لقد قرأت مقالا لأحد الباحثين المغاربة على جريدة "هسبريس" ينكر فيه عصمة الأنبياء، وظهر لي فيه كثير من الأخطاء الفكرية والمنهجية، وأنا أعرضها هنا بشيء من التفصيل مع التوجيه. إن نفي العصمة عن الأنبياء مقدمة لنفي النبوة أصلا، فما الفرق بيننا وبينهم إذا كانوا مثلنا غير معصومين؟! ثم من الذي يؤكد لنا أن ما بلغوه لنا وما فعلوه سنة لنا كان صوابا ولم يكن خطأ؟ فلذلك وجب بيان معنى العصمة. وهذا ما سأتناوله في هذا الموضوع إن شاء الله تعالى. 1- معنى عصمة الأنبياء: لم يُعرّف لنا صاحب المقال ما الذي يقصده بالعصمة؟ فإن كان عدم الخطأ بصفة نهائية فلا نعلم أن أحدا من أهل العلم قال بهذه العصمة، وإنما هذه للملائكة لا للأنبياء، فقد قال الله تعالى في حق الملائكة: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون} [التحريم:6]. والملائكة عليهم السلام مخلوقات خاصة، لا تعرف الشهوات ولا يسري عليها الخطأ والنسيان، فهو مجبولة مقهورة على الطاعة. وأظن أن الباحث يفهم معنى العصمة على هذا الوجه، فهو يرد على فهمه هو، لا على ما سطره العلماء في مفهوم العصمة. وعصمة الأنبياء في مفهوم العلماء يقصدون بها شيئين: أ- أن الله يعصم أنبياءه ويُحيل بينهم وبين الخطأ في التبليغ، فلا يُتصور أنّ نبيا قد أخطأ في تبليغ شرع الله للناس، سواء عن عمد أو عن سهو ونسيان. ولذلك لما كان عليه السلام يعجل إلى تكرار ما أنزل عليه خوفا من نسيانه قال له تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة:17]. ولا يستطيع مسلم أن يقول إن نبيا من الأنبياء أخطأ في تبليغه لآية ما من كلام الله، أو أنه أخطأ في تحريم حرام فأحله، أو تحليل حلال فحرمه. وإلى يكون كلامه محض سخف ظاهر، فهذا حصل عليه الإجماع، ولا يُتصور وجوده في الأنبياء. ب- والمعنى الثاني للعصمة أن الله يعصم أنبياءه من تعمد الخطأ، وهذا يعني أنه يستحيل أن يخطط النبي لفعل الخطأ ويقصده، وهذا الفعل بشع سمج من الناس العاديين فكيف بالأنبياء عليهم السلام؟. أما ما صدر عن بعض الأنبياء فهو من باب الخطأ غير العمد، أو من باب الصغائر التي لا تحط من قيمة العصمة . 2- بعض أخطاء الأنبياء وتوجيهها: يعجب الإنسان حقا كيف لمن يدعي أنه مسلم عارف بالدين أن ينظر نظرة احتقار للأنبياء، فبدل أن ينافح عنهم وأن يظهر فضلهم وعلو مكانتهم، يروح إلى التقليل والتحقير من شأنهم، وهذه علامة خذلان نعوذ بالله منها. لقد ساق الكاتب مجموعة من الأحداث وقعت للأنبياء كدليل على نفي عصمتهم، وقال إنها تخرم شرط العصمة، وأنا ذاكر هنا بعضها مع بيان حقيقة فعلهم عليهم الصلاة والسلام: أ- معصية آدم عليه السلام: يقص الله تعالى علينا معصية آدم في غير ما موضع من القرآن، وقد صرح تعالى أن آدم عصى ربه، ثم تاب فتاب الله عليه، قال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه:121] والسؤال المطروح هنا، هل هذه المعصية كانت عن عمد أم عن غير عمد؟ فيأتي جواب الله تعالى نفسه ليقول: {وعهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} [طه:115]، لا بد أن نضع سطرا على فعل {نسي}، فمعصية آدم إذاً كانت عن نسيان ولم تكن عن عمد، وقد عمل الشيطان بدهائه على إغوائه، فوقع في الغواية عن غير قصد. ولذلك بمجرد أن فطن عليه السلام للذنب خر نائبا إلى الله وتاب إليه وقال هو وزوجته: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف:23]. فهل هناك عذر أكثر من عذر النسيان الذي ذكره الله تعالى لآدم؟ ومعلوم بالضرورة أن الخطأ مع النسيان ليس كالخطأ مع العمد، ولذلك قال عليه السلام: «إن الله قد تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ب- معصية موسى عليه السلام: ذكر صاحب المقال أن موسى قد عصى الله بقتله للنفس البشرية. وموسى عليه السلام قد كان سببا في موت الرجل الذي وكزه وهو يدافع عن أحد أتباعه المسلمين، وقد صرح القرآن بذلك، قال تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} [القصص:15]. ولكن القرآن نفسه يذكر لنا أن موسى عليه السلام لم يقصد قتله، وهذا واضح من قوله تعالى {فوكزه}، والوكز في اللغة معروف، وعادة لا يسبب القتل، وإنما يكون لثني الإنسان عن الحركة فقط، ولكن وكزة موسى كانت قوية تسببت في قتل القبطي. فلو قال تعالى: "فقتله موسى" لكان الأمر يحتمل، ولو قال تعالى: "فضربه بالسيف" لقلنا قد قصد قتله، وكل ذلك لم يكن. فوجب أن نفرق بين قصده القتل، وبين قصده الوكز فقط. ولذلك لما رأى موسى أنه قد تسبب في موت الرجل هاله الأمر وعظم في عينه وأصبح حائرا. وقال: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} [القصص:15] ولنكتف بهذين المثالين لأنهما أهم ما يضرب بهما المثل في التدليل على خطأ الأنبياء، أما غيرهما فأمرهما أهون. وانطلاقا من هذا نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من تعمد الخطأ كيفما كان نوعه؛ جليلا أو حقيرا. فهم عليهم السلام لم يعصوا الله عن سابق إصرار وترصّد كما يفعل معظمنا. ومن رجع إلى قصصهم يرى ذلك بوضوح. ثم إن ما صدر منهم عليهم السلام كان عن غير عمد كما رأينا مع موسى وآدم عليهما السلام. وقد أجمع جميع المسلمين سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة على أن الأنبياء معصومون من الخطأ في التبليغ والبيان، ولو سرى الخطأ إلى تبليغ شرع الله تعالى لسقطت النبوة بأسرها، ودخل الشك في جميع الشرائع. ونفي العصمة عن الأنبياء مقدمة لنفي النبوة.