في الخطاب التأسيسي لدولة الخلافة الراشدة، التي تأسست عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الراشد الأول أبو بكر الصديق (1ق ه. 13ه / 573 634م) رضي الله عنه المبادئ الدستورية لهذا النظام السياسي الجديد والمتميز عن كل نظم الحكم التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل نظم الفرعونية .. والكسروية.. والقيصرية.. وحكم الأنبياء وبني إسرائيل ... كما وضع أبو بكر في هذا الخطاب آداب الإمارة في هذا النظام السياسي الجديد.. ففي مواجهة شهوة الزهو بالسلطة، جاء الخطاب مليئًا بالمواعظ التي ترقق القلوب، وبعبارات التواضع اليت تستبعد الزهو وتنبئ عن استشعار خطر المسئولية العظمى التي يحملها الخليفة أمام الله والناس.. ولأن أبا بكر قد ولى الخلافة بعد دولة النبوة، التي جمع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بين "السلطة الزمنية" وبين "النبوة الدينية"، كان حرص أبي بكر على نفي أي سلطان ديني عن سلطة الخلافة السياسية.. فالأمة والخليفة واحد منها هي المستخلفة في الحفاظ على ميراث النبوة، وليس للخليفة سلطان ديني معصوم في هذا المقام بل إن العصمة في السياسة الشرعية هي للأمة، التي لا تجتمع على ضلالة.. ومن هنا جاءت كلمات الصديق الجامعة التي ترسي هذه المبادئ، حتى لا يفعل حاكم فيدعى لنفسه سلطان النبوة وعصمتها : (إني وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.. إن الله اصطفى محمدا وعصمه.. فلقد كان يوحى إليه.. وإنما أنا متبع، ولست بمبتدع.. وإنما لي شيطان يعتريني.. فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني).. أما ما للخليفة على الناس من طاعة، فمشروطة بأن تكون أوامره ومناهيه طاعة لله سبحانه وتعالى فهي رهن بالتزامه شريعة الله وقانون الأمة التي هي مصدر السلطات تولي الحاكم وتراقبه وتحاسبه وتعزله عند الاقتضاء مع ضبط سلطتها بشريعة السماء وفي ذلك قال الصديق في خطابه الأول : (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) ومن وظائف الولاية، (الدولة)، وواجباتها: تقوية الضعيف وإعانته على أن يأخذ حقه، وإضعاف المعتدي على حقوق الضعفاء، المتسلح بقوته.. وفي تحديد هذا الواجب على الدولة قال الصديق: (الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريج عليه حقه.. والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه).. ومن وظائف هذه الدولة أيضًا "الجهاد" لكسر شوكة أعداء الدين وذلك حتى تظل السبل ممهدة أمام حرية الدعوة والدعاة: (لا يدع قوم الجهاد.. فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل).. كذلك حذر أبو بكر الأمن من شيوع الفاحشة.. فالخطأ وارد.. وكل بني آدم خطاءون.. لكن شيوع الفاحشة منذر بهلاك الجميع: (ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء) تلك معالم في تراثنا السياسي، تحتاج إلى الفقه.. وإلى الاستلهام.