في مثل هذين اليومين من سنة 1947، كانت باخرة "كاتومبا" قد وصلت إلى ميناء بور سعيد بمصر، وعلى متنها الزعيم والبطل ابن عبد الكريم وحوالي 40 من أفراد عائلته، قادمة من جزيرة لارينيون القابعة في أقصى أقاصي القارة السمراء، وهي الباخرة التي كانت متوجهة عبر خليج عدن وقناة السويس نحو مدينة مارسيليا جنوبفرنسا، حيث قررت هذه الأخيرة نقل الأمير الخطابي إلى هناك، بعد أن قضى مدة 21 سنة من المنفى السحيق، وما أدراك ما المنفى، حيث امتد من سنة 1926 إلى غاية 1947. ففي خضم الأحداث والتحولات المتسارعة التي عاشها العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وما تمخض عن هذه التحولات من إفرازات على مستوى الخارطة الدولية آنذاك، كانت فرنسا، الدولة الاستعمارية، قد قررت، على ضوء ذلك، نقل محمد بن عبد الكريم من منفاه إلى إحدى المدن الفرنسية، وبالضبط إلى جنوبها حيث توجد مارسيليا. قرار، بطبيعة الحال، تحكمت فيه خلفيات استعمارية مرتبطة بسياق الظروف القائمة آنذاك، وهنا يمكن تسجيل عدة اختلافات في هذا الصدد بين المؤرخين في شأن دواعي إقدام فرنسا على نقل الخطابي وأسرته من المنفى، وهو اختلاف موزع بين القول بأن فرنسا كانت تروم من وراء ما أقدمت عليه إلى استعمال الأمير كورقة ضغط، وبين القول بأن هذه الدولة الاستعمارية كانت تسعى إلى التخلص منه، خاصة بعد المدة الطويلة التي قضاها بالمنفى وما ترتب عن ذلك من مضاعفات على وضعه الصحي، وبين التأكيد على أن فرنسا كانت تهدف إلى تحسين صورتها في البلدان المستعمَرة، خاصة دول العالم الإسلامي، من خلال السعي إلى إرجاع الأمير إلى بلده وإطلاق سراحه، بالنظر للسمعة والرمزية التي كان قد تمتع بها رمز كفاح الشعوب المستضعفة في مختلف بقاع العالم. وبين الاختلاف القائم على هذا الصعيد، تتباين القراءات والآراء أيضا على صعيد تسمية ما حدث أثناء توقف الباخرة التي كانت تقل الأمير ابن عبد الكريم ببورسعيد بأرض الكنانة، تسمية تختلف وتتوزع ما بين اعتبار الأمر على أنه "نزول" و"هروب"، وبين القول بأنه "لجوء سياسي"، وتأكيد من جانب آخر على أن الأمر يتعلق ب "إنزال" محبك و"اختطاف" مقنن،...إذ أن هناك غموض كبير يحوم حول الكثير من ملابسات إنزال الخطابي بمصر، بعد أن بعث أحد اليمنيين برسالة من عدن، حيث كانت قد توقفت الباخرة التي تقله، إلى الفلسطيني محمد علي الطاهر يخبره فيها بأن الباخرة "كاتومبا" ستمر عبر قناة السويس وعلى متنها الزعيم محمد بن عبد الكريم، حيث أبلغ محمد علي بدوره المغاربة الذين كانوا يتواجدون بالقاهرة إذاك، ومنهم على سبيل الذكر: ابن عبود وعبد الكريم غلاب وعبد المجيد بنجلون..الخ، حيث بدأت ترتيبات الإنزال المذكور من طرف هؤلاء، وقد اختلفوا في روايتهم لما حدث ! ما يهم من ذلك كله، ونحن نعيش الذكرى الخمسينية لرحيل البطل الهمام، هو أن ابن عبد الكريم حتى وإن تخلص من رقبة المنفى الإجباري السحيق الذي وضعته فيه المستعمرَة فرنسا، بعد وصوله إلى مصر الملك فاروق حينذاك، فإنه لم يستطع التخلص من قدر المنفى الاضطراري الذي لازمه بقية حياته، بل وحتى بعد مماته وهو يرقد في مقبرة العباسية بالقاهرة، بعد أن حرم ولو من شبر من الأرض التي كافح من أجل تحريرها واستقلالها ! منفى يمتد لأزيد من 87 سنة، أي منذ رحيله عن الريف سنة 1926. إنها، إذن، قصة استثنائية لمحارب ورمز وبطل استثنائي مع المنفى الإجباري والاضطراري. فهل يا ترى سيأتي اليوم الاستثنائي الذي سيعانق فيه الأمير الهمام وطنه؟ ذلك في حكم المحال، لو استمر الأمر على ما هو عليه. فرحم الله شيخ المقاومين وزعيم الشهداء.