على هامش مقال " نعم لأكادمية اللّغة العربيّة" الأستاذ الباحث السيّد موسى الشامي رئيس" الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية" يؤكّد فى مقاله – المنشور فى "هسبريس" بتاريخ (24 مايو2013) فى باب (كتّاب وآراء) تحت عنوان:"نعم لأكاديمية اللغة العربية ، لكن بشرط "، ويعبّرعن إقتناعه وموافقته وتبريكه لإنشاء أكاديمية اللغة العربية .. ولكنّ " بالشّرط " الذي يضعه لحقيق هذه الغاية (وهو محقّ فيما ذهب إليه)، وقد يطول فى هذا المقام شرح وتفسير وإبلاغ وتفنيد هذا " الشرط " الذي وضعه صاحب المقال لتحقيق هذه الغاية، وعليه فإنّه من المفيد أن يعود القارئ الكريم إلى هذا المقال القيّم والغيورعلى اللغة العربية ليتمعّن فيه، ويستكنه أغواره،ويستبطن معانيه، ويتدبّرمراميه، ويستقرئ أهدافه، ويدرس غاياته وأبعاده بنفسه بشكل مباشر وبدون وسيط ، وكذا ليستمتع بهذا العرض العميق، والتحليل الدقيق حول هذا الموضوع الحيوي الخطير الذي يتعلّق ببطاقة هويّتنا ، ورمز وحدتنا، ولسان ديننا الحنيف،واللغة التي إصطفاها الله تعالى لينزل بها قرآنه الكريم،ألا وهي اللغة العربية التي للأستاذ الشامي من دراية وعلم ومعرفة بأسرارها، وصدفاتها،ودررها، ومعانيها ،وأسرارها، وشواردها ما لقاطني بكّة من دراية وعلم معرفة عن شعابها وأرباضها وضواحيها . حيث تبدو "لغة الضّاد " كما يظهر أو يوحي مقال الأستاذ الشامي وكأنّها فى هذا البلد فى عراك مستميت، وصراع حادّ، ومواجهة عنيفة مع اللغة الفرنسية الدّخيلة - وبشكل خاص مع الحاقدين، والمغرضين، وغير التعاطفين مع لغة الضّاد ، أجل من الخير والجدوى العودة إلى هذا المقال الرّصين الذي يثلج الصّدر حقّا ، ويسّرالخاطر، لكلّ محبّ لهذه اللغة وغيور عليها . وينبغي التذكير فى هذا المقام أنّ تاريخ 18 ديسمبرمن كلّ عام – كما هو معروف - هو اليوم العالمي للغة العربية كما أقرّته منظمة اليونسكو العالمية. وفاتح مارس من كلّ عام هو اليوم العربي للإحتفال باللغة العربيّة ،كما أقرّته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم . وإحتفاء بهذا اليوم كذلك، أيّ باليوم العربي للغة الضاد، فى إطار سلسلتها الشهرية "أربعاءالفكر والإبداع" كانت قد نظمت اللجنة الوطنية المغربية للتربية والعلوم والثقافة بشراكة مع"الألكسو" مؤخّرا ندوة بالرباط تحت شعار"اللغة العربية ومجتمع المعرفة" ، وعرفت بيروت كذلك فى نفس الإتجاه لقاءات تحت عنوان " اللغة العربية من مخاطر الجمود إلى تداعيات التجديد". كما عرفت دبيّ لقاءات أخرى مماثلة تحت عنوان " اللغة العربية في خطر، الجميع شركاء في حمايتها"، وسواها من اللقاءات الأخرى. والواقع أنّه قد كثرت الدّراسات فى المدّة الأخيرة، وتعدّدت النّقاشات، والمناظرات ،والمؤتمرات فى العديد من البلدان العربية،وخارجها، وفى مجامع الخالدين، والأكادميّات ،والمعاهد المتخصّصة، والجامعات، والجمعيات اللغوية ، وفى غيرها من المحافل والمرافق الأخرى فى لقاءات متواترة ومتوالية لا تنتهي ولا تتوقف بخصوص مختلف المواضيع، والتساؤلات، والإشكاليات، والتخوّفات التي أصبحث تثار وتترى بين الفينة والأخرى حول اللغة العربيّة ، ومدى قدرتها على مسايرة العصر، وإستيعاب علومه وهضمها واستعمالها ، فضلا عن العراقيل والعقبات والصّعوبات التي تواجه بلدا مثل المغرب (كي نبقى فى قعر بيتنا) فى تطبيق وإستعمال وتداول اللغة العربية فى بلد يقرّ دستورها بأنّها لغته الرّسمية.. ! وحريّ بنا والحالة هذه أن نتساءل من جهة أخرى بهذه المناسبة بشكل متواز : ما هو واقع اللغة العربية اليوم..؟ وإلى أين هي تسير ..؟ ما هي التحديّات التي أمست تواجهها..؟ أوالشكوك أوالإتّهامات التي أصبحت توجّه لها..؟ وهل تعاني العربية حقا أيّ إنتقاص أو نقص، أو قصورأو تقصير، أو رجعة أوتراجع فى دورها الحضاري الرائد الذي إضطلعت به على إمتداد الحقب والأزمان..؟ وهل هي فى حاجة لترتدي اليوم درع الوقاية والدفاع يحميها هجمات االكائدين ، ويقصي عنها إدّعاءات المغرضين والحاقدين..؟. الرّيفيّة والسوسيّة وتاشلحيت و قبل الخوض فى موضوع اللغة العربية تجدر الإشارة فى المقام الأوّل أنّ الدّفاع عن لغة القرآن الكريم التي أصبحت من هويّات هذا البلد الأمين، لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والإهتمام، والنّهوض، والدّفاع المستميت كذلك بشكل متواز عن عناصر هامّة وأساسيّة أخرى لشخصيتنا المغربية، وهي اللغات الأمازيغية الأصليّة (الرّيفية، والسّوسية، وتاشلحيت) التي تعايشت مع لغة الضّاد منذ وصول أو دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والأصقاع،وحسبي أن أشير فى هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائما بين هذه اللغات برمّتها،والذي لم يمنع أبدا فى أن يكون هناك علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق المغرب، وكان العربيّ يفتخر بإخوانه من البربرالأمازيغ ، والعكس صحيح، قال قائلهم : وأصبح البرّ من تكراره علما... على الخير والنّبل والمكرمات. البرّ(بكسر الباء) الذي يعني الخير والإحسان إذا كرّر أصبح (برّبرّ). وهذا شاعرآخر من الرّيف ينشد متحسّرا على مدينته التي إندرست، إندثرت، وتلاشت بعد التعايش والإزدهار الذين عرفتهما من قبل، مستعملا ثلاث لغات فى بيت واحد من الشّعر وهي : العربيّة ، والرّيفيّة، والسّودانية، فقال: أثدّرث إينو ماني العلوم التي دكم..... قد إندرست حقّا وصارت إلى يركا . وقيل إنّ " يركا " باللغة السّودانية تعني الله، وبذلك يكون معنى البيت : أيا داري أين العلوم التي كانت فيك..... قد إندرست حقّا وصارت إلى الله . العربيّة لغة حيّة فيما يتعلّق باللغة العربية فقد سبق أن تخوّف فريق من قبل من عدم إمكانيتها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل، كما تحمّس فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة مستشهدا بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضّاد في نقل العلوم وترجمتها شأوا بعيدا، ولقد كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يصبح حديث جميع المجالس والمنتديات في مختلف البلاد العربية وخارجها . الواقع أنّ اللغة العربية ليست في حاجة الى إرتداء أيّ نوع من دروع الوقاية للدفاع عن نفسها ، إذ تؤكّد كلّ الدلائل والقرائن قديما وحديثا انّ هذه اللغة كانت وما تزال لغة حيّة مكتملة الجوانب ، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض الخصوم و المتشكّكين من نعوت وعيوب كانت قد أثارتها زمرة من المستشرقين الحاقدين في منتصف القرن المنصرم،حيث إختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم ،وما كانت لتعدّ مشاكل ونواقص تحول دون الخلق والتأليف والإبداع، وإنما كان الغرض من ذلك إثارة البلبلة بين أبناء هذه اللغة، وبثّ الشكوك فيما بينهم حيالها، وهم أنفسهم يعرفون جيّدا أنّها لغة تتوفّرعلى جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر، ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين القضاء عليها، وإحلال محلّها لغة المستعمر الدخيل. ويؤكّد الأستاذ الشامي نفسه هذه الحقيقة البديهيّة فى مقاله الآنف الذكرإذ يقول: " أمّا ما يتعلق ب"تطوير" اللغة العربية ، فاللغة العربية لا تحتاج إلى تطوير.هي لغة جاهزة ( هناك على سبيل المثال كتب علمية في منتهى الدقة تأتينا من الكويت تثبت لخصوم العربية أن هذه الأخيرة لغة علم بامتياز و ليست لغة الدين و الأدب فحسب، و هي لغة قادرة ،والكتب المشار إليها تثبت ذلك، على التعبير عن جميع دقائق الإشكالات العلمية و التكنولوجية الحديثة ...) و إذا كان تطوير اللغة العربية نعني به إحداث مصطلحات لها ، وهو ما تقوم به المجامع العربية اللغوية في تشرذم واضح لجهودها ، فهذا ربما هو الذي يحتاج إلى هيئة أو أكاديمية على مستوى العالم العربي لتنسيق الجهود ". (إنتهى كلام الأستاذ الشامي). من القضايا والإشكاليات المشهورة التي يجدر بنا التذكير بها ، والتي كانت قد أثيرت فى هذا المضمار: الحرف العربي ، والنحو العربي، والشّكل، والعاميّة والفصحى.. إالخ . الحرف العربيّ أمّا بالنسبة للحرف العربي فقد تعدّدت محاولات إصلاحه وتحسينه، ولكنّها باءت بالفشل الذريع ، وظلّت الغلبة للأشكال المتوارثة التي كتبت بها عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الميادين العلميّة والفلسفية والأدبية ...وسواها، زعموا أنّ شكل الحرف العربي الراهن وتركيبه لا يتّفق مع العصر، وأنّ رصف صفحة بالخط الفرنجي يعادل في الزمن رصف صفحتين بالخط العربي لتزايد عيون الحرف العربي التي تتعدّد وتتغيّر بتغيير مواقعها فى الأوّل أو الوسط أو الأخيروهكذا...فقدّم لنا كثير من الباحثين أشكالا متباينة لخطّ جديد تشبه الى حدّ بعيد رسوم الخط الفرنجي، غير أنّ القارئ العربي يكتشف منذ الوهلة الأولى أنّها فى غالبيتها أشكال غريبة عليه يمجّها ذوقه العربي السليم، بل إنها فى بعض الأحيان تكلّفه عناء شديدا في هجاء حرف واحد منها ،والحقيقة أنّ جمالية الخط العربي أو حرفه لا تبارى ، فقد ثبت الآن أن الحرف العربي حرف مثالي في جمال تكوينه وشكله وتنوّعه والتوائه واستوائه وتعريجاته وإختصاره، وإن الصّفحة الواحدة من الكتاب العربي لو كتبت بالحرف اللاتيني لاحتاجت إلى صفحتين على الأقل، فالكتاب المؤلف من مائة صفحة بهذا الخط الجميل لا يمكن رصفه بأقل من مائتي صفحة بالحرف اللاتيني، ثم إن تطوّر وإستعمال الحواسيب الإلكترونية المتطوّرة الحديثة تتّجه سريعا نحو أساليب جديدة مبتكرة للكتابة ،ومعنى ذلك هو العدول بالتدريج عن أسلوب الرّصف الحرفي وإختصار القوالب،وقد توصّل بعض العلماء إلى إبتكار رسوم حديثة للحرف العربي لا تخرجه عن شكله ولا تبعده عن أصله ومع إستعمال الكومبيوتر وإحتضانه وقبوله للحرف العربي بسهولة ويسر بنجاح باهر و بنتيجة مذهلة سقطت دعوى الدّاعين إلى إستبداله بالحروف اللاتينية، وبذلك يفقد خصوم الضّاد هذه المعركة. حقّا إنه لمن السّخف أن نجد بين ظهرانينا من تسمح لهم أ نفسهم الدعوة إلى إستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، متّخذين ممّا إبتدعه مصطفى أتاتورك للّغة التركية مثالا يحتذى، وكذلك بدعوى السهولة واليسر وضبط الكتابة، وإبراز حركات الحروف، وهذه الدعوى باطلة من أساسها ، تحمّس لها بعض ذوي النيّات السيّئة من خصوم هذه اللغة عربا كانوا أم أجانب . ومن بين المفكّرين الذين كانوا قد تحمّسوا لهذه الدّعوى ذوي الثقل الخاص في القرن الماضي الكاتب سلامة موسى فى مصرالذي دافع عن هذه الفكرة ، وقدّم تبريرات ومقترحات فى شأنها ، يقول:"هذا السّخط الذي يتولانا كلما فكّرنا فى حالنا الثقافية وتعطيل هذه اللغة لنا عن الرقيّ الثقافي، تزيد حدّته كلما فكّرنا وأدّى بنا التفكير الى اليقين بأن إصلاحها مستطاع ، والقلق عام ولكنّ الجبن عن الإبتكار أعمّ .ولذلك قلّما نجد الشجاعة للدّعوة إلى الإصلاح الجريئ إلا فى رجال نابهين لا يبالون بالجهلة والحمقى مثل قاسم أمين ، أو أحمد أمين في الدّعوة إلى إلغاء الإعراب، ومثل عبد العزيز فهمي حيث يدعو إلى الخطّ اللاتيني وهو وثبة المستقبل لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التى أغلق عليها هذا الخطّ أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها" . ولقد قدّم سلامة موسى بعض المقترحات نجملها فيما يلي: " الحاجة إلى إلغاء الإعراب ،وميزاته أوّلا : الإقتراب من التوحيد البشري لأنه وسيلة للقراءة والكتابةعند الذين يملكون الصناعة ، أي العلم والقوّة والمستقبل.وهذا الخط تأخذ به الأمم التي ترغب فى التجدّد كما فعلت تركيا ، ومن المرجّح أن يعمّ هذا الخط العالم كله تقريبا". ثانيا:حين نصطنع الخط اللاتيني يزول هذا الإنفصال النفسي الذي أحدثته هاتان الكلمتان المشؤومتان : شرق وغرب،ويضمن لنا أن نعيش العيشة العصرية ،ولابد أن يجر هذا الخط فى أثره كثيرا من ضروب الإصلاح الأخرى مثل المساواة الإقتصادية بين الجنسين، و التفكير العلمي، والعقلية بل والنفسيّة العلمية أيضا،إلخ . وثالثا ورابعا وخامسا: إننا عندما نكتب الخط اللاتيني نجد أن تعلّم اللغات الأروبية قد سهل أيضا،فتنفتح لنا آفاق هي الآن مغلقة."ويختم سلامة موسى بالتساؤل التالي :"وبالجملة نستطيع أن نقول إن الخط اللاتيني هو وثبة في النور نحو المستقبل ،ولكن هل العناصرالتي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة ؟". لا شكّ أن القارئ الكريم يلاحظ كم في هذه الدعوة من مغالاة ، كما يتبيّن له ولا ريب أنّها لا تسنتد إلى أساس سليم تبنى عليه، وإنّما هي دعوة تخريب أكثر ممّا هي دعوة بناء، فهي بالتالي دعوة باطلة كغيرها من الدعوات المشبوهة التى لا ترمى سوى إلى تشتيت التراث العربي وتشويهه. ولقد حاق بدعوة سلامة موسى فشل ذريع، كما باءت بالفشل دعوات غيره من أمثال أمين شميل ، وعبد العزيز فهمي، وقبلهما الدكتور سبيتا ،وويلمور، ووليم ويلكوكس ، وغيرهم من المغرضين، وظلت السيّطرة للحرف العربي ، ثم ماذا كان سيفعل هؤلاء في كثير من الحروف العربية التى لا تجد لها رسما سوى فى النطق العربي كحروف : الحاء، والغين ، والعين، والذال، والضاد، والطاء، والقاف،والثاء ،والهاء..إلخ. ثم ماذا سيكون موقفهم من التراث العربي الزاخر المكتوب بحروف عربية؟ . وهكذا وئدت هذه الدّعوة في مهدها . النّحو العربي إنّ النشء من متعلّمي اللغة العربية يشتكون من صعوبة نحوها ، والحقّ أنه ما من " نحو " في أيّ لغة من لغات الأرض إلاّ ويعاني أصحابها من هذه الشكوى . ولقد أصبح نحو " اللغة الألمانية " مضرب الأمثال فى الصعوبة والتعقيد، على أن قواعد اللغة العربية ليست أشدّ صعوبة من هذه اللغة أو تلك، يقول الدكتور محمد كامل حسين عن النحو العربي:" الواقع أن قواعد اللغة العربية بسيطة جدّا يمكن الإلمام بها بعد درس غير مرهق ، ولا يحتاج المتعلّم بعد ذلك إلا الى المران على تطبيق هذه القواعد الشاملة فيستقيم بذلك لسانه دون عناء كبير". إن الخطأالفادح الذى يقع فيه واضعو مناهج التعليم كونهم يلقنون القواعد في صورتها الجافة قبل النصوص ،فى حين نجد القائمين على مناهج التعليم فى المدارس الأوربية على إختلافها يعوّدون التلميذ على التعامل مع النصّ فى المقام الأول، فهو يقرأ ويعيد ويحفظ من غير أن يكون ذا إلمام بعلم النحو ، ثم يطبّق بعد ذلك ما قرأه على القواعد فإذا أردنا الخروج بنحونا من صلابته علينا أن نكثر في المراحل الأولى من مناهج تعليمنا من النّصوص، فالتعامل مع النصّ يكسب الطالب أو المتعلّم سليقة فطرية ،ويعوّده بطريقة تلقائيةعلى أشكال الحروف وبنائها وتراكيبها وتعدّد أساليبها ، فقد وجدت النصوص مذ كانت العربية ،أمّا النحو" كعلم قائم مدوّن" فلم يوضع إلاّ فى زمن متاخّر، أي ّفى القرن الأوّل الهجري على يد أبي الأسود الدّؤلي (المولود فى603 م والمتوفّى 688 م) . لقد كانت العرب إذن تنطق بالسليقة ، ولا تخطئ أبدا فى كلامها من غير أن تعلم لماذا كان الفاعل مرفوعا ولا المفعول منصوبا،كما أنّ كثيرا من علماء العربية وواضعي معاجمها المشهورة (أوّلهم الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب أوّل معجم فى العربية وهو معجم " العين") كانوا يقصدون الأعراب فى البوادي حيث العربية سليمة نقيّة غير مشوبة فيأخذون عنهم النطق الصحيح،ومعروف عن الزمخشري، والأصمعي، والكسائيّ ،وابن خالويه وسواهم كانوا يؤمّون البوادي ويسجّلون المعاني المستعملة عندها. إذن فالشكوى من النحو هي شكوى من قواعده الجافة الموضوعة في قوالب مملّة شأنها شأن القوانين الجامدة، أمّا اللغة العربية فالدّليل قائم –قديما وحديثا- على أنّ المران والممارسة يكسبان دارسيها مهارة فائقة على التركيب السليم ، والنطق الصحيح ،وكم من متعلم أو كاتب لم يدرس القواعد ومع ذلك يستطيع أن يكتب ويؤلّف نتيجة الممارسة والقراءة المتواصلة، القول المعرب إذن قوامه القراءة الكثيرة، والخوض فى النصوص ، وهذا ما نرجو أن يتمّ ويعمّم فى مناهج تعليمنا ، أيّ مضاعفة حصص النصوص وحسن إختيارالقواعد. وإنطلاقا من النصّ ودراسته نستنتج القاعدة التى بني عليها هذا النصّ،وهذا معناه التطبيق الفعلى للدّراسة النظرية. وقديما قيل: ولست بنحويّ يلوك لسانه .... ولكن سليقيّ أقول فأعرب وكم من محاولات لتبسيط النحو العربي التي تقدّم بها غير قليل من الدارسين ظلت حبرا على ورق دون أن تغيّر شيئا من المشكلة القائمة، أمّا مسألة الشاذ في اللغة الذي يخرج عن المألوف والإستعمال يظلّ صورة متحفية لنطق بعض القبائل العربية القديمة لا ينبغي أن نأخذ به، فالشاذ أو الشارد أو النادر لا حكم له كما يقال. ولعلّك لا تتّفق مع القائل : خطأ مشهور خير من صواب مهجور !. مسألة الشّكل وتنبثق عن النحو العربي مسألة أخرى يرى فيها البعض مشكلة قائمة بذاتها وهي مسألة" الشّكل" شكل الحروف العربية أو ضبطها تفاديا للغموض واللبس والإبهام. وهناك إتهام مشهور يوجّه لأبناء اللغة العربية، في هذا الصدد، وهو أنه حتى كبار دارسيها يحارون أو يتعثّرون فى بعض الأحيان عند قراءة نصّ من النصوص العربية مخافة الخطأ او اللحن ومن أجل شكلها شكلا صحيحا. على حين أننا نجد القارئ الفرنسي – مثلا- حتى وإن كان دون مستوى مرحلة الثانوية العامّة (الباكالوريا) يقرأ النصوص فى لغته بطلاقة من غير أن يرتكب خطأ واحدا، وهذه من أخطر الإتهامات التي توجّه للغتنا، ويرى فى ذلك الباحثون رأيين إثنين، يقول الأوّل:أنّ اللغة العربية ليست صعبة كما يدّعون، بل إنّ النقص كامن فيمن لا يجيدها حقّ الإجادة، وإذا كان المرء عالما بأصولها، مطلعا على أسرارها ، دارسا لقواعدها، ملمّا بأساليبها فإنّه لا يخطئ أبدا، في حين يذهب الرّأى الآخر أنّ العربية فعلا تشكو من هذه النقيصة ،ففيما يخصّ شكل الكلمات على الأقل. هناك كلمات يحار المرء فى قراءتها القراءة الصّحيحة وقد يقرأها على غير حقيقتها ، وهناك أخرى يمكن نطقها على خمسة أو ستة أوجه، وهذه مشكلة فى حدّ ذاتها ، ولكن كما أسلفت آنفا فإنّه مع المران والقراءة المتعدّدة وتتبّع السّياق كلّ ذلك يساعد على تفادى أمثال هذه الأمور التي لم تحل أبدا دون التأليف والخلق والإبداع المستمرعلى إمتداد التاريخ العربي الحافل بجليل الآثار فى كلّ علم. الفصحى أم العاميّة وفي منتصف القرن الماضي كذلك حار قوم فى إستعمال الفصحى أم العامية ؟. ولقد تعدّدت الدراسات فى هذا المجال بين مؤيّد للعامّية متعصّب أعمى لها بدعوى التبسيط والسهولة واليسر ، وبين مستمسك بالفصحى لا يرضى بها بديلا . والحقيقة التى أثبتتها السّنون أنّ الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعامية وعمل على نشرها وتعميمها في محاولة القضاء على الفصحى ، والغرابة أنّ هؤلاء الذين كانوا متحمّسين للعامية عادوا جميعا يكتبون عربية فصحى ناصعة صافية نقيّة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فى فترة مّا من فترات حياة أديبنا المرحوم محمود تيمور كان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية بل إنه كتب قصصا بها غير أنه سرعان ما عاد كاتبا عربيا مبينا ، بل ومتحمّسا كبيرا للفصحى ومدافعا عن لوائها كعضو بارز فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة . ودعوات سعيد عقل فى لبنان وسواه من الكتّاب المعاصرين إلى إستعمال العامية معروفة وسال بسببها حبر غزير. لغة الضّاد والمستشرقون العالم يركض ويجري من حولنا ، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يوميا.والإختراعات تلو الإختراعات تترى فى حياتنا المعاصرة..ونحن ما زلنا نناقش ونجادل فى أمور كان ينبغى تفاديها أو البتّ فيها منذ عدّة عقود ، ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد إنصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل من قوّتها و زخمها وعنفوانها وشبابها المتجدّد حبّة خردل..؟ إنها ما زالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعص عليها دين ولا علم ولا أدب ولا منطق، إنّها ما زالت مشعّة نضرة حيّة نابضة خلاّقة مطواعة معطاء، لقد شهد لها بذلك غير قليل من الدّارسين والمستشرقين ، وإعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على إمتداد الدّهور والعصورفى هذا القبيل . يقول المستشرق الفرنسي لوي ماسّنيون فى كتابه " فلسفة اللغة العربية":لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائما لغةعلم ، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث ، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التى طبعتها على إمتداد قرون خلت،إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية ، ولها قدرة خاصة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والإختصار..إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلا في جمل طويلة. إنّه يضرب لذلك مثالا فيقول: للعطش خمس مراحل فى اللغة العربية ،وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء ،وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصدى،والأوّام، والهيام ، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان "هائم" هو الذي إذا لم يسق ماء مات، ويقول ماسّينيون :"نحن فى اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطرا كاملا وهو"إنه يكاد أن يموت من العطش" ولقد أصبح "الهيام"(آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشديد. وآخر مراحل الهوى والجوى والوله والصّبابة. يرى بروكلمان أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع إنتشارا تكاد لا تعرفه أيّ من لغات الدنيا. ويرى إدوارد فان ديك: أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراء من حيث ثروة معجمها و إستيعاب آدابها. المستشرق الهولاندي دوزي(صاحب معجم الملابس): يقول إن أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا إهتماما يذكر للغة اللاتينية وصاروا يميلون للغة الضاد ويهيمون بها ممّا أثار حفيظة الرهبان. يوهان فك: يؤكّد أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة فى التاريخ،. جان بيريك: العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة الإسلامية في لغة المستعمر الدخيل.جورج سارتون: أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين.وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تخف إعجابها الكبير بلغة الضاد يضيق المجال لسردها فى هذا المجال. العربية إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التى طبعتها بإستمرار، ويتّضح لنا بالتالى أنّ ما يدّعيه البعض من مشاكل فى هذه اللغة ليست سوى حواجز يضعها الحاقدون حجرعثرة فى مسيرتها الظافرة ،ويختلقها الناقمون على تراثها وحضارتها الزاخرين. ***** *كاتب من المغرب يقيم فى إسبانيا (غرناطة)،وخبيرسابق فى مكتب تنسيق التعريب فى الوطن العربي بالرّباط،التابع للمنظّمة العربية للتربيّة والثقافة والعلوم (الألكسو).