قضية تجديد الدين قضية أصيلة في فكرنا الإسلامي لكن هذه القضية تأتي الآن في سياق دولي يفرض مراجعة مجموعة من المفاهيم المتعلقة بالدين باسم الانفتاح والتسامح، في نظركم هل طرح قضية التجديد يستجيب لهذا السياق الدولي والضغط الخارجي أم أن الضرورة الذاتية للأمة تفرض هذا التجديد؟ ** بسم الله الرحمان الرحيم، جاء الإسلام تجديداً للدين، لأن الله سبحانه وتعالى كان يرسل الرسل والأنبياء على مدار التاريخ، وفي كل مرة كان يجدد خطابه ليتناسب ويتلاءم مع المستوى التي تبلغه البشرية أو الأمة التي تنزل إليها الرسالة. ثم جاء الإسلام رسالة خاتمة، فكان تجديدا لمفهوم الدين كله باعتباره نهاية المطاف في موكب النبوات. الإسلام باعتباره خاتم الأديان لن يصحح بوحي آخر، وشريعته لن تنسخ بشريعة أخرى، وهذا يعنى أن التجديد في أمة الرسالة الخاتمة سوف يختلف عن التجديد في الأمم السابقة، لأن مقومات الدين وأصوله قد اكتملت بتلك الرسالة، وأن في هذه الشريعة من السعة والمرونة ما يمكن لهذه الأمة أن تجد فيها ما يحقق مقاصد الدين ومصالح البشر، وأن أي تجديد سوف يكون في فهم المقاصد وتكييف المصالح في الواقع وفي الزمان والمكان. وسوف يتمثل ذلك التجديد في إعادة قراءة النص الإسلامي الأصلي في القرآن الكريم والسنة النبوية، لفهم جديد للمقاصد ولتكييف جديد للمصالح؛ بحيث يبدو الدين في كل جيل جديداً كما بدأ. فالتجديد هنا هو مهمة يجهد باتجاهها علماء الأمة في كل جيل، فهو جهد بشري وليس وحياً إلهياً. الأمر الذي يجعل موضوع التجديد قائما على مراحل التاريخ كله. فمفهوم التجديد إذن، كما جاء في السؤال، هو مفهوم أصيل في هذا الدين لأنه يعني تماما معنى الدين. لكن، هل هو نتيجة لمتطلبات وظروف مستجدة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من أن نتذكر أن القرآن الكريم نزل منجماً على حسب الظروف والمستجدات في حياة الجماعة المسلمة في مكة والمدينة، ونعلم أيضاً أن القرآن نصٌ مطلق يخاطب المكلفين على اختلاف الزمان والمكان، بما يضمن لهم تحقيق الهداية إلى مصالهم. ومن ثمّ فإن المؤمنين يشعرون أنّ القرآنَ جديدٌ دائماً عندما يخاطبهم بما يتعلق بظروفهم ومستجداتهم. وبقدر ما يكمن التجديد في معنى الدين الأصيل وفي خصوصية الإسلام بوصفه ديناً خاتماً، يستوعبُ، بشمول مبادئه وأحكامه حياة الفرد الإنساني والجماعة والبشرية، ظواهرَ التعدد والتنوع ومستجدات التغير التي تطرأ على حياة البشر، فإنّه في الوقت نفسه، وبطبيعة كونه الدين الخاتم، يحمل كل مقومات التجدد في الفهم والتطبيق، بسبب من اتساع دوائر الفهم والإدراك البشري، ونتيجة لما يأذن الله به من اكتشاف الإنسان لأسرار من آيات الكون المنظور أو الكتاب المسطور. وقد كتبت فيما كتبت قبل أكثر من خمسة عشر عاماً مقالا عن الخطاب الإسلامي الحضاري، أكدت فيه أن الخطاب الإسلامي هو خطاب متجدد دوما. وفي اللحظة التي لا تتوافر فيها صفة التجدد الدائم يتوقف عن دلالة كونه خطابا إسلاميا. * لكن دكتور، الخطاب لا تكون له أية قيمة إلا في سياق التدافع، أي في سياق إبراز قوته الاقتراحية، ألا ترى معي أن مجمل الاجتهادات التي تصدر من هنا ومن هناك إنما تتناول بعض القضايا مثل الردة والحدود والإكراه وما شابهها لتبرز مدى قدرة الإسلام على مواكبة التشريعات الحديثة؟ ** هذه صورة واحدة من صور عرض القضية، لكنها ليست الصورة الوحيدة، وقد لا تكون الصورة الأكثر بروزا في الاجتهاد التجديدي الإسلامي المعاصر. أنا أعتقد أن الحاجة إلى التجديد قائمة من أمور منها: الأمر الأول: أن كثيراً من صور الفهم عن الإسلام قاصرة وتحتاج إلى علم وبيان وتصحيح للأخطاء المختلطة بكثير من الغبش والجهل؛ فالتجديد هو إعادة الجدة بإزالة تراكمات الجهل والتشويه الطارئة. الأمر الثاني: متعلق بمفهوم الخطاب. فالخطاب في الأصل هو أمر يرتبط بالمخاطب بالدرجة الأولى، بمعنى أن يكون موضوع الخطاب ومضمونه مفهوما ومستوعبا بالدرجة الكافية للمتلقي، فالمتلقي يتأثر بالبيئة الثقافية التي ينشأ فيها، وتتغير لديه دلالات المصطلحات التي يستخدمها الخطاب، الأمر الذي يحتاج بالفعل إلى تجديد في أساليب العرض ولغته، حتى يصبح واضحاً ومفهوماً للمستهدفين بالخطاب. الأمر الثالث: متعلق بتطور الخبرة البشرية، في إدراك مقاصد الدين وعلاقتها بمصالح البشر، فليس من المستغرب أن يكتشف الناس صوراً من العلّة والحكمة والمقاصد، لبعض الأحكام لم يكتشفوها من قبل، ولذلك يعيد العلماء تفسير بعض النصوص، وفهم تطبيقاتها في إطار الزمان والمكان وفق هذه الرؤية الجديدة، أو يعيدون تكييف بعض صور التطبيق للتشريعات الإسلامية، وفق هذا الفهم الجديد. ولذلك كان معنى التجديد يرتبط تماما بحديث تجديد الدين على رأس كل مائة سنة كما يرتبط أيضا بحديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء. والغرباء في الحديث هم الذين يصلحون ما أفسد الناس؛ ويكشفون عن جوانب القصور والجهل التي خالطت معانيه بسبب من الكسب البشري، ويعيدون للدين جدته ومعانيه بعد أن غابت أو تشوهت لدى الناس، ويستخدمون من أساليب العرض ولغته ما يمكن الناس من فهم الدين ولذلك، فإنه حين تظهر قضايا مثل النسخ والردة والحدود وقضايا الشورى والديمقراطية، ونشعر أن الفهم الإسلامي الأقرب إلى مقاصد الدين ربما غاب حتى عن أهل العلم في بعض العصور السابقة، بسبب شدة ارتباط ذلك الفهم بملابسات الزمان والمكان، وبسبب إلفة الناس في تلك العصور بصور محددة من الممارسات، فإنه ليس غريباً أن تشيع الآن صور أخرى من الفهم لأنها أصبحت أكثر ألفة لنا، وبدت لنا أنها أقرب إلى مقاصد الدين فنقول إننا بحاجة إلى تجديد الفهم لهذه القضايا. فليس المقصود هو التجديد في النص الشرعي، وإنما الحاجة إلى تجديد فهم النص الشرعي. وهذا ما يميز طبيعة التجديد في الإسلام قياسا إلى الأديان الأخرى، فالتجديد في الحالة المسيحية أو اليهودية كان يعني تغييراً في طبيعة الدين، ولذلك فإن الأوربيين حين يسمعون لفظة التجديد، يتبادر إلى ذهنهم أن المقصود هو ما حدث للمسيحية من تغيير في طبيعة الدين حتى صارت ديناً أو أدياناً أخرى، تختلف عما كانت عليه في أصلها. فالتجديد المطلوب هو التجديد في فهم الناس بعد أن جهلوا وقصروا في الفهم نتيجة لغياب العلماء عن الفاعلية في المجتمع، وغياب الإسلام عن التطبيق، وبعد أن تحول الحكم إلى ممارسات لا تلتقي مع الإسلام إلا في تفاصيل بسيطة. * هناك تحد آخر داخلي، هناك أفهام تنطلق من قراءة النص لكنها تنتج ممارسات أقل ما يقال عنها أن فيها غلوا وتطرفا خاصة في المجال الفكري والسياسي، كيف يمكن أن نفسر هذا الغلو؟ وما هي في نظركم الأسباب التي تجعل فكر الغلو ينتشر على حساب الفهم المتجدد للدين؟ ** لعل القضية في صورتها المعروضة هي قضية إعلامية أكثر من كونها قضية فكرية. فالغلو والتطرف كان معروفا على مدار التاريخ. ثمة أناس يختارون، ضمن صور الممارسة المتاحة، بعض أشكال التطرف. لكن، يبدو أن الحديث اليوم عن الغلو والتطرف قد أُعطِي أهمية أكثر مما يلزم لأسباب إعلامية وسياسية تتعلق بطبيعة الصراع الفكري السائد في الساحة الدولية هذه الأيام. لكن الحقيقة هي أن المتطرفين كانوا دائما قلة وندرة، وأن إعطاءهم أكثر من حجمهم يبلبل الصورة الحقيقية التي ينبغي أن نأخذها عن طبيعة الغلو وطبيعة التطرف. في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك متطرفون يلجأون دائما إلى الحد الأقصى من الإفراط أو التفريط. مثل هذا كان موجودا دائما. وفي زمان علي رضي الله عنه، كان هناك من أعطاه صفة أكثر من صفته البشرية ونسب إليه صفات التقديس والإلهية ومنهم من اضطروه إلى قبول التحكيم، ثم خرجوا عليه بسبب نتيجته، فحاورهم وجادلهم، وأنكر عليهم، ثم قاتلهم، ومثل هذا الغلو في جانب معين كان موجودا على مدار التاريخ، وكانت هناك أحزاب سياسية تتبنى التطرف في الفكر والموقف، وبعض هؤلاء كان يلجأ إلى أساليب العنف. ليس من المتوقع إذن أن يختفي التطرف أو الغلو، لا اليوم ولا غداً، وكلما زاد اهتمامنا بالتطرف والغلو وأعطيناه أكثر من حجمه نكون قد ساهمنا في منحه مساحة للحركة أكثر مما يستحق وأكثر مما ينبغي له. * هناك بعض الآراء من داخل التنظير الإسلامي ترى أن التطرف والغلو لا يمكن أن ينفك عنه أي مجتمع، وأنه يمكن أن يستوعب في الدائرة الفكرية وحتى السياسية شريطة ألا يستبيح الدم وألا تتوسل العنف وسيلة للعمل؟ ** لكل حادث حديث كما يقولون. بالتأكيد، حينما تصدر ممارسات تتجاوز ما تعارف عليه الناس في أنظمة حياتهم التي يقبلون بها تتدخل العقوبات الزجرية لتعيد النظام إلى نصابه، فالخروج على هذه القوانين موجب للعقوبة، فشيء منطقي جدا، أن الذي يلجأ إلى الإفساد في الأرض تلزمه العقوبة، فالسارق له عقاب، والزاني له عقاب أيضا، والذي يخرج على القوانين المنظمة لحياة الناس التي تواضعوا عليها لا بد أن ينال العقوبة. هذه الأشكال من الخروج على الأنظمة المتوافق حولها وأساليب الحياة المقبولة اجتماعيا سواء كانت ضمن الأحكام الإلهية الشرعية الدينية أو الأحكام المدنية الوضعية السياسية والقانونية لا يمكن أن يقرها الشرع ولا يجوز أن تبارك، فالتطرف التي يتعدى قضايا الفكر، ويتجاوز في ممارسته القوانين المنظمة لحياة الناس، ويخرج عما تعارف عليه الناس، فهذا لا بد من مواجهته بالقانون. * في منهج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يمكن أن نلاحظ ثابتين اثنين في التعامل مع هذه الظاهرة، الأول هو التعامل مع التطرف والغلو كظاهرة موضوعية تحتاج إلى حوار ومناظرة، والثاني الجاهزية لمحاربته إن حاد عن قواعد الاجتماع السلمي واستعمل العنف وسيلة للعمل، سؤالي هو إلى أي حد يمكن أن نستصحب منهج علي كرم الله وجهه اليوم في معالجة ظاهرة التطرف؟ ** الفكر يواجه بالفكر، والرأي يعارض بالرأي، والقول يرد عليه بالقول، وحين يكون للغلو أو التطرف رأي في مسألة فكرية تختلف فيها الآراء، فيتطرف بعضها، ويشذ بعضها، ويتوسط بعضها، فالحوار يبقى هو سيد الموقف، ويبقى هو الأداة لتصريف الخلاف وهو العلاج لهذه المعضلة، ففي قضايا الفكر والنظر متسع لصبر الناس بعضهم على بعض إلا إذا وصل أمر الكلام في مسائل التطرف إلى خلخلة المجتمع وزعزعة الاستقرار فيه، ففي هذه الحالة ينبغي للمسئولين في المجتمع والدولة، أن يتحملوا المسئولية لمواجهة هذه الأفكار. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع السؤال في بعض القضايا المعينة كمسائل القضاء والقدر. وأن عمر رضي الله عنه كان يمنع بعض الصحابة رضوان الله عليهم من الإكثار من الحديث في بعض المسائل والقضايا. فالحاكم أو الأمير أو المسؤول لا بد أن يتحمل مسؤولية ضبط أمور المجتمع حتى لا تقع فتنة، فالحوار وإن كان سيد الموقف إلا أن له حدودا، حتى إذا وصلت الأمور إلى احتمال وقوع الفتنة، يتحمل الحاكم مسؤوليته في منع تداول الأفكار التي تدعو إلى الفتنة أو تزعزع قواعد الاستقرار والتعايش السلمي. * لكن، ألا يخشى من أن يصير هذا مبررا لتدخل السلطة للتضييق على بعض الأفكار التي لا ينتج عنها بالضرورة خروج عن قواعد الاجتماع السلمي؟ ** بالتأكيد هذا هو المسوغ الذي تلجأ إليه بعض أنظمة الحكم لممارسة الاستبداد. هذا صحيح، لكنه لا ذلك لا يلغي حق الناس في التعبير والمخالفة في الرأي وواجب السلطة السياسية في توفير ضمانات هذا الحق. فالأمور ينبغي أن تقدر بقدرها، وإلا فيصبح من التطرف أيضا التعسف في استعمال الحق. فالحق حق، لكن التعسف في استعماله يتجاوز متطلبات وشروط كونه حقا، ويدخل بالتالي في معنى التطرف، ويخرج عن كونه حقا وينتقل إلى معنى العدوان. فالتخوف من تجاوز السلطة السياسية الحدود للتضييق على بعض الآراء المعارضة، لا يبرر في المقابل، حرمانها من القيام بواجبها في حماية أمن المجتمع. * في قضية علاقة الدين بالسياسة، تأرجح الفكر الإسلامي بين أطروحات متعددة، واليوم آلت أغلب الكتابات الإسلامية إلى تبني مفهوم الدولة المدنية، ألا يوجد في الاجتهاد الإسلامي آراء أخرى تزيل هذا الالتباس والغبش في علاقة الدين والدولة خاصة وأن معقد انتقاد العلمانيين للأطروحة السياسية الإسلامية هو علاقة الدين بالدولة؟ ** أعتقد أن هذا الموضوع قد تم تناوله داخل الفكر الاجتهادي الإسلامي، هذه الأيام، بصورة أكثر وضوحا مما كان عليه الأمر سابقا، الصحوة الإسلامية التي يعيشها جيلنا في هذا الوقت الحالي أعادت الاعتبار لمعنى الشمول في الدين، وهو مضمون الشعار الذي يجعل من الإسلام دينا ودولة ومصحفا وسيفا وغيرها من المصطلحات والأوصاف التي شاعت في مرحلة من المراحل لتكشف عن جوانب من شمول هذا الدين واستيعابه لكل أنظمة الحياة، فإذا دخلت في التفاصيل ستجد أن الذين طرحوا هذه العناوين كانوا يقصدون دلالات مهمة، منها رفض إقصاء مبادئ الإسلام على مسائل الحكم والسياسة، ورفض احتكار السلطة السياسية لكثير من فعاليات المجتمع الدينية. الدولة بالمعنى الذي كانت تعنيه في التحديد القرآني، يراد بها الاشتراك والانتشار والعموم في الملكية "كي لا يكون (المال) دولة بين الأغنياء منكم" فالقصد هنا ألا يحصر أمر المال أو الحكم أو أي شأن من شؤون الأمة في فئة معينة، تحتكره وتصادر حق الناس في المشاركة. الدولة كانت تعني في الاجتهاد السياسي الإسلامي إدارة شؤون الأمة وتنظيمها وحماية حقوقها، من خلال مؤسسات متخصصة، هي في معظمها مؤسسات مدنية، ذات قدرة على المبادرة والتنظيم الاجتماعي. وأصحاب الشأن في معظم الحالات هم المتخصصون في مجالات الخبرة والمعرفة والعلم في الصنائع والحرف والمهن، ويكون تمويلها في الغالب عن طريق مؤسسات وقفية استثمارية مستقلة في إدارتها، والعلماء دوماً هم المرجعية في بيان أحكام هذه المعاملات والتنظيمات، إضافة إلى أن هؤلاء العلماء كانوا يتولون حماية المجتمع ممن تسول له نفسه من أصحاب السلطة أن يمارس على الناس ظلماً أو عدواناً. هذا هو المعنى الإسلامي الذي كان يعطى للدولة وليس المعنى الذي آلت إليه في الخبرة الأوروبية التي تحصر الدين في مسائل العلاقات الشخصية والجوانب الروحية، أما قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فهي شأن الدولة وهي شيء آخر غير الدين.