احتضنت مؤسسة دار الحديث الحسنية في الرباط ندوة علمية دولية بالغة الأهمية حول موضوع »تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأثره في تقليل الاختلاف« يومي الاثنين والثلاثاء 28 29 ذو القعدة 1430 / 16 17 نونبر 2009 ، وذلك بمقر المؤسسة. وتكمن أهمية موضوع الندوة في كون تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم يشغل موقعا محوريا ضمن المباحث الشرعية، ذلك لأنه ليس كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من قبيل التشريع العام للأمة، بل فيه ماهو صادر عنه بمقتضى العادة والجبلة والخبرة، ومنه ما صدر عنه باعتباره إماما للمسلمين، أو قائدا حربيا لهم، أوقاضيا يفصل في نزاعات المتخاصمين منهم. لذلك التأم شمل ثلة من الأساتذة من المشرق والمغرب لتناول هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، والتصحيح والتوجيه، وذلك من خلال المحاور التالية: 1) التأصيل الشرعي لتمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وجهود العلماء السابقين في ذلك 2) تمييز ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم على وجه الإمامة والقيادة في الحرب والسلم والاجتهاد في حصر أحاديث الأحكام التي خرجت على هذا الوجه، وبيان أثر هذا الحصر في تقليل الخلاف. 3) تمييز ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم على وجه القضاء أو الإصلاح بين الناس، والاجتهاد في حصر أحاديث الأحكام التي خرجت علي هذا الوجه، وبيان أثر هذا الحصر في تقليل الخلاف. 4) تمييز ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم وسبيله التشريع العام، لكنه خرج على غير سبيل العزم والعموم، والاجتهاد في حصر أحاديث الأحكام التي خرجت على هذا الوجه، وبيان أثر هذا الحصر في تقليل الخلاف. 5) وضع الضوابط الحاكمة للتمييز بين ماهو من قبيل التشريع العام وماهو ليس كذلك. بعد تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، ألقى السيد أحمد الخمليشي مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية كلمة رحب فيها بالضيوف والحضور، ثم استمع جمهور الحاضرين من الأساتذة والطلبة إلى كلمة منسق الندوة. وكلمة اللجنة المنظمة لتنعقد بعد ذلك الجلسة الأولى التي رَأَسَها الدكتور محمد يسف رئيس المجلس العلمي الأعلى وتضمنت المداخلات التالية: »ضوابط التمييز بين التشريعي والجبلي في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم« للدكتور محمد الروكي، و »تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم: الإمامة نموذجا« للدكتور عبد الوهاب ابو سليمان و »تمييز أحوال النبي صلى الله عليه و سلم وجهود العلماء السابقين في ذلك« للشيخ العلامة محمد عوامة، و »التأصيل الشرعي لتمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم« للدكتور الحسني أيت سعيد. وتضمنت الجلسة الثانية التي رأسها الدكتور عبد الوهاب ابو سليمان المداخلات التالية: »ضابط ما يختص بولاة الأمر« للدكتور سعيد بيهي، و»تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة من حيث المفهوم والأنواع والتمييز والآثار« للدكتور خليفة بابكر، و »الفروق بين أنواع التصرفات النبوية التشريعية وأثرها في توجيه الاجتهاد التنزيلي« للدكتور عبد الرزاق اورقية بينما اشتملت الجلسة الثالثة التي رأسها الدكتور أحمد عبادي على المداخلات التالية: »مراتب التشريع في السنة النبوية« للدكتور عبد السلام بلاجي، و السنة التشريعية وغير التشريعية« للدكتور محمد كمال إمام، و »ضوابط تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم« للدكتور الناجي لمين. وتضمنت الجلسة الرابعة التي رأسها الدكتور محمد كمال إمام المداخلات التالية: »مراعاة الواقع في أحوال النبي صلى الله عليه وسلم« للدكتور محمد جميل مبارك، و »فيما صدر عنه صلى الله عليه وسلم على وجه الإمامة والقيادة في الحرب والسلم« للشيخ محمد مكي، و»إسهام المالكية في تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وضبطها« للدكتور مولاي الحسين ألحيان. وتلت الجلسات مناقشات قيمة ساهم فيها جمهور المتتبعين والحاضرين مساهمة مفيدة. وختمت الندوة بقراءة التوصيات، ثم تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم. لقد تعرض الأصوليون لهذا الموضوع المهم جدا، واجتهدوا في بيانه والتأصيل له، كالقرافي في كتابه »الفروق « وكتابه »الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام« وولي الله الدهلوي في كتابه »حجة الله البالغة«. وتعرض له جماعة من العلماء المعاصرين منهم الطاهر ابن عاشور في كتابه »مقاصد الشريعة الإسلامية« وفصل فيه بعض التفصيل. وقد ناقش الأساتذة المشاركون في هذه الندوة أفكار وآراء وأنظار وأدلة وتقسيمات هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم وغيرهم. ومن أهم وأبرز الأفكار أو المبادئ التي فصل فيها القول الأساتذة المشاركون أن عدم التفريق بين ما نقل من الأفعال النبوية التشريعية، وماهو منها جبلي أو عادي أو دنيوي هو سبب من أسباب الاختلاف كان ينبغي ان يحرر لينتهي الخلاف. ولكنه انتقل الى العامة. فالسنة النبوية قول وفعل وإقرار، ومن علماء الأصول من يدخل الإقرار في الفعل النبوي كما فعل ابن السبكي. وكذلك الشأن بالنسبة للهم النبوي. والاقتداء والتأسي إنما هو مطلوب شرعا في القسم التشريعي أما الجبلي فليس من المطلوب التأسي فيه، ولكن من فعله كان مأجورا. وللفعل النبوي أيضا أسباب ورود ومعرفتها تعين على التمييز بين ماهو شرعي وماهو جبلي. وقد قسم الدكتور محمد الروكي الضوابط التي يحصل بها التمييز بين نوعي الأفعال الى علامات الفعل التشريعي النبوي، وعلامات الفعل الجبلي النبوي. فعلامات الفعل التشريعي النبوي عشر وهي: 1) مافعله وأمر به على جهة الوجوب أو الندب 2) ما فعله وهو يقصد به القربة 3) مافعله ونص علي حكمه (الوجوب او الندب) 4) إذا نقل الصحابة عنه فعلا وقالوا لنا إنه على وجه التشريع 5) إذا فعل فعلا وسوى بينه وبين فعل آخر شرعي. 6) إذا فعل فعلا قصده منه أن يبين لنا مجمل القرآن الكريم 7) مافعله صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله سبحانه 8) بعض الأفعال على وجه معين وهو ينتظر أن ينزل الوحي للتفصيل (كموقفه من أسرى بدر) 9) مافعله تعاقدا مع غيره 10) مافعله عقوبة للغير. فهذه العلامات لاتدل إلا على الأفعال التشريعية. وأما علامات الفعل الجبلي النبوي الذي يفعله صلى الله عليه وسلم باعتباره إنسانا لابوصفه مبلغا عن الله تعالى ، فهي عشر كذلك: 1) مانقل من فعله قبل البعثة 2) الأفعال النبوية التي لاتثبت حكما شرعيا وإنما هي متعلقة بأعمال دنيوية 3) فعله الذي صرح بأنه فعل دنيوي 4) ما لايتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود إلخ . 5) أفعاله الاضطرارية كالتنفس. 6) فعله الذي فعله بدافع الغريزة من أكل وشرب الخ . 7) فعله حالة الإغماء. 8) الأفعال النبوية الصادرة حالة النوم 9) الأفعال الصادرة حالة السحر، إذ ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سحر. 10) ما كان من هواجس النفس وحركات الأعضاء والجسم. وهناك حالتان: الحالة الأولى أنه قد يوجد الاحتمالان معا في الفعل الواحد، بحيث إذا عرضناه على علامات الافعال التشريعية قبلها، وإذا عرضناه على علامات الأفعال الجبلية قبلها أيضا. مثل حجه صلى الله عليه وسلم راكبا: هل هو تشريعي أم جبلي، وكذلك جلسته للاستراحة في الصلاة، وقلبه الرداء في صلاة الاستسقاء، وهذا مما ترتب عليه خلاف بين العلماء إذ أضفى عليه بعضهم صفة السنية، واعتبره آخرون من الجبلة. والحالة الثانية أن هناك أفعالا لاتقبل لا هذه العلامات ولاتلك. وهنا قال كثير من علمائنا إن الأحوط أن تحمل على الفعل التشريعي وعالج الدكتور خليفة بابكر الحسن في بحثه تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة من خلال تمهيد ومبحثين وخاتمة. أما التمهيد فقد تناول فيه عموم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والفتيا والقضاء والإمامة معرفا بها ومقارنا كما تضمن بيان أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم حسبما أراد القرافي ضبطها سليمة وفق ما قصد إليه على أنه إن أريد أن يعم الحكم بيان كل أحوال هذا قد يحتاج إلى تقسيم أوسع يتم فيه تقسيم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عامة هي الرسالة والفتيا وخاصة هي القضاء والإمامة وقضايا الأعيان على أن يكون ذلك مصحوبا بتحرير الأقوال ومحاملها في قضايا الأعيان خاصة بطريقة تحدد أحكامها ومقاصدها بشكل مستقل عن الإمامة والقضاء إن أمكن ذلك في اطار كثرة تلك القضايا وتشعبها وتعدد مناحيها، أوتقسيمها هي الأخرى الى أقسام واستنباط معايير تفرق بينها وذلك بدراسة قضايا الأعيان. في أحكام الأحوال الشخصية على حدة . وقضايا المعاملات على حدة، وقضايا الأيمان والنذور على حدة. وقضايا الحلال والحرام في المآكل والمشارب على حدة وهكذا. أما المبحثان اللذان تناولا تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة فقد تركز المبحث الأول منهما على بيان مفهوم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة من حيث تحديد مصطلح الإمامة والتصرفات مع الاستدلال على ثبوت الإمامة للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تناول بشكل مباشر سمات تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة والتي تظهر من خلال أحاديثه صلى الله عليه وسلم التي دارت في هذا الصدد وهي كثيرة، ومن خلال موضوع التصرف نفسه مع الإشارة الى موضوعات ومجالات تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة عموما، كما تناول سمات تلك التصرفات من جهة دورانها بين التشريع والتنفيذ مع محاولة ضبط وتحرير المراد بالتنفيذ سواء كان ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء أو الإمامة، ومن جهة دورانها بين الوحي والاجتهاد، وفي الاجتهاد خاصة حيث بين البحث طبيعة اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في تصرفاته بالإمامة وأنها كانت اجتهادات مبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد كما أشار البحث الى الأثر الذي ألقت به هذه التصرفات على مبدأ المصالح في أصول الفقه الاسلامي. أما المبحث الثاني فقد تناول الأثر الفقهي لتصرفات الرسول صلى الله وعليه وسلم بالإمامة وحكمها، وبين في ذلك تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالامامة المتفق عليها وأثرها الفقهي، وتلك التي جرى الاختلاف في ترددها بين الإمامة وغيرها، وأورد في هذا الصدد صورا ونماذج للمتفق عليه والمختلف فيه من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بالإمامة ثم علل البحث الحكم الذي قرره الفقهاء بشأن رد ماتصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالامامة الى حكم الحاكم في الزمن الذي تجري فيه الوقائع الجديدة من جهة: 1 أن تصرفه بالإمامة صلى الله عليه وسلم مبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد. 2 أن المصالح تتغير بتغير الزمان والمكان. 3 أن الرجوع الي الإمام عموما أمر مقرر في التشريع الاسلامي حتى فيما وردت فيه نصوص ليفسر الإمام تلك النصوص ويبين مغازيها ويرتب أحكامه في إطار ذلك. لقد تميزت العروض التي ألقيت في هذه الندوة العلمية الدولية بقيمة علمية عالية. ومع ذلك يبقى هذا الموضوع في حاجة الى مزيد درس وتمحيص وإضافة وإبداع. لاسيما وأن المقصود الأسمى من ضبط جوانبه، وتحقيق مباحثه، تقليل الاختلاف ، فضلا عن الفهم الصحيح والتنزيل الصائب للأحكام، والاجتهاد في هذا المجال بما يجلب المصالح ويدرء المفاسد، ويحقق مقاصد الشارع الحكيم.