لتشخيص وتحليل الوضع الذي تتخبط فيه الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية في المغرب ما بعد دستور 2011 الذي وعد المغاربة بحياة ديمقراطية فعلية وتغيير حقيقي في ظل استتنائهم السياسي الذي يزيد غموضا يوما بعد يوم، تابعوا معي أحداث هذا المسلسل الذي يعد بمزيد من مشاهد الفضح والمكاشفة السياسية والحزبية. حزب سياسي من ضمن مكونات الائتلاف الحكومي يقرر مغادرة الحكومة، وبغظ النظر عن الأسباب والتداعيات، بقي ينتظر لعدة أسابيع رأي أو تحكيم الملك محتكما إلى الفصل 42 من دستور 2011، وبعد أن فهم الحزب متأخرا أن قرار الانسحاب أو البقاء في الائتلاف الحكومي هو قرار يخص الحزب وأجهزته التقريرية، وأن هذه العملية السياسية البسيطة ليست نهاية العالم أو بداية التاريخ، بل هي مجرد إجراء عادي في سير الحكومات وسيرورة الديمقراطيات، بعد ذلك وتنفيذا لقرار الإنسحاب قدم الوزراء المنتمين إليه استقالاتهم لرئيس الحكومة وفق منطوق الدستور، ليتضح أن أحد المستوزرين باسم الحزب له فهمه الخاص للممارسة الدستورية والحزبية ففضل مصلحته الشخصية بمبرر يؤكد صعوبة التخلص من التقليدانية وصعوبة تطوير الكائن السياسي والحياة الحزبية في مغرب ما بعد 2011. رئيس الحكومة يتوصل باستقالات خمسة وزراء ويتماطل في رفعها إلى الملك بمبرر أنه من حقه أخد الوقت الكافي للنظر فيها وقبولها أو رفضها! وهو يشكك في عزم وجدية المستقلين ويتني على خصالهم وتفانيهم في عملهم، وهو ينتظر لعلهم يندمون أو يمزحون ويتراجعون. هؤلاء الوزراء بدورهم وبعد أن قدموا استقالاتهم إلى رئيس الحكومة عادوا إلى مكاتبهم بالوزارات ليستئنفوا عملهم وحضروا المجلس الحكومي وكأن شيئا لم يقع. رئيس الحكومة وبحثا عن أغلبية جديدة يلتقي رئيس حزب سياسي آخر من المعارضة، كان قد وصفه بالعاجز، مما سيطرح سؤال المصداقية التي هي شرط أساسي للعمل الديمقراطي. والبقية تأتي. إن مختلف مشاهد هذا المسلسل المنقول من واقع الممارسة السياسية والحزبية في المغرب، وبمشاركة عدة فاعلين، لا تزد الحياة الديمقراطية والممارسة الدستورية إلا مزيدا من اللبس والابتذال، وانتظارات المواطنين والمتتبعين إلا مزيدا من الإحباط والتأكد من حجم الصعوبات والعوائق التنظيمية والثقافية والسياسية والأخلاقية التي تعقد مسار الإنتقال الفعلي إلى وضع ديمقراطي عادي، وبالأحرى الإنخراط في التأسيس لتقاليد وممارسات سياسية حديثة تنتصر لروح العمل الديمقراطي والتأويل الجرئ لبعض مقتضيات دستور 2011 المعلقة والمرهونة بمستوى وقدرات الفاعل السياسي الحزبي على التحرر من مكبلاته ورقابته الذاتية ومن ركام التقليدانية، والتحلي بالجرأة والنزاهة في تعاطيه مع مجريات الممارسة السياسية. ففي الحياة الديمقراطية تعتبر المبادئ وأخلاق الممارسة بديهيات تلزم الكيانات والكائنات الحزبية، ومنها معنى الإنتماء والإستوزار باسم تنظيم معين أو ائتلاف حكومي محدد ووفق برنامجه الإنتخابي ومشروعه أو تصريحه، ومعنى التموقع في الحكومة أو المعارضة، ومقتضيات تحمل المسؤوليات والاستقالة منها، وحدود الممارسة والسجال أو الخطابة، وكذا معاني استقالالية التنظيمات والأشخاص وسلوكيات النزاهة والمسؤولية واحترام النفس وبقية مكونات المشهد السياسي والمجتمعي وعموم المواطنين والمواطنات. فمختلف الأحداث والمراوغات السياسية التي طبعت المسلسل الحكومي المذكور، ومنها ما هو صادر عن حزب الاستقلال ووزرائه، ومنها ماهو صادر عن رئيس الحكومة وحزبه، أبانت عن تمسك الفاعل الحزبي بأهداب التقليدانية السياسية ونمط الممارسات التي تكرست في الفضاء السياسي بالمغرب على امتداد عشرات السنوات، ومنها الخوف والاجتهاد في الخنوع ، وانتظار التعليمات أو الاشارات، والانحياز للجمود والانبطاح بدلا من التغيير والجرأة وتحرير الفعل السياسي، ثم تغليب الخطابة والصراع الصغير والذكاء الفج، والتملص من المسؤوليات وأخلاق الممارسة الديمقراطية أملا في ضمان مصالح ذاتية أو فئوية ضيقة. فهما كانت نتائج الأزمة الحكومة الحالية، ونجاعة التحاليل والسينريوهات الممكنة، وشكل الخروج منها بمسوغ سياسي وحزبي وإجراءات استوزارية وتنظيمية أو برنامج جديد، فالمؤكد أن السنتين المنصرمتين من عمر أول حكومة بعد سن دستور 2011 الذي جاء في سياق انتفاضات الشعوب وحركاتها الاحتجاجية التي كسرت جدار الصمت وطالبت بصوت مرتفع، مرفوق بدماء ومعانات المواطنين والمواطنات الأحرار وحرقة التغيير، بالديمقراطية وإسقاط الفساد والإستبداد، إضافة إلى أحداث هذا المسلسل المرشح للمزيد من المفاجأت، فإن واقع الممارسة السياسية والحزبية أبان عن عجز ذاتي لدى بعض التنظيمات ونخبها وافتقارها إلى القدرة على المبادرة والجرأة والفعل الديمقراطي والسياسي الجرئ والنزيه. كما استطاعت أن تراكم ردود وأشكال تعاطي تقليدانية في تصريفها للنص الدستوري والتأسيس لممارسة جديدة، ولا شك أن تلك أكبر النتائج التي ستعيق الانتقال الديمقراطي الفعلي وتصالح المواطنات والمواطنين مع العمل السياسي. أسئلة للمتنورين يخرج علينا المتحررون -رافضو "التراث"- خرجات إعلامية "بروباغاندية" مثيرة من حين لآخر مستغلين أية فرصة سانحة قصد الدفاع عن الحريات الفردية والجماعية، والمعايير الكونية لحقوق الإنسان، وقيم التقدمية والحداثة والتحرر...، ومحاربة الجمود والأصولية والرجعية والظلامية والتحجر... وهذه نضالات لا يستطيع المرء إلا أن يحييها برفع القبعة أو بأية تحية متوارثة في بيئته. لكن أسئلة تبقى معلقة تأبى التواري محدثة تشويشا وشوشرة على هذا الكفاح السلمي، من قبيل: - لماذا لا يبذل هؤلاء المتنورون نفس الجهد في محاربة استعباد الإنسان من طرف الإنسان بركوع واستكبار وسلب للحريات العامة وحريات التعبير ونهب للأرزاق... وكل هذا باسم إنسان الذي تتوافق كل ثقافات وقيم وعقائد البشرية على عدم جوازه، في حين أنها تكاد تجمع(هذه الثقافات والقيم والعقائد)على منح شرعية غيبية معنوية لممارسات وحدود معينة تختلف حسب منطلق هذه العقائد.. ولكن المهم أن مبدأ منع تلك الممارسات بالنسبة للإنسان حاضر كونيا، وبالمقابل مبدأ الشرعنة لنفس تلك الممارسات بالنسبة للكائن الغيبي -المختلف حوله- حاضر كونيا أيضا.. فهل من الحكمة في شيء تجاهل ما يجمَع على بطلانه، ومحاربة المعتقد المجمع على مبدأ وجوده؟؟ - ما علاقة هذا "التراث" المتنازع حوله بالتقدم العلمي والتقني والاقتصادي؟ هل هو العائق؟! - هل ارتبط تقدم الأمم والدول -ومنها المسلمة(ماليزيا)- برفض ولفظ تاريخها وهويتها و"تراثها"؟ - أليست فترة ازدهار حضارة هذه الأمة وقوتها ومساهمتها في تراكم نسيج الحضارة البشرية كانت أيام سيادة "الأصولية" الممقوتة المحَاربة حاليا؟ يكفينا -ولو مؤقتا- طرح هذا السيل العرم، لنمر لوجه آخر للموضوع. منهجيا لا تمكن معالجة المسألة بهذا التبسيط. إنها مسألة انتقاد -أو على الأقل نقد موضوعي حين حضور الشرف- لموروث معين، وبالتالي فالموضوعية تقتضي مناولته عبر مراحل وحلقات تبتدئ بطرح السؤال حول الإيمان به مبدئيا، فإن كان الجواب بلا، فنقطة نهاية في إطار "لكم دينكم ولي دين"، وإن كان الجواب بنعم، نمر إلى الموالي: مدى قطعية ثبوت ودلالة موضوع الدراسة؟ وهنا تنتقل الكرة إلى الفريق "التقليدي"، أيضا في إطار "البينة على من ادعى". فإن لم يثبت قطعية ثبوت ودلالة ما يدعيه كذلك، رجمناه بالافتراء على الله بغير علم، ورددنا عليه دعواه.. وإن أثبت ذلك، تكون الكرة هذه المرة عند فريق "الأنوار" ليحدد موقفه من مسألة آمن بها مبدئيا، وتيقن من دقة تفاصيلها المتداول في شأنها بعد إثبات قطعية الثبوت والدلالة من طرف الطرف الآخر.. فإما تسليم، أو طرح نقيض -معلل كما علل الطرح المقابل-، أو نكوص.. وهذا الأخير(النكوص) يحتاج شجاعة نفسية وأدبية تفوق تلك المطلوبة في ساحات الوغى التقليدية(متقاتلان بسيفين وجها لوجه) حتى ينسجم صاحبه(النكوص) مع نفسه وطرحه.. نعم، قبول ونقد/تدقيق/تمحيص فتصويب، أو رفض، ولا حاجة آنذاك لأي مجهود.. منتهى البداهة، وسهولة المناولة!! لا يستقيم ولا يستساغ أن أكون مسلِما وأرفض مسلّماته غير الواقع الخلاف حولها، إلا أن آتي بنظرية بديلة منسجمة متناسقة معتمدة -في أساسها- نصوصا شرعية. هب أن نصا من نصوص المواثيق الحقوقية الدولية تعارض تعارضا راديكاليا وجوديا مع نص من نصوص مصادر التشريع الإسلامي قطعي الثبوت والدلالة -وهذه هي الحال في كثير منها، وهذا منطقي لاختلاف مرجعية المشرع- لا مجال للتوفيق بينهما البتة.. فما العمل إذن؟ لمن الأولوية؟ وأي التشريعين نتبع؟؟ وكمثال حي على هذا اللغط ما أثير مؤخرا حول مضمون رسائل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الأمم حينها، وإمكانية استنباط احتوائها على تهديد مبطن.. وقد تطرق معظم الفضلاء إلى نفي تلك التهمة عن الرسائل المذكورة فأفاضوا.. ولكن بقي السؤال يدور في خالدي: نفترض أن هذا الادعاء صحيح لا مجال لنفيه.. ما العمل؟ نرفضها؟ قال الله تعالى: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ". وقال سبحانه وتعالى: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً". وقال جل شأنه: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ". آتنا بنظرية -كما أسلفنا: معللة في إطارنا هذا- متكاملة منسجمة.. نكون لك من التابعين وعنك من المدافعين.. أما أن تأتينا بهجين لا شرقي ولا غربي، لا روحي ولا مادي، لا أصيل ولا دخيل... فإنا نأبى أن نساق..