لا شك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فليس من أمته. إلا أن الاحتفال بالمولد النبوي لا يجب أن يجاوز الحد المشروع، ويجاوز حد ما أمرنا به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يشتمل على شيء محرم أو منكرات، وذلك تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بهذا علماء أجلاء في القديم أمثال: ابن الحاج من المالكية، وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني، وجلال الدين السيوطيّ، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور، ومن المحدثين الشيخ عبد الله الصديق الغماري، والأستاذ البشير المحمودي من علماء مراكش، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الخالق الشريف من مصر، والشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا. وبالمناسبة نقدم مختارات من فتاوى علماء المغرب والمشرق تضئ جوانب من المسألة. الشيخ عبد الله الصديق الغماري، رحمه الله (من علماء المغرب): الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها، وإنما بما خُصَّتْ به من المعاني * ما حكم العادات التي جرى عليها الناس في الاحتفال من إقامة الحفلات وتقديم الحلوى وغير ذلك؟ " لقد تكلم أبو عبد الله بن الحاج، من المالكية في كتابه "المدخل على عمل المولد" فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصلُه مدح ما كان فيه من إظهار شعارٍ هو شكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومُنْكَرات، فمن ذلك قوله: وإن كان النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يَزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته، صلى الله عليه وسلم، لأمته ورفقه بهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يترك العمل خشيةَ أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار صلى الله عليه وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: "ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه"، فتشريف هذا اليوم مُتَضَمِّن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نحترمَه غايةَ الاحترام ونُفَضِّلَه بما فَضَّل الله به الأشهر الفاضلة. وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خَصَّها الله به من العبادات التي تُفْعَل فيها لِما قد عُلِمَ أن الأمكنة والأزمنة لا تَشْرُف لذاتها، وإنما يَحْصُل لها التشريف بما خُصَّتْ به من المعاني، فانظر إلى ما خَصَّ الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم، لأنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ فيه. فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يُكَرَّم ويُعَظَّم ويُحتَرم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم، في كونه كان يَخُصُّ الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البِر فيها وكثرة الخيرات. فإن قال قائل: قد التزم النبي صلى الله عليه وسلم، في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد عُلِم، ولم يَلْتَزِم في هذا الشهر ما التزمه في غيره. فالجواب أن ذلك لِما عُلِم من عاداته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته سيما فيما كان يخصه. ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام، حرم المدينة مثلما حَرَّم إبراهيمُ مكة، ومع ذلك لم يَشْرَع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته، وإن كان فاضلاً في نفسه، فيتركه تخفيفا عنهم. فعلى هذا تعظيمُ هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القُرُبات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يَحْرُم عليه، ويَسْكُن له تعظيمًا لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احترامًا، كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرام. وقد سُئِلَ شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المَوْلِد بدعة لم تُنْقَل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدِّها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا. قال الحافظ السيوطي: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نِقْمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سَنَة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأية نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ، نبيّ الرحمة في ذلك اليوم. الأستاذ: البشير المحمودي، خطيب بمراكش: الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال وتذكر لنعم الله يقول الأستاذ: البشير المحمودي، الخطيب والواعظ بمدينة مراكش، في محاضرة ألقاها بمقر المجلس العلمي بمراكش بتاريخ:6/7/2000 ، في موضوع:"الاحتفال بذكرى المولد النبوي بين فتاوى التشريع وفتاوى التبديع"، بعد ما جرد أقوال المختلفة في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف خلص إلى التأكيد ما يلي: " إن الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس لذاته الجسمية، وإنما هو لروحه، فنحن لا نحب النبي صلى الله عليه وسلم لذاته وإنما نحبه لربه. ولا نحبه لأنه محمد بن عبد الله ولكننا نحبه لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحبه لأنه مبلغ عن الله تعالى، وأنه حبيب الله عز وجل، ونحبه لأن محبته طاعة لله سبحانه وتعالى. إن الاحتفال بمولد الرسول هو احتفال وتذكر لنعم الله كما أمر الله أن نتذكرها ونشكرها. ولذا ينبغي أن يكون هذا الاحتفال مصحوبا بالدروس والعظات والمحاضرات والندوات والعلم والذكر والقرآن والبر والإنفاق والإحسان والتصافح والتسامح بين الإخوان ولا ينبغي بل ولا يجوز أن تصحبه منكرات وكل ما يتنافى مع الدين. وخلاصة القول: 1. أن الاحتفال بالمولد مسألة خلافية، و الخلاف-كما سبق- فقه و علم فلا يجوز الإنكار على المسائل المختلف فيها كما قرر ذلك علماء السلف. 2. أن تجاهل الرأي المخالف ليس من فقه الدعوة ولا من أخلاق الداعية وإنما الواجب أن نتعاون في ما نتفق عليه وأن يعذر بعضنا بعضا في ما نختلف فيه، وشعار العلماء "نختلف ولا نفترق "، فالاختلاف في الآراء والفهوم لا ينبغي إذ يؤدي إلى الاختلاف في القلوب وبالأحرى إلى التبديع أو التكفير. ولنسم باختلافاتنا فى مثل هذه الجزئيات إلى خلاف التابعين والأئمة المجتهدين الذين كانوا يختلفون وفي نفس الوقت كانوا يتحابون ويتراحمون. 3. أن الاحتفال بالمولد أجازه كثير من العلماء الأعلام وفقهاء الإسلام باعتباره عادة حسنة أو بدعة مستحسنة استمر العمل به عند المسلمين منذ القرن الرابع الهجري إلى الآن". الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا قال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور: "وقد أتى القرن التاسع والناس بين مجيز ومانع، واستحسنه السيوطي وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، مع إنكارهم لما لصق به من البدع، ورأيهم مستمد من آية (وذكِّرهم بأيام الله). أخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام: بنعم الله وآلائه، وولادة النبى نعمة كبرى. وفي صحيح مسلم عن أبى قتادة الأنصاري قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن صوم يوم الاثنين فقال "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أُنزل علىَّ فيه"، فالرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن يوم ولادته له مزية على بقية الأيام، وللمؤمن أن يطمع فى تعظيم أجره بموافقته ليوم فيه بركة، وتفضيل العمل بمصادفته لأوقات الامتنان الإِلهي معلوم قطعا من الشريعة، ولذا يكون الاحتفال بذلك اليوم، وشكر الله على نعمته علينا بولادة النبى وهدايتنا لشريعته مما تقره الأصول، لكن بشرط ألا يتخذ له رسم مخصوص، بل ينشر المسلم البشر فيما حوله، ويتقرب إلى الله بما شرعه، ويعرِّف الناس بما فيه من فضل، ولا يخرج بذلك إلى ما هو محرم شرعا. أما عادات الأكل فهي مما يدخل تحت قوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله) انتهى. ورأيي أنه لا بأس بذلك في هذا العصر الذى كاد الشباب ينسى فيه دينه وأمجاده، فى غمرة الاحتفالات الأخرى التى كادت تطغى على المناسبات الدينية، على أن يكون ذلك بالتفقه فى السيرة، وعمل آثار تخلد ذكرى المولد، كبناء مسجد أو معهد أو أي عمل خيري يربط من يشاهده برسول اللّه وسيرته. فإذا غلبت المخالفات كان من الخير منع الاحتفالات درءًا للمفسدة كما تدل عليه أصول التشريع. وإذا زادت الإِيجابيات والمنافع المشروعة فلا مانع من إقامة هذه الاحتفالات مع التوعية والمراقبة لمنع السلبيات أو الحد منها بقدر المستطاع، ذلك أن كثيرا من أعمال الخير تشوبها مخالفات ولو إلى حد ما، والكل مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوسائل المشروعة ". وبخصوص صيام يوم مولده عليه الصلاة والسلام يقول الشيخ عطية صقر:"...فمن أراد أن يشكر الله على نعمة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته فليشكره بأية طاعة تكون، بصلاة أو صدقة أو صيام أو نحوها، وليس لذلك يوم مُعين في السُّنة، وإن كان يوم الإثنين من كلِّ أسبوع أفضل، للاتباع على الأقل، فالخلاصة أن يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ليس فيه عبادة خاصة بهذه المناسبة، وليس للصوم فيه فضل على الصوم في أي يوم آخر، والعبادة أساسها الاتباع، وحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم يكون باتِّباع ما جاء به كما قال فيما رواه البخاري ومسلم "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنتي فليس مني" وفيما رواه أبو يعلى بإسناد حسن" من أحبني فليستن بسنتي ". والله أعلم الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي هناك من المسلمين من يعتبرون أي احتفاء أو أي اهتمام أو أي حديث بالذكريات الإسلامية، أو بالهجرة النبوية، أو بالإسراء والمعراج، أو بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغزوة بدر الكبرى، أو بفتح مكة، أو بأي حدث من أحداث سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أي حديث عن هذه الموضوعات يعتبرونه بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وهذا ليس بصحيح على إطلاقه، إنما الذي ننكره في هذه الأشياء الاحتفالات التي تخالطها المنكرات، وتخالطها مخالفات شرعية وأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، كما يحدث في بعض البلاد في المولد النبوي، ولكن إذا انتهزنا هذه الفرصة للتذكير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشخصية هذا النبي العظيم، وبرسالته العامة الخالدة التي جعلها الله رحمة للعالمين، فأي بدعة في هذا وأية ضلالة؟! إننا حينما نتحدث عن هذه الأحداث نذكر الناس بنعمة عظيمة، والتذكير بالنعم مشروع ومحمود ومطلوب، والله تعالى أمرنا بذلك في كتابه (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرًا، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)، يذكر بغزوة الخندق أو غزوة الأحزاب حينما غزت قريش وغطفان وأحابيشهما النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين في عقر دارهم، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وأرادوا إبادة خضراء المسلمين واستئصال شأفتهم، وأنقذهم الله من هذه الورطة، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يرها الناس من الملائكة، يذكرهم الله بهذا، اذكروا لا تنسوا هذه الأشياء، معناها أنه يجب علينا أن نذكر هذه النعم ولا ننساها. ذكر النعمة مطلوب إذن، نتذكر نعم الله في هذا، ونذكر المسلمين بهذه الأحداث وما فيها من عبر وما يستخلص منها من دروس، أيعاب هذا ؟ أيكون هذا بدعة وضلالة. الشيخ عبد الخالق الشريف أحد الدعاة بمصر بمناسبة قرب مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم، فإننا جميعًا نحب رسول الله الذي أوجب الله علينا طاعته، وألزمنا بمحبته، وجعل طاعتنا له صلى الله عليه وسلم سببًا في حب الله، وعلامة على حب الله، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ...) آل عمران. والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يحتفل بمولده ولا الخلفاء من بعده احتفلوا بمثل ذلك؛ لأن الأصل أن أمة الإسلام في احتفال دائم بهذا الدين، تطبيقًا لا مجرد كلمات، ودعوة لا مجرد انتساب، واعتزازًا بهذا الدين الذي فضلهم الله به. وما يقوم به الناس من احتفال إذا كان بقصد التذكير وإعطاء العظات والعبر والدعوة إلى التزام منهجه، فيرى البعض أنه لا بأس بذلك بهذا القصد، وإن كان المفترض أن يكون دومًا. أما ما يحدث في الموالد من رقص واختلاط بين الرجال والنساء، ولعب القمار، وغير ذلك فهذا كله حرام سواء أكان في مناسبة أو بدون مناسبة.