نشرت جريدة التجديد يوم الثلاثاء 5 ماي 2009 مقالا للدكتور سعد الدين العثماني بعنوان تصنيف عياض للتصرفات النبوية وقد أثار انتباهي هذا البحث وطرحت سؤالا مفصليا مفاده لماذا البحث والتنقيب في التصرفات النبوية ؟ وماهي الانعكاسات التطبيقية لهذه التصرفات علي مستوى الفهم والممارسة؟ إلى أي حد تستفيد الدعوة والسياسة من هذه التصنيفات؟ ومما يجعلنا نطرح هذه الأسئلة وغيرها أن الباحث الدكتور سعد الدين العثماني سبق وأن تناول بالتفصيل موضوع التصرفات النبوية عند الإمام القرافي . إذن نحن أمام بحوث تهتم بالتصرفات النبوية عند الممارسة المغربية . لكن الذي يدفعنا إلى تتبع هذا البحث هو أن العثماني يقول في مقاله >وأظنه ـ أي عياض ـ أول من استوعب أنواع التصرفات النبوية، وأعطى كل نوع منها حظه وبين حكمه إجمالا< وهذا يذكرنا بالقولة المشهورة لولا عياض لما عرف المغرب وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر أن جامعة القاضي عياض قد منحت لها إزو الجودة. وأول ملاحظة نسجلها ونحن نقرأ هذا التحليل هو اعتماد الباحث العثماني على الكتاب المشهور لعياض الشفا بتعريف حقوق المصطفى والأمر يتعلق بكتاب سيرة بامتياز، لكن غزارة العلم، والحكمة جعلت أصول الفقه حاضرة، وتصنيفه رحمه الله للتصرفات النبوية أكثر دقة. ومن خلال تشريحه لأقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم خلص إلى أنها قسمان: أولا ما يختص بالأمور الدينية ويندرج تحت هذا القسم كما ذهب إلى ذلك العثماني محوران: 1 ما كان طريقه البلاغ: ويرتبط هذا المحور بالوحي على مستوى الأحكام والأخبار. والرسول صلى الله عليه وسلم فيه معصم . وهذا بإجماع أهل العلم. 2 ما ليس سبيله سبيل البلاغ : من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحي. بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه. وفي هذه الحالة فالنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الكذب فيها لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا، وانه معصوم من ذلك. لكن برجوعنا إلى قصة تلقيح النخل المشهورة، فإن الأمر يصبح محيرا إذا قورن بالخلاصة التي استنتجها عياض من محور ما ليس سبيله سبيل البلاغ، إلا أنه بنظراته الثاقبة يعتبر قصة تلقيح النخل من قبيل الرأي وليس الخبر. والمعروف عند أهل المنطق والبلاغة أن الرأي يحتمل الخطأ والصواب. والخبر قد يكون صادقا أو كاذبا. وهذا تمييز دقيق يجب أن نعيه. والعلة في ذلك أن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار استريب بخبره، واتهم في حديثه ولم يقع قوله في النفوس موقعا. لذلك هناك إجماع للمسلمين أن ما يتعلق بالجوارح من الأعمال فالأنبياء معصومون من الكبائر والموبقات والفواحش. أما الصغائر فقد جوزها عليهم جماعة من السلف وغيرهم على أنهم معصومون من تكرار الصغائر وكثرتها وعن صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة واستحطت المروءة وأوجبت الخساسة. ثانيا: فيما يخص الأمور الدنيوية والعوارض البشرية إن التأمل في هذا التقسيم يجعل المتتبع يطرح إشكالية الديني والدنيوي وانعكاساتها فهما وعملا. لأنه جرت العادة عند مجموعة من المسلمين أن كل ما ورد أو كتب عنه صلى الله عليه وسلم يؤطر ذلك خانة السنة فيحضر كنهج واحد في التعامل وبالتالي يقع الخلط وينعكس ذلك على مسار الدين والفكر والسياسة ومناهي أخرى. ومن ثم ندرك أهمية هذا البحث الذي يصنف تصرفاته صلى اللع عليه وسلم. وفي هذا المقام الثاني من تصرفاته عليه الصلاة والسلام فيما يخص الأمور الدنيوية والعوارض البشرية صنفها العثماني إلى ما يلي: 1 التغيرات والآفات الجسمية: فهو عليه السلام كغيره في البشر. وما يجوز على سائرهم، وهذا ليس نقيصة فيه، بل تم التمييز في هذا المقام بين الجسم وبين الباطن الذي لايجوز عليه ما يخل به، وما فاض منه على لسانه وهواجره مالا يليق به. 2 مايعتقد في أمور الدنيا: إذن هو اعتقاد وليس جزما، لذلك قد يظهر خلاف ما يعتقد. ويشمل صنفين: أمور الدنيا، والاجتهاد في أمور الشرع. لذلك أثناء واقعة تأبير النخل جزم قائلا: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. وبهذا الجزم يرد عليه السلام الأمور إلى نصابها، حتى لا يقع الخلط بينا ما هو من أمور الدين وما هو من أمور الدنيا، وهذه قمة عالية في الفهم والتصنيف. 3 ما يعتقده في أحكام البشر الجارية وقضاياهم؛ مما يحكم به بين المتخامين: إن فصله بين الناس مبني على الظاهر وموجب غلبات الظن، ومن ثم يستوي مع سائر البشر. ويوضح عليه الصلاة والسلام هذا جليا في قوله: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلين ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما اقطع له قطعة من النار. إن حكم القاضي مرتبط بمدى مصداقية المتخامين، ولذلك لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم سبيلا للرفع من هذه المصداقية إلا تذكيرهم بالآخرة: فإنما اقطع له قطعة من النار. وبالتالي فوازع الآخر له دور فعال في إقامة العدل إضافة إلى الأخذ بالسنن المادية البحثة. 4 أقواله الدنيوية: من أخباره عن أحواله وأحوال غيره وعما يفعله أو فعله، فيمتنع عليه صلى الله عليه وسلم بأن أن يظهر خلاف ما يظهر، كما لا يجوز عليه أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء وهو يبطن خلافه. 5 أفعاله الدنيوية: الأصل فيها توقي المعاصي والمكروهات، مع جواز السهو والغلط في بعضها. وغالبا ما يدخل هذا القاضي عياض في مجال السياسة الشرعية كما جاء في المقال نحو خروجه من المدينة في غزوة أحد مع أن رأيه كان هذا الشخص بها، ورفعه قتل المنافقين لأسباب منها كراهة أن يقول المنافقون: محمد يقتل أصحابه، وتركه بناء الكعبة على قواعد ابراهيم مراعاة لقلوب قريش وحذرا من نفورهم من الاسلام. نخلص مما سبق أن أهداف هذا التصنيف الراقي لعياض فيما يتعلق بالامور الدينية هو أنه عليه السلام معصوم عن الجهل بالله وصفاته، ومعصوم عن الكذب وتنزيهه عن الكبائر إجماعا وعن الصغائر تحقيقا. أما على مستوى الامور الدنيوية، فالأمر يتطلب التمييز بين مقام التغييرات والآفات الجسمية، ومقام ما يعتقده في أمور الدنيا، ومقام ما يعتقده في أحكام البشر وقضاياهم، ومقامي أقواله وأفعاله المرتبطة بالدنيا. ولكل مقام أحكامه. ولا يمكن أن نفع كل ما ورد عنه عليه السلام في كفة واحدة، وبالتالي ضرورة فهم تصرفاته عليه السلام حتى يتفق المقام وبالتالي يتضح المنهج. فرحمة الله على القاضي عياض وتحية للاخ العثماني الذي ينقب في مواضيع ساهمت في تجديد الفهم والسلوك.