هل هي بداية النهاية لإلياس العماري، «صديق» فؤاد عالي الهمة، الوزير السابق في وزارة الداخلية ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة؟ إنه السؤال الذي أصبح يتردد وسط الصالونات السياسية بعد الانتقادات التي وجهت لهذا «الكائن السياسي المفترس» في العديد من المناسبات آخرها مناوراته في أحداث العيون ووقوفه وراء إرسال العديد من الأبرياء إلى السجن, ضمنهم محمد جلماد, رئيس المنطقة الأمنية السابق لمدينة الناظور, وجامع المعتصم, القيادي في حزب العدالة والتنمية, ومنتخبون آخرون رفضوا «الانصياع» لقرارات «البام» أثناء تشكيل المجالس الجماعية في عدة مدن مغربية. فما حقيقة هذا الريفي، الذي أصبح العديد من محتجي حركة 20 فبراير يطالبون اليوم برحيله؟ وما الذي يجعله يردد في جلساته الخاصة أنه قريب من أعلى سلطة في البلاد؟ وإذا كان العماري يزعم أنه كان مضطهدا في سنوات الرصاص وأنه ظل «مختفيا» بعد حكم قضائي أدانه بخمس سنوات سجنا نافذا، فهناك من يقدم رواية أخرى مغايرة مفادها أن المعني بالأمر لم يناضل يوما من أجل قضية ما، بل إنه أمضى معظم الوقت في الحرم الجامعي بهدف واحد لا ثاني له وهو «تعقب» رفاقه وإنجاز تقارير حولهم لفائدة الأجهزة الاستخباراتية. يزعم أنه كان مضطهَدا بسبب انتمائه إلى اليسار الراديكالي.. يتكلم تارة باسم الريفيين وتارة باسم الدولة.. ما حقيقة هذا الرجل يا ترى؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء خرجاته الإعلامية المتكررة؟ راود أولئك الذي صادفوه في أحد أحياء باريس الجامعية بينما كان الطلاب المغاربيون يُعبّرون عن تضامنهم مع إخوتهم في تونس، مطالبين برحيل الرئيس زين العابدين، تساؤل مشروع عن سبب وجود مسؤول مغربي بينهم يردد ويهتف بشعارات مناهضة للطاغية بن علي! ولا ننسى دهشة أولئك الذين سمعوه، مرارا و تكرارا، ينتقد، بشدة، حزب العدالة والتنمية، في الوقت الذي كان يتوجب عليه، بصفته «حكيما» في الهيئة العليا للاتصال السمعي -البصري، التزام الحياد. لم يستوعب أحد ازدواجية هذا الرجل، فتارة يلعب دور «الجلاد»، وتارة، دور «الضحية»... كان إلياس العماري يلقب ب»شي غيڤارا -المغرب»، لعلاقاته الوطيدة بثوار أمريكا اللاتينية ومعرفته للرموز السابقين لليسار الراديكالي المغربي ولانحيازه المتحمس للقضية الأمازيغية. ولن نجد أحسن من نرجس رغاي لتؤكد لنا هذا، حيث كانت هذه الصحافية بمثابة «القنطرة» التي أوصلت العماري إلى فؤاد عالي الهمة. يتمتع العماري، كذلك، بدعم زمرة من المتملقين الذين يقدمونه على أنه «الضامن» لاستقرار الريف، متمادين في مجاملته، واصفين إياه ب«نابغة العصر الجديد»... ولا يخفى على أحد أن هذه المجاملات، بطبيعة الحال، لها مقابل مادي ومعنوي «سخي». هو رجل المؤامرات بامتياز، يحشر أنفه في الإعلام وفي الجامعات وفي الرياضة والثقافة وفي المنظمات غير الحكومية، إلا أن حضوره الأقوى يبقى في الساحة السياسية. عبقري «البام» الفاشل يلقب ب«ذي الظهيرين»، نسبة إلى ظهير تعيينه في معهد الثقافة الأمازيغية وظهير ضمان وجوده بين حكماء الهيئة العليا للإعلام السمعي -البصري. يجسد إلياس العماري، بشكل جيد، ذلك الجيل من اليساريين الذين عرفوا كيف يركبون على موجة الأصالة والمعاصرة، لأجل هدف واحد وضعوه نصب أعينهم: تفصيل وسط سياسي جديد على «مقاسهم». فكيف يعقل أن يتحول شخص «ثوري» إلى أحد» أقرب المقربين» من الحكومة؟ كيف يعقل أن يقوم شخص، ولمدة طويلة، بانتقاد شديد لنظام سياسي قال عنه إنه إقطاعي، لينتهي به المطاف مستخدما نفس النظام كأداة سياسية تخدم مصالحه الشخصية؟ شخص واحد يملك الإجابة عن هذه الأسئلة المحيرة، هو إلياس العماري نفسه... يكفي الرجوع بضع سنوات إلى الوراء، للتأكد من أن اسم هذا الرجل كان مجهولا في الوسط السياسي والاقتصادي. يزعم هذا الريفي، ذو الأربع والأربعين سنة، أن نضاله في الفلك اليساري الراديكالي كان وراء إدانته غيابيا بخمس سنوات سجنا نافذة، عقب أحداث الحسيمة في سنة 1984. إلا أن اسمه سيبدأ في التردد مع تولي محمد السادس الحكم، حيث استفاد -بشكل كبير- من رياح الحرية التي هبّت على المملكة، لتدفع به إلى الساحة السياسية والإعلامية، رغم أن بعض «تصريحاته» للصحافة المحلية كانت تثير امتعاض الكثيرين. ومن حسن حظ هذا الشاب الريفي، القريب من الأوساط اليسارية، أنه شد في وقت وجيز انتباه العديد من المسؤولين الكبار. كان قربه من الراحل ادريس بن زكري، الذي تخلى عنه أصدقاء الأمس في وقت الشدة، بمثابة عربون إخلاص يقدمه للمخزن. وهكذا سوف يتحول هذا النظام، الذي كان من ألد «أعدائه»، إلى «حليف» أساسي. تكمن وراء هذا الانسلاخ المدهش، حسب المقربين من إلياس العماري، أحداث شبيهة بأحداث المسلسلات الشيقة... «الحرباء» السياسية بدأ مشوار إلياس العماري في فبراير 2004. ففي هذا الشهر، استفاق المغاربة على خبر سيء للغاية: كان سكان مدينة الحسيمة والقرى المجاورة على موعد مع زلزال أودى بحياة الكثيرين وشرّد البعض منهم. أمام هذه الكارثة الإنسانية، سخّر المغرب كل كفاءاته لإنقاذ هذه المدينة، حيث أطلق الملك مشاريع عديدة لإعادة إعمار المنطقة بأكملها. ووسط هذا الزخم من الأحداث وبما أن «مصائب قوم عند قوم فوائد» فقد برز اسم إلياس العماري، الذي شد انتباه عالي الهمة، أحد أهم ركائز وزارة الداخلية آنذاك. تقوت علاقة إلياس العماري بفؤاد عالي الهمة مع مرور الوقت، وهكذا حصل العماري على أول ظهير عُيِّن بموجبه على رأس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. كان هذا التعيين البابَ الذي خول له دخول الصالونات المخملية في العاصمة الرباط وكذا المكاتب الفاخرة لمختلف الهيآت الحكومية. وفي مدة لا تتجاوز العامين، أصبح عضوا في المجلس الأعلى للاتصال السمعي -البصري. وبما أن طموح إلياس العماري يضاهي معارفه الكثر في الحقل السياسي، فقد قرر هذه المرة دخول ميدان آخر أكثر أهمية وأكثر خطورة . الرجل الغوغائي يعرف كان أعداء هذا الرجل، المصاب بجنون العظمة، مستواه الثقافي جيدا، إلا أن إلياس العماري لم يأبه بهم قط، فقد كان جل اهتمامه منصبا على شيء أكثر أهمية وأكثر تأثيرا في حياة الملايين من المغاربة، ألا وهو دخول غمار السياسة الحزبية. إلا أن ما يجهله الكثير عن هذا «العبقري» هو الدور الأساسي الذي لعبه هو في ذلك «الزلزال» السياسي الذي أحدثه فؤاد عالي الهمة في 2007، باستقالته من مهامه كوزير منتدَب في وزارة الداخلية وعزمه دخول غمار الانتخابات التشريعية. في غضون شهور، توضحت معالم سياسة الهمة بإنشائه «حركة لكل الديمقراطيين»، التي جمعت أعضاء من كل حدب وصوب، كاليساري صلاح الوديع والتكنوقراطي صلاح الدين مزوار. أما العماري، والذي تبقى بصمته واضحة للعيان، فقد أجاب أحد الصحافيين عندما سأله عن إيديولوجيته: «إن انتمائي تمليه علي قناعاتي الإيديولوجية، والتي يصادف أنها يسارية». والعجيب أنه عندما سأله هذا الصحافي عن المستقبل، كان جوابه صريحا للغاية: «لا أعرف، فقناعات الشخص تتطور بتطوره. لا يستطيع أي مناضل موضوعي أن ينكر ذلك». تغيير ب180 درجة، صاحبه حضور قوي في دواليب حزب «البام»، حديث النشأة آنذاك، وكان أول «امتحان» واجهه منظّر الحزب هو الانتخابات الجماعية. وفي الوقت الذي فشل كل زملائه في انتزاع نصيبهم من الكعكة الانتخابية، نجح إلياس في رسم خريطة سياسية لمدن كبرى، كمراكش وطنجة، رغم أن الخيارات التي اعتُمِدت في هذه المدن سرعان ما تبيَّن أنها كانت سيئة للغاية. ولا يخفى على أحد أن اختيار سمير عبد المولى عمدة لطنجة كان «خطأ إستراتيجيا» حاول إلياس العماري إصلاحه بترشيح أخيه، فؤاد العماري، لرئاسة مجلس مدينة البوغاز. وهكذا أصبح ظل هذا الريفي يزعج العديد من مكونات الحقل السياسي. في بادئ الأمر، لم يكن إسلاميو العدالة والتنمية والاستقلاليون يجرؤون على انتقاده بشكل مباشر، فهذا «الكائن السياسي المفترس» كان أكبر وأقوى منهم بكثير. كانوا يكتفون في معظم الأحيان بالتلميح، دون الإفصاح عن هويتهم، إلى ممارساته السياسية في أعمدة الصحف الوطنية. وتوجب انتظار حدث هام، ك«أكديم إيزيك» لكي يقال في حق هذا الرجل جهرا ما كان يقال فيه همسا. ففي الوقت الذي كان الوضع الاجتماعي والسياسي محتقنا في مخيم «أكديم إيزيك»، كان العماري في عين المكان يلتقي بالناشطين الصحراويين وبالأشخاص الذين نصّبوا أنفسهم مسؤولين على المخيم. وبعد مرور هذه الأزمة التي عرفتها المنطقة، تبيَّن للرأي العام أن هذا الرجل تطفل بإقحام نفسه في ما لا يعنيه، إلا أن هذا التطاول أعقبته انتقادات لاذعة وُجِّهت له. يفتخر العماري كثيرا بصداقاته ومعارفه، حيث صرّح في إحدى خرجاته الإعلامية قائلا: «أنا شخص لا يخجل من صداقاته»، في تلميح واضح إلى صديقه فؤاد عالي الهمة، إلا أن ما يجهله العماري هو أن هناك احتمالا كبيرا لأن يكون الخجل الحقيقي هو ما يحس به أصدقاؤه المزعومون من هذه العلاقة. ماذا يريد، يا ترى، هذا الرجل الذي يدعي أنه كان مضطَهدا لانتمائه إلى اليسار الراديكالي خلال الثمانينات، والذي أصبح اليوم -بقدرة قادر- من أهم قياديي حزب إداري بامتياز اسمه حزب الأصالة والمعاصرة ؟ من نصّبه وما زال ينصبه ليتحدث تارة باسم الريفيين وتارة باسم الدولة؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء خرجاته الإعلامية المتكررة، علما أنه رجل كتوم بالعادة. من «أمنود» إلى الاستخبارات ترعرع إلياس العماري في دوار صغير اسمه «أمنود»، يقع على الجانب الشرقي من «واد نكور»، الذي يقطع قبيلة بني ورياغل. هذا الدوار الصغير تابع لمنطقة بني بوعياش، والتي توجد على بعد أميال قليلة من أجدير. ولا يخفى على أحد أن هذه الأخيرة هي معقل محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي دخل التاريخ من أبوابه الواسعة، بعد أن وقف صامدا في وجه الجيوش الفرنسية والإسبانية المسلحة في عشرينيات القرن الماضي. ترعرع إلياس العماري في عائلة متواضعة، لكنْ جد متدينة، كما هو عليه حال معظم سكان بني ورياغل. كانت ملحمة بن عبد الكريم الخطابي تُروى أبا عن جد ولم يخل مجمع من ذكر هذا الإنجاز البطولي الذي طبع تاريخ المغرب. إلا أن إلياس العماري، عند ولادته في 1967، كان أول ما يتردد إلى مسامعه هو انتفاضة الريف ما بين 1958 و1959، لهذا ترعرع في ذلك الجو العكر الذي كان يسود في المنطقة إزاء الدولة والإدارة المركزيتين. ورغم هذه الظروف، التحق إلياس بالمدرسة الابتدائية في «إمزورن»، وبعد ذلك، بالإعدادية، التي كانت آخر محطاته الدراسية... ما زالت «عقدة» التمدرس حاضرة عند إلياس إلى يومنا هذا، ولهذا السبب بالذات كان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي يميل إلى زيارة الحرم الجامعي، للاحتكاك بجيله من الطلبة المتحدرين من الريف. كان إلياس من خلال هذا الاحتكاك يتناقش مع هؤلاء الطلبة ويراقب تصرفاتهم، محاولا إيجاد مكان له وسط نخبة المستقبل المنبثقة من مدرجات جامعات وجدة وفاس والرباط. وفي الوقت الذي كان كل واحد من هؤلاء يشق طريقه نحو مسار مهني، كل في اختصاصه، وجد العماري نفسه تائها وسط زوبعة أحداث 1984، التي اندلعت في الريف والشمال ومناطق أخرى في المغرب. تعددت الروايات التي تناقلتها الألسن، إلا أن الروايتين الأقرب إلى الواقع هما رواية العماري الرسمية ورواية معارضيه. تزعم الرواية الأولى أنه كان ناشطا يساريا مقربا من دائرة «الحركة» المتمردة، التي كان يقودها عمر الخطابي، والذي كان بدوره متأثرا بالكولونيل الانقلابي أمقران وهذا ما شكل له غطاء للنضال تحت الجناح اليساري. لم يدخل السجن يوما إلا أن هذا الأخير يؤكد صدور حكم غيابي في حقه أدانه بخمس سنوات نافذة أمضاها هاربا، مختفيا في «متاهة» الرباط!... أما الرواية الثانية، والتي لا تمت للأولى بصلة، فتقول إن هذا الرجل لم يناضل يوما من أجل قضية ما. وحسب معارضيه ،فكل الوقت الذي أمضاه في الحرم الجامعي كان لهدف واحد وهو «التجسس» وإنجاز تقارير عن «رفاقه» لصالح الأجهزة الاستخباراتية. وعندما اندلعت أحداث 1984، ظل «مختفيا» في مكان سري، مع نشر إشاعة اعتقاله وإطلاق سراحه بعد ذلك، ليعيش في الخفاء لسنين طويلة...
مكافأة رجل لا ماضي له في بدايات تسعينيات القرن العشرين، حينما كان المغرب يسعى إلى التصالح مع ماضي سنوات الرصاص، غادر أغلب المعتقلين السياسيين البارزين السجون المغربية. وفي الوقت الذي كان كل واحد من هؤلاء يسعى إلى الاندماج، بشكل أو بآخر، في المجتمع، فضل إلياس العماري الانزواء، إذ لم تكن لديه لا الكاريزما ولا القناعة لكي يجرؤ على هذه الخطوة، لأسباب كثيرة، منها افتقاره إلى ماض سياسي معروف أو حتى إلى مرجعية تاريخية تشفع له. وكان أكثر ما يحبطه وصمة «المخبر»، التي كانت تلاحقه أينما حل وارتحل... واجه إلياس العماري آنذاك صعوبة كبيرة في إيجاد مكان له في المشهد المتحول للمغرب. ما العمل إذن؟ الالتحاق باليسار المتطرف في وقت يعد فيه سقوط جدار برلين مجرد ذكرى غابرة؟ أو الالتحاق بالدولة والعمل في إحدى مؤسساتها؟ وبما أن إلياس لا يملك أي مؤهلات أو شهادات تخول له الالتحاق بالعمل الإداري، فقد قرر الاكتفاء بالتقرب من الرموز السابقين لليسار المتطرف ومن بعض الصحافيين، الذين سوف يسمحون له في عدة مناسبات بالظهور في «الواجهة» التي لطالما حلم بها... بعد وفاة الحسن الثاني، ستتسارع الأحداث في حياة إلياس العماري وسيربط علاقات مع شخصيات سوف تؤثر في مساره، وبهذا أصبح الرجل الوفي لإدريس بن زكري مقربا من أحمد حرزني وعبد القادر الشاوي ولحبيب بلكوش، وامتدت علاقاته لتطال اليسار الموحد في خدمة المتحفظين والرجعيين، كما صاحَب المدافعين عن حقوق الإنسان ورجال الأمن. والغريب أن «موهبة» ربط العلاقات هذه تعزز أطروحات معارضيه، الذين ما زالوا يتهمونه باللعب على الحبلين، فتارة، هو مناضل يبحث عن المثل العليا المفقودة، وتارة، رجل الاستخبارات، الذي يخترق النخبة السياسية أينما وجدت. إلا أن إلياس العماري ينكر كل ما ينسب إليه. وهكذا، وفي الوقت الذي كان عبد العزيز مزيان بلفقيه يستقطب حوله الأدمغة التي أفرزتها أحسن الجامعات العالمية، كان فؤاد عالي الهمة يستقطب من يسانده في عملية انتقاله من الجناح الإداري في وزارة الداخلية إلى الحقل السياسي، علما أن الهمة كان يزعم أنه لم تراوده قط فكرة إنشاء حزب ولم تكن لديه النية لذلك، إلا أن هذه المزاعم سرعان ما فُنِّدت على يد بيد الله وخوجة وبنعدي وحلفائهم، والذين اكتفوا بالدفاع عن أجندة هذا الحزب الذي وضع آليات اشتغاله إلياس العماري. وبما أن هذا الأخير منظّر دون المستوى، فإنه لم يبحث عن خلق نوع من الانسجام داخل تركيبة هذا الحزب، الذي كان هجينا، يجمع اليساريين الراديكاليين ب«يساريي الكافيار» ورجال الأمن السابقين ومناضلين في مجال حقوق الإنسان ومحافظين وحداثيات متحمسات لقضية المرأة وملاك الأراضي الإقطاعيين... إلا أن هذه التركيبة الغنية سرعان ما ستظهر محدوديتها، محدودية لا تأتي من فراغ، فقد عُهِد بهذا الحزب إلى رجل مختص في نسج المؤامرات، لا يعرف أبجديات التسيير الحديث، رغم تكديسه ثروة هائلة في وقت قياسي من أنشطته «التجارية». ولا ننسى، في هذا الصدد، أن إلياس العماري كان -ولوقت طويل- صديق البرلماني سعيد شعو، المتحدر من الريف والذي كان وليّ نعمته. كان يقدم له الدعم المالي في مختلف مشاريعه حتى إن أول سيارة اشتراها العماري قدمها له صديقه شعو. إلا أن العماري، الذي لا يقحم المشاعر في مصالحه، سرعان ما أدار ظهره لشعو، ليصاحب مليارديرا آخر اسمه سمير عبد المولى. وبالفعل، جنى عبد المولى ثمار «صداقته» بالعماري، حيث أصبح عمدة لمدينة طنجة، عقب الانتخابات الجماعية الأخيرة، إلا أن هذه الصداقة لن تشفع لعبد المولى طويلا وسرعان ما سيتولى فؤاد العماري، وهو شقيق إلياس، عمودية مدينة طنجة.
نكسة إلياسحصد الأخضر واليابس، هذا ما برع فيه العماري خلال الانتخابات الجماعية سنة 2009. وحرصا منه على انتزاع أكبر عدد ممكن من المقاعد، لم يعد العماري يفكر في كفاءات المنتخَبين الذين سيمثلون حزب الجرار بقدر ما كان يهمه تكديس أكبر عدد من الأسماء. وبالفعل، غلب الكم على الكيف ونجح العماري في جعل حزب الأصالة والمعاصرة أول حزب في المغرب. ريادة كان الفضل فيها للدعم الإداري الذي تلقاه هذا الكيان السياسي الحديث، إلا أن النكسة التي أصيب بها إلياس العماري هي فشله في اكتساح مسقط رأسه. وبفضل الوالي محمد مهيدية وحفنة من رجال السلطة، نجح «البام» في اكتساح الحسيمة، لكن بني بوعياش بقيت بعيدة المنال وعهد بها لجمال النحاس، الذي يتمتع بشعبية واسعة في المنطقة، والذي لم يجد نفسه يوما في حاجة إلى حملة انتخابية، فهو محبوب ومحط احترام الجميع، بفضل عمله الدؤوب على أرض الواقع. لم يستسغ إلياس العماري هذه «الإهانة»، خصوصا أنه يقدم نفسه كأحد أقوى رجال «البام»، فكيف يفشل في تمثيل مسقط رأسه؟! وللإشارة فقط، فنفس الفشل لاقاه بيد الله في مسقط رأسه، العيون، في مواجهة عائلة ولد الرشيد، القوية. وحسب ما يتناقله المقربون، يبدو أن إلياس العماري يتباهى أمام الأصدقاء والمعارف بقربه من القصر وبالامتيازات التي يتمتع بها وذلك بإجراء مكالمات هاتفية مع شخصيات نافذة، في محاولة لإبهار من حوله. إلا أن استغلال هذه المزاعم للتدخل في شؤون الأمن والقضاء والمصالح الضريبية لم يرُق الجهات العليا. لهذا مر العماري بفترة سبات استفاق منها، فجأة، ليعود إلى الواجهة، بشكل قوي، عبر وسائل الإعلام، بغية تصفية حساباته مع معارضيه ونفي أي قرابة تربطه بالقصر. والحال أن هذا الرجل يمر بوقت عصيب تراجع فيه وهجه السياسي. ووعيا منه بهذا الوضع، يحاول -بشتى الطرق- استرجاع الذي مضى. لكن هيهات، فحتى «أصدقاء الأمس»، علي أنوزلا وعبد القادر الشاوي وأحمد لحليمي وعلي بوزردة، الذين كانوا يتوسطون له لدى الهمة، لن يمدوا له يد المساعدة، بعد أن أدار لهم ظهره بعد تحقيق مبتغاه، اللهم أولئك الصحافيين القدامى، الذين أسدى إليهم جميلا، والذين سيحاولون «ترقيع» ما تبقى من صورته، لعله يحظى بحياة جديدة، بدل حياته السياسية الأولى التي صارت في عداد الموتى... رجل التناقضات يزعم أنه يساري، إلا أن تصرفاته توحي بأنه محافظ، بامتياز. كان وراء مبادرة إنشاء «حركة لكل الديمقراطيين»، ليصبح عضوا، بعد ذلك، في حزب الإدارة.. تربطه علاقات مع مساجين قدامى في القنيطرة و«يغازل» سجانيهم.. يدين انتهاكات حقوق الإنسان ونراه قريبا من دوائر الاستخبارات.. نجده عضوا في الهيئة العليا للاتصال السمعي -البصري لكنه يخرق التزامات التحفظ التي تمليها عليه عضويته. عُيّن مرتين بموجب ظهيرين شريفين لكنه ينتقد باستمرار ثوابت الأمة. يقال عنه إنه قوة ضغط وتأثير، إلا أنه فشل في حصد أصوات مسقط رأسه في الانتخابات الجماعية الأخيرة... فشل في المهام المعهودة إليه، وللتغطية على هذا الفشل، أراد أن يحشر أنفه في شؤون أكبر منه، كقضية «أكديم إزيك»، إلا أنه نال نصيبه من التوبيخ ووجهت له تعليمات بالابتعاد عن هذا الملف. كان يظهر أنه الصديق المقرب من أمريكا اللاتينية، وها هي غالبية دولها تعترف ب«الجمهورية الصحراوية» المزعومة... كلما مر إلياس العماري بأزمة ما، يلجأ إلى مسقط رأسه، حيث يعتكف هناك، محاولا إيهام سكان دواره بأنه في مهمة. أي مهمة هذه؟ فسكان الريف أصبحوا يعرفون جيدا «حقيقة» إلياس العماري.