من اللافت للانتباه، عند استعراض الكتابات التي انصبت على تحليل النخب المقربة من دوائر اتخاذ القرار في المغرب، أن نرى أن الباحثين الأجانب، سوسيولوجيون وباحثون اجتماعيون وسياسيون هم الذين كان لهم النصيب الأوفر في تحليل الآليات والديناميات المتحكمة في إنتاج هذا النوع من النخبة: فمن واتربوري وازرتمان الأمريكيين إلى ريمي لوڤو وبرونو إتيان الفرنسيين، نجد أن الاهتمام انصب بشكل مباشر على هذا الموضوع، على الأقل بالنسبة للمرحلة التي أعقبت استقلال المغرب. صحيح أن المؤرخين المغاربة البارزين وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الله العروي وجهوا جزءاً من اهتماماتهم البحثية حول هذا الموضوع، لكن مجال اهتمامهم المفضل ظل هو القرن التاسع عشر (العروي أحمد توفيق قدوري وأخرون). وصحيح كذلك أن الأدب التاريخي الذي انصب على مسلك السفراء تناول بشكل عرضي، جزءاً من موضوع الآليات والمعايير والمقاييس المعتمدة في اختيار النخب المقربة من دوائر القرار. لقد ظل هذا الموضوع مغيباً إذن من دائرة الاهتمام بالنسبة للباحثين المغاربة وظل إحدى الطابوهات التي لا تطالها الرؤية الافتحاصية الراغبة في معرفة ما يجري، وسرى الاعتقاد بأنه لا طائل يُرجى من البحث في مسارات تخضع لمنطق العمل في الخفاء وتلفها السرية والتعاقد الغامض. وخلال معظم مرحلة حكم المرحوم الحسن الثاني، وإلى حدود الانتباه جهة الكفاءات التكنوقراطية، في نهاية الثمانينات، ظل اختيار المستشارين محصوراً ضمن عينة عمرية جايلت إجمالا زعماء الحركة الوطنية، وبصورة ما، فإن هذا الجيل من المستشارين، مع اختلاف في الأمزجة والتطلعات والروافد الثقافية، كان قد فهم دوره باعتباره دور التوجيه الاستراتيجي لدواليب الدولة من بعيد، وإنتاج نوع من »خبرة الحكمة« (أو هكذا تصور دوره على كل حال). وربما كان هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل الاحتكاك بين زعماء الحركة الوطنية وأحزابها، وبين ذلك الجيل لا يصل إلى حد الصدام المباشر، باستثناء المرحلة التي بدا فيها أن بعضاً من عناصر ذلك الجيل أراد أن يغير الموقع والوظيفة وأن يخوض مباشرة في معمعة السياسة والانتخابات (أحمد رضى اكديرة ولفديك نموذجاً). الانتباه جهة التكنوقراطيين الذي بدأ نهاية الثمانينات مثل في حينه، نوعاً من الوعي بحاجة النظام السياسي المغربي إلى المزاوجة بين منطق الكفاءة ومنطق الثقة والخدمة التي يؤطرها استمرار الأعراف والضوابط والسيكولوجيا التقليدانية. وتبين بعد سنوات من الممارسة، أن منطق التقليدانية وضروراتها استوعب بسرعة أو التهم منطق الكفاءة وأن أولئك الذين تخرجوا من كبريات المعاهد التقنية ومدارس الطرق والقناطر الفرنسية ومؤسسات التسيير الكبرى في البلدان الأنجلوساكسونية، تأقلموا بسرعة مع الأدوار الجديدة، لغة وممارسات ومسلكيات، بل والأكثر من ذلك، تجاوزوا الحدود التي كان قد رسمها الجيل السابق لدوره ووظيفته وراحوا يوسعون تدريجياً من مربع التدخل والتصرف في السياسة الحكومية المباشرة. لقد كانت العلامات الأولى لبروز الاحتكاك الصدامي المباشر بين مربع المقربين من دوائر القرار العليا ومجال الممارسة الحكومية المباشرة، هي تلك المرحلة التي وقع فيها اتهام حكومة التناوب الأولى بعدم الخبرة والتجربة الاقتصادية، والتي كانت البداية التي فتحت أعين الطبقة السياسية عندنا على مخاطر انزلاق »الخبرة الاستشارية المُقَرَّبَة« المنتشية بكفاءتها التكنوقراطية نحو التدخل المباشر في الشأن الحكومي في سريانه اليومي. والحقيقة أن هذا الاحتكاك أشَّر مرة أخرى على الميل العام والعارم إلى ابتلاع المنطق التقليداني، الرافض لفصل المسؤوليات لمنطق الكفاءة كما مثل انزياحاً تاماً عن الپاراديگم السابق الذي كان المستشارون بموجبه يحددونه وظيفتهم في تقديم المشورة الاستراتيجية بناء على ما كانوا يعتبرونه معرفة دقيقة بالتوازنات الاجتماعية والسياسية للبلاد. وكانت التمظهرات الأساسية الأولى التي برزت بوضوح عبر هذا المسلسل اللاوظيفي، الذي أسلم فيه العقل التكنوقراطي زمام أموره لمنطق التقليدانية في العمل والتصرف كانت التمظهرات الأولى هي بروز ما يمكن تسميته بسُلط الظل، ولا نقول حكومات الظل، لأن لحكومات الظل منطق اشتغال آخر لا يتعارض البثَّة مع منطق الحداثة السياسية ولا مع مقتضياتها الدستورية والسياسية. وهكذا، فإن هذا المسلك في إنتاج النخب المقربة أفضى في نهاية التحليل at the end of the day إلى نفس ما كان قد أنتجه ما عُرِف بمسلسل الانتقاء من الأعلى Ecremage، حينما عمدت سلطة الداخلية في أوج قوتها بين منتصف الثمانينات والتسعينيات إلى استقطاب بعض الأطر السياسية والحزبية إلى بعض دوائر القرار الاداري بحسابات سياسية كانت تروم تمييع المشهد السياسي برمته. مسالك النخب المستشارة بين منطق الكفاءة التكنوقراطية وطاحونة التقليدانية. يطرح هذا الإشكال اليوم سؤالا عريضاً في غاية الأهمية بالنسبة للتطور السياسي للبلاد، سؤال مدى الاستعداد للانخراط حقاً في منطق آخر للتعامل بين مكونات الحقل السياسي، سؤال يمكن صياغته على النحو التالي: الآن وبعد إعمال مقتضيات الدستور الجديد، هل ينجح منطق الكفاءة في استعادة استقلاليته ونفوذه، فاتحاً المجال أمام حداثة مؤسساتية تستحق اسمها، أم سيظل منطق التقليدانية يفرض القواعد والحدود على الخبرة التقنية محيلا التكنوقراطيين إلى أدوات سياسية جديدة لإنتاج الخلط وتعويم المسؤوليات وتقزيم المؤسسات؟ ذلك هو السؤال.