يمثل التصنيف الذي تبناه القاضي عياض اليحصبي السبتي مرحلة متقدمة في تصنيف التصرفات النبوية. فقد أشار في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى إلى تقسيم مبتكر ينم عن فهم عميق للنبوة ولتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم. وأظنه أول من استوعب أنواع التصرفات النبوية، وأعطى كل نوع منها حظه وبين حكمه إجمالا. وقد أورد ذلك في القسم الثالث من كتابه، وعنونه كالتالي:فيما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم وما يستحيل في حقه أو يجوز عليه وما يمتنع أو يصح من الأحوال البشرية أن يضاف إليه. وهكذا جعل أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم قسمين هما: ما يختص بالأمور الدينية، وما يختص بالأمور الدنيوية والعوارض البشرية. ونورد هنا الأنواع التي أوردها في كل قسم وسمات كل نوع منها . أولا ـ فيما يختص بالأمور الدينية. وهذا النوع قسمان: ـ ما كان طريقه البلاغ، من الأحكام وأخبار المعاد وغيره مما أوحي إليه به، والرسول صلى الله عليه وسلم فيه معصوم. لأنه وقع إجماع المسلمين أنه لا يجوز عليه خلف في القول في إبلاغ الشريعة، والإعلام بما أخبر به عن ربه، وما أوحاه إليه من وحيه، لا على وجه العمد ولا على غير عمد، ولا في حالي الرضى والسخط، والصحة والمرض. فلا يصح أن يوجد فيما يبلغه عن الله خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان. ـ ما ليس سبيله سبيل البلاغ، من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحي، بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه. فهذه أخبار يجب تنزيه الرسول في أن يحدث فيها بشيء بخلاف مخبره، أي تنزيهه عن الكذب فيها لا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً، وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه وفي سخطه، وجده ومزحه وصحته ومرضه. كما أنه لم يرد في شيء منها استدراكه صلى الله عليه وسلم لغلط في قول قاله، أو اعترافه بوهم في شيء أخبر به، ولو وقع ذلك ـ حسب القاضي عياض ـ لنقل كما نقلت قصته عليه السلام في رجوعه صلى الله عليه وسلم عما أشار به على الأنصار في تلقيح النخل ـ وكان ذلك رأياً لا خبرا، وكقوله صلى الله عليه وسلم: والله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي حلفت عليه وكفرت عن يميني ، على أساس أن هذا أيضا رأي تغير لا خبر ظهر كذبه. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي ..... فهذه نماذج لما كان منه صلى الله عيه وسلم من باب الرأي، أما هنا فالمقصود هو نقل الأخبار. ومن أسباب استحالة الكذب في النقل ولو في ما سبيله غير البلاغ أن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار استريب بخبره، واتهم في حديثه، ولم يقع قوله في النفوس موقعاً. ومنها أيضا أن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية، والإكثار منه كبيرة بإجماع، مسقط للمروءة. وكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة، والمرة الواحدة منه فيما يستبشع ويستشنع مما يخل بصاحبها، ويزري بقائلها. وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات كما لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ. وأما الصغائر فقد جوزها عليهم جماعة من السلف وغيرهم، وذهب طائفة من الفقهاء والمتكلمين إلى عصمتهم منها. وعلى كلا القولين لا يجوز أن يختلف على أنهم معصومون عن تكرار الصغائر وكثرتها وعن صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة، وأسقطت المروءة، وأوجبت الإزراء والخساسة. وقد أطال القاضي عياض في تفصيل كلا النوعين وإعطاء الأمثلة والشواهد عليه. ثم أورد القاضي عياض خلاصة هذا الباب بالتأكيد على أن فائدته الأولى التأكد من ثلاثة أمور هي: ـ عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته، و(عن) كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة، بعد النبوة عقلاً وإجماعاً، وقبلها سماعاً و نقلاً، ولا بشيء مما قررناه من أمور الشرع، وأداه عن ربه من الوحي قطعاً عقلاً وشرعاً، ـ وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله، قصداً أو غير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعاً وإجماعاً، ونظراً وبرهاناً، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً، ـ وتنزيهه عن الكبائر إجماعاً وعن الصغائر تحقيقاً، ـ وتنزيهه عن استدامة السهو والغفلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته، من رضاً وغضب، وجد ومزح . وهذا يعني أن القاضي عياض خصص هذا الباب للتأكيد على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله أولا، وعصمته عن الكذب في جميع أخباره ولو لم تكن وحيا أو شرعا، لأن ذلك سيؤدي إلى الشك في الرسالة النبوية. ثانيا ـ فيما يخص الأمور الدنيوية والعوارض البشرية. وذكر فيه : ـ التغيرات والآفات الجسمية، والرسول صلى الله عليه وسلم فيها مثل غيره من البشر، فيجوز عليه من الآلام والأسقام والعوارض ما يجوز على سائرهم. وهذا كله ليس بنقيصة فيه، كما أن تلك العوارض مختصة بجسمه، أما باطنه فلا يجوز عليه ما يخلّ به، ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يليق به. ـ ما يعتقده في أمور الدنيا، فقد يعتقد الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع. ويميز القاضي عياض هنا مرة أخرى وبوضوح بين ما قاله صلى الله عليه وسلم ظنا في أمور الدنيا وما قاله اجتهادا في أمور الشرع، يقول: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها. ويروي هنا قصة تأبير النخل التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، و إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر . وهنا يميز أيضا بين ما هو خبر يدخله الصدق والكذب، وما هو رأي يمكن أن يكون صوابا أو يكون خطأ. وهو التمييز الذي ركز عليه القاضي عياض أيضا في شرحه لصحيح مسلم قبل أن يقرر أن حكم الأنبياء وآراءهم فى أمور الدنيا حكم غيرهم من اعتقاد بعض الأمور على خلاف ما هى عليه، ولا وصم عليهم في ذلك . وبعد أن يسرد عياض بعض الأمثلة في الشفا يقول: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة. ـ ما يعتقده في أحكام البشر الجارية وقضاياهم مما يحكم به بين المتخاصمين، فتجري أحكامه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وموجب غلبات الظن، التي يستوي في ذلك هو وغيره من البشر. لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار . ـ أقواله الدنيوية، من أخباره عن أحواله وأحوال غيره، وعما يفعله أو فعله، فيمتنع عليه صلى الله عليه وسلم الخلف فيها بأن يظهر خلاف ما يضمر. كما لا يجوز عليه أن يأمر أحداً بشيء أو ينهي أحداً عن شيء وهو يبطن خلافه. ـ أفعاله الدنيوية، فحكمه صلى الله عليه وسلم فيها توقي المعاصي والمكروهات، مع جواز السهو والغلط في بعضها. وكل ذلك غير قادح في النبوة بل هو على الندور. ويدخل القاضي عياض ضمن هذا النوع ما يفعله صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا مساعدة لأمته وسياسة وكراهية لخلافها وإن كان قد يرى غيره خيراً منه، ويدخل فيه ما يتركه من فعل للأسباب ذاتها. وهو قد يفعل ذلك في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه. وأورد عياض عدة أمثلة كلها تدخل ضمن إجراءات السياسة الشرعية، مثل خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة في غزوة أحد مع أن رأيه كان هو التحصن بها، ورفضه قتل المنافقين لأسباب منها كراهة أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش، وحذراً من نفورهم من الإسلام فقال لعائشة أم المؤمنين: لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم. والواضح من سياق كلام عياض أنه يقصد بأقواله صلى الله عليه وسلم أخباره التي يرويها، بينما يقصد بأفعاله إجراءاته التي يتخذها ولو كان ذلك بالقول. وإلا فإن رفض قتل المنافقين وترك بناء الكعبة كانا بالقول النبوي المروي في الصحاح. وقد أطال القاضي عياض وأجاد في تفصيل هذه الأنواع، مما استغرق أكثر من مئة صفحة من الطبعة التي اعتمدناها، غير أن كتابه كان بالأساس كتاب شمائل نبوية وكتاب عقيدة وليس كتابا لأصول الفقه، لذلك كان همه تبيين ما يجب اعتقاده في مختلف أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يفصل كثيرا في الدلالات التشريعية لكل نوع من أنواع تلك التصرفات.