يكتبها عبد القادر الإدريسي في الطبعة الجديدة المزيدة من كتابه القيّم (رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، رسالة عالمية خالدة)، يطرح الأستاذ المجاهد أبوبكر القادري قضية بالغة القيمة والأهمية، وهي ارتباط الحركة الوطنية المغربية بالإسلام ارتباطاً قوياً، فهو بعد أن يذكر كيف كانت صلته الأولى بالسيرة النبوية في الطفولة المبكرة واليفاعة والشباب الأول، يقول في عبارات مختصرة، ولكنها تنطوي على معانٍ عميقة: «كان توجهي الوطني منذ ذلك الوقت، مربوطاً دائماً بتوجّهي الإسلامي، وكانت الروح الإسلامية، هي الغذاء الروحي للحركة الوطنية، في بداية نشأتها وتكوينها أوائل الثلاثينيات». ثم يضيف مؤكداً على هذه الحقيقة التي تميزت بها الحركة الوطنية المغربية والتي تتعرض اليوم للتعتيم على أكثر من مستوى ومن طرف أكثر من جهة: «هذه الروح الإسلامية الوطنية، كانت تربطني وإخواني ربطاً قوياً بالحقيقة الإسلامية التي أتى بها الرسول الأعظم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزيدني محبة له، وتعلّقاً به، واستمساكاً بسنته». ويعود بنا المؤلف إلى العشرينيات من القرن الماضي، عندما كان فتى نابهاً يُقبل على حفظ القرآن الكريم، ويتوقف عند مرحلة جدّ مهمة من مراحل طفولته، فيما يعدُّ لوحةً من لوحات النشأة الأولى، تشكّل مع ما كتبه في الجزء الأول من (مذكراتي في الحركة الوطنية المغربية)، فصلاً غنياً بالمعلومات من فصول السيرة الذاتية لهذا المناضل الوطني الصلب. يقول الأستاذ أبو بكر القادري في المقدمة: «منذ صغري وأنا شغوف بقراءة السيرة النبوية، فلقد كان أخي وأستاذي مولاي الشريف (اسماً) القادري، الذي حفظت عليه القرآن الكريم، في بداية دروسي الابتدائية في مدرسة درب العلو، كان يعطينا درساً أسبوعياً في السيرة النبوية من كتاب (نور اليقين، في سيرة سيد المرسلين) للشيخ محمد الخضري المصري المفتش بوزارة المعارف، ومدرس التاريخ الإسلامي بالجامعة، وكنت أحياناً آخذ نفس الكتاب ممن مكتب أخي، فأقرأ صفحات منه، وهكذا بدأت أتعرف على حياة الرسول، ابتداء من ولادته، إلى وفاته عليه السلام، وكانت شمائله وأخلاقه تستهويني، وتقوي ارتباطي ومحبتي له وأنا صغير، فلا أعثر على كتاب أستطيع مطالعته يتحدث عن سيرته، إلاّ وتستهويني قراءته، ولما ظهر كتاب (محمد صلى الله عليه وسلم، المثل الكامل) لمحمد جاد المولى المفتش بوزارة المعارف المصرية، عكفت على قراءته. وهو كتاب قيم، ما أحرى شبابنا أن يطالعه ويستفيد مما فيه من معلومات عن حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه ودعوته وسيرته العامة». تلك صفحة مشرقة من حياة الأستاذ أبي بكر القادري أطال الله عمره، تكشف للقارئ عن جوانب من نشأة رجال الحركة الوطنية المغربية، وتبين كيف كان هؤلاء الرواد الماهدون يتعلمون من السيرة النبوية ويغترفون من منابعها، وكيف كانت الروح الإسلامية هي المهيمنة على الجوّ العام في تلك المرحلة الدقيقة التي فقد المغرب فيها استقلاله وسيادته. وقد استوقفني في هذه الصفحة أمرٌ في غاية الأهمية، وهو تأثير كتاب (نور اليقين) للخضري في الفكر الوطني المغربي. فلقد كان علال الفاسي يعطي دروساً في القرويين حول السيرة النبوية من هذا الكتاب. وكانت تلك الدروس حدّاً فاصلاً بين عهدين، ومنطلقاً للحركة الوطنية. وأذكر أن جيلي في تطوان الخمسينيات، والستينيات كان يقرأ (نور اليقين)، وكان الشيخ محمد الخضري من الأسماء ذات الرنين الذائعة الصيت. ولاأزال أذكر أني قرأت مع زملائي كتاب (نور اليقين) في طبعته الثالثة عشرة الصادرة في عام 1965، وكوني أذكر في هذه اللحظة رقم الطبعة وتاريخ الإصدار، دليل على التأثير الذي أحدثه هذا الكتاب في نفسي. فالبداية إذن كانت من السيرة النبوية، والمثل الكامل والأعلى، كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنواصل قراءة ما كتبه الأستاذ أبوبكر القادري عن صلته القوية بالسيرة الشريفة: «...وتابعت ما أمكنني أن أتابعه من قراءات ومطالعات في بعض كتب السيرة الصحاح، كالسيرة النبوية لابن هشام، والزرقاني المالكي على المواهب اللدنية للقسطلاني، وبعض ما جاء في كتب الحديث الصحاح، وكتاب الشفا للقاضي عياض، وكتاب (حياة محمد) لمحمد حسين هيكل، وكتاب (السيرة النبوية) لأبي الحسن الندوي، ومختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وأثناء انشغالي في المدرسة التي أسستها بزاويتنا القادرية سنة 1933، كنت أحياناً أجمع تلامذة المدرسة في مختلف الأقسام والفصول، لألقي عليهم درساً في السيرة النبوية، وكنا أحياناً نتبع الدروس بإنشاد أناشيد في مدح الرسول. لقد كنت مولعاً وأنا في فترة الشباب بقراءة كتب السيرة النبوية. وفي شهر المولد النبوي، كنت أحضر دروساً كان يلقيها العلامة الشيخ أحمد الجريري وبعده الفقيه العلامة السيد أحمد بن عبد النبي، في موضوع السيرة النبوية، إما عن طريق البردة أو عن طريق الهمزية للبوصيري». في هذه البيئة الطيبة المشبعة بأنداء السيرة النبوية، نشأ المؤلف كما نشأ جيله في مختلف أنحاء المغرب. وكانت تلك النشأة هي القاعدة المتينة التي قامت عليها الحركة الوطنية المغربية. يقول الأستاذ أبوبكر القادري: «كان درس الفقيه الجريري يطول كثيراً ويحضره كل علماء مدينة سلا، بالإضافة إلى الطلبة الكبار، والطلبة الصغار مثلي. وأثناء شبابي وتوجّهي التوجّه الوطنيَّ الإسلاميَّ وأنا في سن العشرين من عمري وما بعدها، صرت ألقي كلمات وخطباً بعد انتهاء الدرس في السيرة النبوية، وكانت تلك الخطب تلقى تجاوباً كبيراً من لدن المستمعين على اختلاف تكوينهم الثقافي، فكانت تلك الخطب تربطني بمختلف الطبقات المجتمعية». يقدم لنا المؤلف في هذا الكتاب الذي صدر أخيراً، صفحات مترعة بمحبة الرسول الأعظم، في أسلوب عذب سلس ينفذ به الكاتب إلى القلب، ويثير الشوق إلى قراءة كتب السيرة النبوية. وكأن الكاتب يُغري القارئ إغراءً بالرجوع للسيرة الشريفة لتأملها، وللاقتباس منها، وللاقتداء بها. والقارئ الذي سبق له أن قرأ بعضاً من كتب السيرة النبوية، يدفعه الكتاب إلى إعادة القراءة في تلك الكتب. أما القارئ الذي لم يسبق له أن طالع كتباً في السيرة، فإنه سيبدأ في البحث عن الميسّر منها الذي هو في المتناول. وحسب الكاتب أنه جدّد الصلة بالسيرة ونفخ في القارئ روح الشوق إلى الاستزادة من استيعاب دروس السيرة. وتلك إحدى مزايا هذا الكتاب الذي أرى أنه صدر في الوقت المناسب. وقليلٌ هي الكتب التي تصدر في الوقت المناسب. دروس السيرة النبوية لا يستغني عنها مسلم وغير مسلم، فيه تنير العقل والقلب والوجدان والبصيرة، وما أحوج الإنسان اليوم إلى هذا التنوير النبوي الذي يضيء معالم الطريق أمام من يريد الخير والسعادة في الدارين. ولما يصدر مناضل رائد من المناضلين السياسيين، ومجاهد ماهد من المجاهدين الوطنيين، كتاباً عن الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، فهذا حدَثٌ يستحق التوقف عنده، وجدير بالتأمل والاعتبار. لقد قدم المؤلف في صفحات قليلة، سيرة الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في إطار استوعب فيه جوانب مشرقة من رسالته الخالدة، فجاء الكتاب وكأنه مدخل لعالم رحب فسيح، أو كأنه في جملته مقدمة في السيرة النبوية الشريفة.