سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الدكتور فتحي ملكاوي، المدير التنفيذي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ل"التجديد" 2/2:موقف العلواني في موضوع تبديل المعتقد مسبوق إليه، ولا يتعارض مع المنهج الأصولي
في القسم الثاني من هذا الحوار يتناول الدكتور فتحي الملكاوي علاقة الدين بالسياسة في الفكر الإسلامي ويراجع مفهوم الدولة، بناء على المنهجية الأصولية التي تمايز بيت تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، ويناقش الانتقادات التي توجه للمعهد العالمي للفكر الإسلامي من كونه يدعم فكرة هيمنة القرآن على حساب السنة النبوية وينفي فكرة النسخ مطلقا، كما يبدي الملكاوي رأيه في الدراسة العلمية التي أنجزها طه جابر العلواني حول الردة، ويعتبر ما ورد فيها تأصيلا محكما لهذه المسألة، ولا يفوته أن يقيم تجربة المعهد العالمي للفكر الإسلامي التي يرى أن مهمة المعهد هي "صناعة ثقيلة" تتعلق بالعقل المسلم ومنهجية عمله وتعامله مع مصادره ومع واقعه. فرسالة المعهد هي التأكيد على أهمية الإصلاح الفكري والمنهجي على مستوى الأمة الإسلامية، وهي ليست فقط مهمة معهد أو مؤسسة بل هي في المحصلة مشروع أمة، ولذلك فالمعهد بقدر تحقيقه لبعض النجاحات في بعض الجبهات، فقد بقيت إنتاجه ومجال اشتغاله في بعض الجبهات الأخرى محدودا. * هل نفهم من هذا التأصيل أنكم تميزون في موضوع علاقة الدين بالسياسة بين السياق الغربي والسياق الإسلامي ؟ ** بالتأكيد، هناك تمايز واضح، فثنائية الدين والدولة في الإسلام لا تستدعي المفهوم الثيوقراطي للدين الذي كانت الكنيسة فيه تحكم باسم الله وتصدر صكوك حرمان من دخول الجنة أو صكوك غفران لدخولها. هذا المفهوم هو الذي أدى إلى الثورة على دين الكنيسة، وأدى انتصار المنافسين لها من أهل السلطة والمال إلى اقتسام الأمر، فالدين لله والدولة للناس، والكنيسة هي القائمة على أمر الدين، والدولة هي القائمة على أمر الدنيا. وحين رفعت لافتة الإسلام دين ودولة كان ذلك دعوة إلى تصحيح النظرة إلى الدين، وتمييزه عن النظرة الأوربية. أما تفاصيل الحكم فإننا نعرفها من التجربة التاريخية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان نبيا تنزل عليه التشريعات وينزل عليه الوحي، وكانت ممارساته في جانب منها تشريعية وفي جانب منها حياتية دنيوية وبشرية طبيعية، ولذلك تجد الفقهاء والأصوليين يميزون في تصرفاته بين السنة التشريعية والسنة غير التشريعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمارس بعض الأعمال بحكم كونه نبياً، وكان يمارس بعض الأعمال الأخرى بحكم كونه بشراً، وممارسته بهذا الاعتبار تخضع لمعرفته البشرية المحدودة، لكن الله يعصمه ويسدد مواقفه ويهديه للتي هي أحسن؛ لأنه نبي؛ ولأنه في موقع التشريع. ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتيح للناس أن يقولوا رأيهم في بعض المسائل ويوافق أحياناً عليها وينفذها، حتى إن الصحابي الحباب بن المنذر وهو شاب في التاسعة عشرة من عمره، أراد أن يعرف طبيعة تصرف النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار موقع المسلمين في معركة بدر، فسأل: هل كان اختيار المكان أمْراً أوحى الله به أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فلما أكد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس أمراً من الله، أشار الحباب برأي آخر، استحسنه الرسول وأخذ به. وهذا يدل على أن الصحابة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا على وعي بتعدد تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وأن منها ما يدخل في تصرفاته باعتباره نبيا ينزل عليه الوحي، ومنها أيضا ما يدخل ضمن نطاق اجتهاده باعتباره بشرا يمتلك من المعرفة البشرية بقدر مخالطته للواقع واشتباكه مع معضلاته. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد الناس في إدارة شؤون المجتمع والدولة، فأصابوا وأخطئوا، اختلفت هذه التجارب بمقدار وصولهم إلى الصواب في أي أمر من الأمور. فلا نستطيع أن نزعم أن الناس كانوا معصومين في اجتهادهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، فلا عصمة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة اجتهدوا لأنفسهم فأصابوا وأخطأوا، ولا يمكن الاستمساك بعدالة الصحابة لإثبات صوابية اجتهادهم كلهم، فعدالة الصحابة لا تعني سوى التماس العذر لهم في اجتهادهم ولا تعني عصمتهم. فعلماء الأمة الآن مطالبون بالاجتهاد والتجديد في مسائل الفقه السياسي، وتطوير المؤسسات السياسية، موظفين في ذلك مجموعة متكاملة من مصادر الفقه: فقه النص الشرعي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفقه التراث والممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي، وفقه التجربة البشرية لدى الأمم الأخرى، وفقه الواقع المعاصر وما يتضمنه هذا الواقع من خصوصيات التداخل في المصالح والاعتماد المتبادل على مستوى المجتمع الواحد، وعلى مستوى ساحة العالم. * ألا يمكن أن نرجع اختلاف الناس ومنهم الصحابة إلى منهجية تعاملهم مع تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية تأسيسهم من خلالها لأفهامهم بخصوص قضايا الحكم، فالثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف باعتباره نبيا وباعتباره قائدا وباعتباره بشراً، وفي غياب ضوابط للتمييز بين هذه المستويات الثلاثة يمكن أن نفسر هذا الاختلاف؟ ** هناك من يرفض مبدأ التمييز بين السنة التشريعية والسنة غير التشريعية، وهناك من لا يرى ضرورة للتمييز بين تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم ويرفض بالتبع الأثر المترتب عن هذا التقسيم، وهؤلاء يفعلون ذلك في الغالب من باب الحيطة والحذر من مخالفة النبي صلّى الله عليه وسلم، وتجاهل سنته، وخوفاً من تحكيم هوى النفوس في تصنيف تصرفات النبي صلّى الله عليه وسلم، وأحياناً من باب وضع بعض المواقف في السيرة، التي لا تبدو فيها صفة التشريع الملزم، ضمن فئة المباح من الأحكام الشرعية، أو ضمن أبواب النسخ: نسخ السنة بالسنة، مثلاً،...الخ. لكن الأصوليين أفاضوا في التمييز في أفعاله عليه الصلاة والسلام وأقواله وتقريراته وإلحاق كل منها بواحد من الأحكام الشرعية: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم...الخ. وحددوا ضوابط لهذا التمييز، وذكروا أمثلة عملية من سيرة النبي مع أصحابه، من مثل الأخذ بالشورى في الخروج للقتال، ووضع استراتيجيات الحرب، وقضية العدوى في بعض الحالات المرضية، وتأبير النخل في الزراعة... وكل هذه أمثلة على توظيف المعرفة التي يمتلكها الناس من الخبرة العملية، أو أمثلة على توظيف القدرات الإبداعية لأصحاب الحنكة والبصيرة من الأفراد، أو أمثلة على تحكيم رأي الأغلبية في ما يراه الناس في أمر من أمورهم. ومن المؤكد أن نتائج ذلك كله ستكون من باب الكسب البشري، وغلبة الظن، وهي أمور تتطور معرفة الناس بها نتيجة لطبيعة الخبرة واتساعها. وفي حادثة تأبير النخل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم، واضحاً تماماً في أنه لم يكن يحدثهم في ذلك الأمر عن الله، وإنما كان يظن ظناً، فقال: "لا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل." * لوحظ في بعض أدبيات المعهد العالمي للفكر الإسلامي التركيز على فكرة هيمنة القرآن ومراجعة مفهوم النسخ، ألا يمكن أن يقرأ في مثل هذا الاتجاه إعادة النظر في موقع السنة في التشريع أو ما يسميه البعض بأطروحة التيار القرآني؟ ** المعهد العالمي للفكر الإسلامي لا يتبنّى مذاهب أصولية معينة أو أفكاراً فقهية محددة ويهمل غيرها، لكنه يدعو إلى الاجتهاد المفتوح ضمن القواعد الأصولية المعروفة، وإلى التجديد حتى في مراجعة هذه القواعد وطريقة صياغتها والتأكد من شمولها لأهداف الدين ومقاصد الوحي. ونحن نعلم حجم الاختلاف بين العلماء في السابق في مرجعية بعض الأصول، والتمييز بين موقع الأصول الرئيسية والفرعية. ولا يضير المعهد في شئ أن يتبنّى فتح المجال أمام علماء الأمة للبحث والاجتهاد والتجديد، من داخل دائرة الأمة، ويعتمد في ذلك تشجيع الباحثين، وتنظيم الندوات والمؤتمرات، ونشر الكتب والدوريات، ويتعامل في ذلك مع الأفراد والفرق البحثية، ويتعاون مع المراكز والمجامع والمؤسسات العلمية الرسمية والأهلية في المجتمعات الإسلامية والأقليات الإسلامية في المجتمعات الأخرى، ولا يضيره كذلك أن يمارس التفاعل والحوار مع الراغبين في البحث عن الحق حتى مع غير المسلمين، ويستند المعهد في ذلك على أن علماء الأمة هم موضع الأمل في توجيه الأمة إلى ما يريده الله لها من خير، وهم قادة الأمة في تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وحملها إلى العالم. وليس بين المسلمين خلاف حول مرجعية القرآن الكريم بوصفه كتاب الله المقطوع بصحة سنده وثبوته، والمحفوظ بكامل نصه ومتنه. أما السنة فقد وقع الخلاف في ثبوت الكثير من رواياتها. ومع ذلك فلا خلاف بين المسلمين أن السنة الصحيحة تحتل موقع المرجعية الثانية بعد القرآن الكريم؛ باعتبارها البيان النبوي الملزم للقرآن الكريم. ومع ذلك فقد وقع الخلاف بين العلماء في دلالات بعض الآيات القرآنية بالاستناد إلى روايات في السنة النبوية، وحتى في بعض الروايات التي صنفت ضمن الصحيح، لأن هذه الروايات ربما تخدش مرجعية القرآن المطلقة، وهيمنته حتى على روايات السنة. والأمر في هذا المجال، على أية حال، محدود في عدد قليل من المسائل؛ ومسألة النسخ واحدة منها. وقد دعا المعهد العالمي للفكر الإسلامي إلى النظر في المنهجيات السائدة للتعامل مع القرآن الكريم بوصفه المصدر المنشئ للأحكام، ومع السنة النبوية بوصفها البيان النبوي للقرآن وهو بيان ملزم، وتقييم هذه المنهجيات وتخليصها مما قد يشوش عمل العقل المسلم المعاصر في تلقي الهدي القرآني ووضع السنة النبوية الصحيحة في موقعها المناسب، وعلى هذا الأساس يمكن بناء منهجية مناسبة للتعامل مع التراث الإسلامي والإنساني، الماضي والحاضر، واستلهام كل ذلك في إصلاح واقع الأمة، والنهوض بها، وبناء مستقبلها، والإسهام في الحضارة الإنسانية وترشيدها. والموقع المرجعي للقرآن الكريم، ومرجعية السنة النبوية في تحديد مرجعية القرآن الكريم، وفق الفهم الإجمالي لجمهور علماء الأمة، قديماً وحديثاً، يغنينا عن أية تيارات أو مدارس تدعو لمذهب قرآني يفرّط في السنة النبوية لحجب ما تملكه من هدي في فهم القرآن، بحجة الإعلاء من شآن القرآن، أو تدعو لمذهب في السنة والسلف والأثر يفرّط في القرآن الكريم ويقيم بين الناس والقرآن الكريم حاجزاً لا يجوز الدخول إلى الهدي القرآني إلا من خلاله؛ كل ذلك مواقف ومذاهب نحن في غنى عنها. * هل توافقون الدكتور طه جابر العلواني في أفكاره التي ضمنها كتابه الأخير الذي أصدره المعهد للدكتور حول الردة، وهل تسايرون منهجه في توجيه الأحاديث النبوية بما يناسب الأطروحة التي يذهب إليها في موضوع انتفاء عقوبة شرعية لتبديل المعتقد في الإسلام؟ ** الشيخ طه جابر العلواني عالم أصولي له موقعه المرموق بين علماء الأمة المعاصرين الذين عرفوا بالاجتهاد والجرأة في علمهم وعملهم. وهو حين يذهب مذهباً في التعامل مع قضية من قضايا الفكر الإسلامي أو الممارسة الإسلامية، إنما يكون ذلك وفق منهج في الاجتهاد، يستند فيه إلى حصيلة كبيرة من العلم الشرعي في التفسير والحديث والفقه والأصول، وإلى خبرات طويلة في الحوار مع أهل العلم الشرعي والقانوني والاجتماعي والإنساني، وإلى معايشة واسعة الأبعاد لواقع الأمة والتحديات التي تواجهها في مجتمعاتها الإسلامية وفي مواقع أقلياتها. وقد لاحظت أن موقف الشيخ العلواني في مسألة تغيير المعتقد الواردة في سؤالكم، تمتاز بثلاثة أمور لا بد من ملاحظتها: الأمر الأول أن موقفه في فهم مسألة الردة ليس جديداً، وإنما هو موقف معروف في التراث الإسلامي، والأمر الثاني أنه يستدل بحشد كبير من الأدلة على ما يذهب إليه بمنهج أصولي محكم، من الظلم أن نقول أنه يوجه الأحاديث النبوية بما يناسب ما يذهب إليه، والأمر الثالث أن يحاور الكثير من نظرائه من أهل العلم، ويراجعهم في المسألة قبل نشر ما يراه فيها. ولذلك نجد أن نظراءه من أهل العلم حتى الذين يخالفونه في الرأي لا يملكون إلا احترام رأيه، والنظر إليه على أنه اجتهاد مأجور ومذهب معروف من قبل لا يتصف بالشذوذ أو الغرابة. ولعلّي لا أبالغ حين أقول: إن حصيلة التجربة والخبرة العملية التي يمتلكها الشيخ العلواني واتساع دائرة هذه الخبرة في أقطار عديدة وطبيعة المواقف التي يفتي من أجلها، بوصفها مواقف عملية تتعلق بواقع الفرد أو الجماعة المسلمة، والتأصيل للحضور الإسلامي في ساحة العالم، مع اطلاع علمي واسع وحوار مكثف مع النظراء من أهل العلم، ربما يجعل من أي عالم في مثل هذه المواصفات يقول بما يقول به. ويجعل غيره من العلماء الذين تنحصر خبرتهم في مجتمعات المسلمين التقليدية، ولا يكون لرأيهم كبير أثر على الواقع العلمي، يفضلون الأخذ بالأحوط، طلباً للسلامة، ويلجأون في بيان رأيهم (المعلن) إلى المألوف من الأقوال، فليس عليهم فيها أن يخسروا شيئاً، ولا عليهم من شئ من معاناة من يعاني نتيجة ما يذهبون إليه. ومع كل ذلك فإن الشيخ العلواني بشر يجتهد، فيصيب ويخطأ، ولا عصمة من الخطأ إلا للمعصوم عليه الصلاة والسلام. * كيف تقيمون اليوم مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي؟ وهل نجح في إحداث نقلة نوعية في طريقة تمثل العقل المسلم لمصادره الشرعية وتراثه الإسلامي والكسب البشري عموما؟ ** تقييم حجم الإنجاز لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار عدداً من المعايير منها على الأقل: إنجاز المؤسسة في ضوء الأهداف التي رسمتها، واقع اليوم بالمقارنة مع واقع الأمس، وإنجاز المؤسسة بالمقارنة مع إنجاز مؤسسات أخرى، وتكامل تقييم الداخلي للمؤسسة، والتقييم الخارجي لها. ولا شك في أن التقييم الحقيقي لجهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي، يحتاج إلى إعمال هذه المعايير جميعها. كما يحتاج معها إلى روح الجرأة في المراجعة والتقييم، دون إخلال بمبدأ الإنصاف والعدل في تقدير الجهود حق قدرها. وقد كتب عدد من الأطروحات الجامعية في تقييم جهود المعهد بصورة إجمالية، أو تقييم جانب محدد من هذه الجهود، بالاستناد إلى بعض هذه المعايير وغيرها. لكن مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي لا يزال مشروعاً ناشئاً، فقد مضى على بدء نشاطاته ربع قرن تقريباً، وهو مشروع أمة، وليس مشروع مؤسسة، وهو مرابطة على جبهة واحدة من جبهات العمل على إصلاح الأمة، وليس على جميع الجبهات، والإنجاز الحقيقي على مستوى الأمة لا يسهل تحقيقه دون النظر إلى الإنجاز في الجبهات جميعها. والمهمة التي تصدى لها المعهد ليست إنجازاً مادياً منظوراً يسهل متابعة تحققه في الواقع، وإنما هو "صناعة ثقيلة" تتعلق بالعقل المسلم ومنهجية عمله وتعامله مع مصادره ومع واقعه. فرسالة المعهد هي التأكيد على أهمية الإصلاح الفكري والمنهجي على مستوى الأمة الإسلامية لتمكينها من استلهام مصادرها واستيعاب معارف زمانها وترشيد طريق نهوضها، وتحقيق حضورها في ساحة العالم. والمعهد على كل حال، وهو يلتقي بمستشاريه والعاملين فيه بصورة دورية، وهو يلْتقِي بالعلماء والمفكرين والباحثين يحاورهم ويشاورهم، وهو يتلَقَّى أعمال الباحثين والمفكرين والعلماء للنظر في إمكانية نشرها، في دوريات المعهد، أو عرضها في الندوات والمؤتمرات التي ينظمها المعهد، إنه في كل ذلك يراجع برامجه ويقيّم خططه بصورة مستمرة، مستثمراً تجارب النجاح، ومستفيداً من تجارب الفشل. ولا يتسع المقام في هذه المقابلة إلى التفصيل في جوانب النجاح وتجارب الفشل. وحسبنا أن نقول إننا نستطيع أن نشير إلى بعض مظاهر النجاح في الإنجاز التي تتمثل في مطبوعات المعهد نوعاً وكمّاً، سواءً في سلاسل الكتب أو في الدورتين العالميتين العربية والإنجليزية التي تصدران بصورة فصلية منتظمة، والعدد الكبير من الندوات والمؤتمرات والدورات التدريبية في العديد من أقطار العالم، ومئات العلماء والمفكرين والباحثين الذين يشاطرون المعهد رؤيته الإصلاحية في كل أبعادها أو في بعض أبعادها على الأقل، وتوسع دائرة الوعي على البعد الفكري والمنهجي في أزمة الأمة. لكننا نستطيع أن نؤشر في الوقت نفسه على بعض المجالات التي يشعر المعهد أن الإنجاز كان محدوداً وأن بعض المشاريع العلمية لم تحقق ما كان مرجواً منها. فقد كنا نأمل –ولا نزال- أن يتمكن أساتذة الجامعات، الذين يتعاون المعهد معهم، من النجاح في إعداد كتب جامعية منهجية تجمع بين المعرفة العلمية في موضوعها وبين إعمال الرؤية الكونية الإسلامية والتحليل النقدي الإسلامي لهذه المعرفة. كنا نأمل –ولا نزال- أن تنشأ الكثير من المؤسسات المماثلة للمعهد لتتعاون في إنجاز المهمات الصعبة التي تحتاج إلى تظافر الجهود والطاقات والإمكانيات. وكنا نأمل –ولا نزال- أن تتسارع عجلة التجديد في تطوير علوم الشريعة، وطرق عرضها وتدريسها، لتمكينها من إعداد العلماء العاملين، القادرين على الاجتهاد في فهم أحكام الدين، وفهم طبيعة الواقع الاجتماعي والطبائع البشرية. وكنا نأمل-ولا نزال- أن تتطور البرامج التعليمية والتربوية بحيث تزول الازدواجية المصطنعة بين مناهج التوجيه والتعليم الديني ومناهج المعرفة الكونية والاجتماعية، ويكون بالإمكان إعداد الإنسان المسلم المنتمي باعتزاز لأمته ومجتمعه، الذي يتصف بالمبادأة والمبادرة والفاعلية والمسؤولية. ورغم صور الإحباط التي نشعر بها من مظاهر العجز والتخلف التي تحيط بالإمة من كل جانب، فإننا نشعر أيضاً أن الفرصة ستبقى متاحة لأن يأخذ العلماء والمفكرون دورهم في النهوض بواقع الأمة، وأن عجلة التغيير الإيجابي تتحرك ببطء، لكنها لا تلبث أن تجمع من الزخم والطاقة الكامنة ما يمكنها من الاندفاع بسرعة يفرح لها المؤمنون.