافح عن الطفل،وتدافع عن الجسد البريء، وعن حق الولد في العيش مكرّمامصونا من وحوش الجنس الشيطاني لأن الفعل من أفظع ما يكون.إذ ليست الجريمة من صنف اختلاس الأموال، أو التعنيف، أو القذف، أو تدخل في نطاق الخطأ الشخصي وإن كان جسيما كما يُعبَّر عن ذلك في علم الإدارة، بل تتعلق بآدمية الإنسان، وبكرامته وعرضه.ويزيد الجريمة قبحا وخسة ووضاعة كونها ارتكبت في حق أطفال لا حول لهم ولا قوة. أذهل القرار القضاة والنشطاء في ميدان الطفولة لأنهم كانوا يتحركون لتصير الأحكام القضائية المتعلقة بالاغتصاب أكثر قسوة، رجاء أن ينزجر وحوش الجسد الغض عن اقتراف الفاحشة. لكن، بالنسبة لمن يعرف المغرب، القرارُ من طبيعة نظامنا ، ومن صميم تقاليدنا السياسية، ومن ديموقراطيتنا المتميزة.منعرف المغرب وخبر سياسة نظامنا الفريد لا يذهل لقرار مخزني ولا ينزعج لتصريح رسمي، لأنه يعلم علم اليقين أن في المغرب الاستثنائي يوجد قضاء استثنائي، وتعليم استثنائي، وتطبيب استثنائي، وأحكام استثنائية، وسياسة استثنائية، وابن آدم استثنائي. شكل العفو الملكي سابقة في تاريخ القضاء العالمي لأن المجرم ذا الوجه الجهم الشتيم هتك عرض أطفال، ولم يختف بجريمته النكراء من على الأرض، بل أشهرها أمام الخلائق، ووثقها بالصوت والصورة الملونة لتبقى شاهدة في مواقع الرذيلة بالشبكة العنكبوتية وقنوات إبليس على مذلتنا وحقارتنا وفساد حكمنا إلى الأبد. في معظم أقطار الأرض، المغتصب يذهب إلى المشنقة أو بيت الغاز أو يردى قتيلا بطلقة، أو يُغيّب في السجنعقودا أو طول حياته، إلا في نظامنا، فإنه يُحبس بضع سنين، أو يُزوّج ، أو يُعفى عنه(!). ولهذا السبب صار المغرب قبلة كل شاذ، ومقصد كل داعر، ومحج كل ذي بلية وفاحشة. ولهذا السبب أيضا الذي يعتبر رئيسيا إلى جانب أسباب أخرى لا داعي لذكرها، انتشرت جرائم الاغتصاب في المغرب انتشارا مهولا. إذ لا يكاد يمر يوم دون أن يهتك عرض هنا، أو يمزق شرف هناك.ولقد جعل انتشار هذا الداء الوبيل قسما من الآباء والأمهات يتجشمون مشقة مرافقة أبنائهم وبناتهم ليل نهار وإلى كل مكان، وجعلهم يحجمون عن إرسالهم إلى المخيمات الصيفية وفي رحلات جماعية مدرسية رغم فائدتها التربوية.كما حمل فئة أخرىعلى أن تستخبر أياما عن هذا المدرس، أو ذاك المدرب في النادي الرياضي، وعن سائق حافلة النقل المدرسي، قبل أن تقدم على تسجيل أطفالها هنا أو هناك. ونفس "مسطرة التحقيق" بالنسبة للجار، وحارس العمارة، وبائع الحلوى، وكل من يمكنه الاقتراب من الطفل. ودونك إحصائيات الجمعيات المختصة التي لا تتاجر بالقضية، ومعلومات رجال الأمن والقضاء. صار المغرب مفسقة عالمية يقصده المخنثون والشواذ والسحاقيات والزناة والفجار من كل مصر، تقدم إليهم السلطة الغطاء اللازم، وتوفر لهم الجو الآمن الملائم ...جريا وراء السراب. لا يعرف الكثير من الناس أن مقترف جريمة الاغتصاب، كما يؤكد الأطباء المختصون،يكون في عدة أحيان قد "انتقم" لنفسه من الذين اغتصبوه في صباه. هذاالإصرار على "الانتقام"يدل على حجم الضرر النفسي الذي يلحق الضحية في الصبا، ومقدار التدمير الذي يتعرض له، ومدى العذاب الذي يظل يعانيه حتى يكبر. إذا كان العفو المشؤوم فجع الشعب المغربي برمته، فإنه فجعكذلك غالبية الشعب الإسباني لارتباط الأمر بأطفال أبرياء ما زالوا على الفطرة، ولا يقررونلأنفسهم.إذ لا يمكن في ثقافة الغربيين في أي ظرف اجتماعي وتحت أي ضغط سياسي قبول إخلاء سبيل مغتصب مُصِرّ مُترصّد لبراءة أطفال كالزهور. فلا غرو أن لا يقيم العالم لأقطاب نظامنا السياسيالقائمين على سياسة المخزن الخارجية وزنا على طاولة التفاوض لأنهم ضعفاء، قبلوا أن تنتهك أعراض مواطنيهم. ساقت وزارة العدل لتبرير القرار عذرا أكبر من الزلة، إذ قالت بأن العفو يدخل "في إطار العلاقة الرابطة بين دولتين صديقتين تربطهما مصالح استراتيجية"!وإن هذا التبرير الأخرق ليمثل قمة الاستخفاف بعائلات الضحايا وبجميع المواطنين. لنقارن وضعنا مع وضع حركة حماس في فلسطين التي تشترط لإطلاق سراح إسرائيلي واحد إخلاء سبيل كافة معتقليها في السجون الإسرائيلية، وتنجح في ذلك! جاءت صدمة العفو بعد صدمة تهنئة الانقلابيين في مصر وهم لمّا يُسْخِنوا مقاعدهم، وبعد صدمات ولكمات لا تعد ولا تحصى، وكأننا شعب قُدر له أن يعيش مصدوما. معاذ الله، وإنما هو هواننا، وقعودنا، وتفرقنا، وضعف إيماننا، وتبعيتنا لشرق العالم وغربه، ودروشتنا جهلا بالإسلام، ونفاقنا رؤساءَنا في الإدارات والمؤسسات والمصالح، وولوجنا برلمان الزور... في كلمة : فتنتنا.