حددنا فيما سبق " التخليطة السياسية" بوصفها برنامج السيد رئيس الحكومة المبجل، من منطلق أن تلك الثروة الاصطلاحية التي يفجرها في حساباتها عبر تصريحاته من تخليطات، تذكرنا بتخليطة العشابين، ورواد الطب الشعبي البديل، ولعل تلك الثروة الاصطلاحية الصوتية الانفجارية هي التي جعلتنا نكتشف برنامجا آخر من برامجه الصوتية الانفجارية في الداخل والخارج، وهو ما اعتبرناه بمثابة "صنمية سلعية"، ومن الأمانة العلمية لابد لنا من توثيق هذه التركيبة الاصطلاحية، فبالإضافة للدلالات "الصنمية" التي عرفناها في الأدب الجاهلي، نجد لها دلالات إضافية أقرب لها، ومنها ما تعبر عنه من معاني السحر والتعويذة والتمائم، التي تربط كل الوقائع بقوى سحرية خارقة للعادة، ولعل ما نقل هذا المفهوم من حقوله الخرافية إلى حقول الفكر السياسي والاقتصادي بتحليل ومتابعة معمقين، هو الفكر الماركسي. الأمر الذي وجدناه ينطبق في مستوى التحليل على خطاب وممارسات السيد بنكيران الحكومية، من حيث انفجاراته الصوتية، ومن حيث تعليقاته الكلامية الجزئية والكلية ضمن "التخليطة السياسية الكبرى"، فقد ذهب "كارل ماركس" في تحليله ل " الصنمية السلعية" إلى أن الناس يتصورون قوانين الاقتصاد والاجتماع على أنها نتاج قوى خارقة تسيطر عليهم، وتبدو حركتهم الاجتماعية في نظرهم على أنها حركة أشياء، أي أشياء تتحكم فيهم بدل أن يتحكموا فيها، وهذا حرفيا ما وجدناه ينطبق على السلوك الصوتي والتصريحاتي والفعلي والانفعالي لفضيلة رئيس الحكومة الموقر، وخاصة حينما تتم مساءلته في الأقوال والأفعال الصادرة عن فضيلته، وعن وزراء حزبه ووزراء أغلبيته الحكومية، ذلك أن أول جواب لجأ إليه هو تعليق كل ثغراته وتعثراته على القوى الخارقة والخفية باعتبارها مشجبا لتعليق الزيف الخطابي، ولتفسير الحركة الزئبقية للاقتصاد المالي والسلعي ضمن برنامج " الصنمية السلعية " باعتبارها إضافة نوعية في مداخل السيد بنكيران ومخارجه، لينسل منها هذا " الاقتصاد السلعي" الذي تحركه الأصنام الجامدة والمتحركة، والظاهرة والباطنة المساندة بالطبع لبرنامج بنكيران، ولا تعرقله حسب ما ادعاه السيد بنكيران في تصريحاته التمساحية والعفريتية، باعتبارها طاقات وقدرات خفية، وبناء عليه فإن الملكية الخاصة التي تعتبر المرتكز الأساس للاقتصاد السلعي تعد أكبر داعم لحكومة السيد بنكيران. كما أنها هي نفسها من تساهم في إنتاج وترويج الخطاب الإعلامي الذي يوحي بوجود قوى خفية تعمل وتهدد بإسقاط حكومة السيد بنكيران، وتشوش عليها، مادام السيد بنكيران وسياسته الحكومية، وما فتئ تدبيره الاقتصادي يحمي ويقوي ويسمن هذه "الصنمية السلعية" المتضخمة، التي تريد أن تلعب دور المظلومية، وتتلبس وتتقمص صورة الضحية الكبرى للسيد بنكيران، وما يغذي هذه المعادلة أكثر ويحميها، هو أن الفكر الذي يحمله السيد بنكيران وإخوانه وأخواته في حزبه يخدم تلك المعادلة أكثر فأكثر، ما دام يتحرك بميكانيزمات: " الصراع والمغالبة والضحية والمؤامرة والبناء والبديل والإطاحة والقوى الخفية وميزان القوى والمشروع البديل والقوى المضادة والزحف والتطهير والإيمان والكفر والانتصار والهزيمة والترصد والانتقام والضرب....". فالفكر الإخواني الذي يمارس العمل السياسي والحكومي من هذه المنطلقات، لا شك أنه سيفسح المجال لتحالف وتبادل للمصالح بين الطرفين (أرباب الاقتصاد السلعي وميليشيات الإخوان- بعضهم من بعض-) على المكشوف في الوقت الذي تصور فيه كل تعرية لهذا المشروع ولهذا التحالف، مجرد استهداف وتشويش وافتراء على حكومة السيد بنكيران، وحينما نقدم نماذج ملموسة على هذا التحالف الذي يسمح بالزحف الأصولي لحزب بنكيران، ولحركاته الأصولية الموازية الملموسة والمباشرة على مؤسسات الدولة والمجتمع ، كما هو الحال مع مخطط السيد الشوباني الذي سماه ب"التنسيق أو التفاعل مع هيئات المجتمع المدني"، أو كما هو الحال مع مخطط السيدة الحقاوي في وزارتها، والذي أعطته أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وما أنزل الله بها من سلطان، أو كما هو الحال في المخطط العملي المستمر والمرتب بتنسيق تام في المجالس العلمية، وفي المجلس العلمي الأعلى من زرع للقوى الأصولية ولأشخاصها الذين يتظاهرون بالأعلمية وبالقداسة الفارغة من المضامين وهم أبعد من ذلك في الواقع، كما لا تخفى علاقتهم ب " حركة التوحيد والإصلاح" وبالفكر الإخواني والوهابي، وتسليمهم مفاتيح تدبير الشأن الديني في اتجاه إقبار " المدرسة المغربية الأصيلة والمحايدة والمستقلة، وضرب موروثها الحضاري العريق. في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولولا يقظة الهيئات القضائية ودينامية جمعية قضاتها، واستقلالية هياكل النيابة العامة وفعالية أجهزتها، وفعالية ومواكبة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وباقي الفعاليات الحقوقية الوطنية الموازية لسار السيد وزير العدل نفسه في المسار نفسه، الأمر الذي يذكر ويلزم إشراك كافة الفعاليات المعنية بصورة مباشرة في الملف الاستعجالي لإصلاح القضاء على كافة المستويات. فمن اللازم إذن الانتباه إلى أن هذه القوى الأصولية السالفة الذكر تحظى بتغطية سياسية وإعلامية صلبة وهي تمارس مخططها التمددي من داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، كما أنها تحظى بطمأنة إعلامية معتبرة حينما يتم ترويج خطاب مضاد مفاده:" أن هذه الأقلام الناقدة لحكومة السيد بنكيران ما هي إلا أقلام موكلة للتشويش ولاستهداف عمل الحكومة في إطار مؤامرة كبرى تقودها التماسيح والعفاريت الإبليسية المضادة للصفات وللصور الملائكية لحكومة السيد بنكيران". ومضمون هذه الطمأنة الإعلامية للقوى الأصولية اللاعبة دور الضحية في اتفاق وتبادل تامين مع أباطرة " الصنمية السلعية" في البلاد، من أجل وصلة إشهارية إضافية تقول: " أيها الإخوان والأخوات واصلوا خطواتكم في إطار خطتكم، فلن يمسكم أحد بسوء، وأننا سنواصل تسفيه وتشويه أي خطاب نقدي يعري خططنا وخططكم، ولن يصل إلى شيء."(انتهى كلام الوصلة الإشهارية السياسوية المتأسلمة). ولعل السؤال المركزي هنا ليس موجها للسيد بنكيران وإخوانه وأخواته لأنهم واثقون مما يفعلون، وحسموا ذلك،إنما هو موجه لحزبي الاستقلال والحركة الشعبية من داخل الحكومة، فقد سبق أن أكدنا على أن أكبر ثغرة تشوه وتطيح بالمشاركة في الحكومة للحزبي، ليست هي مسألة غياب الانسجام الحكومي والتي يتم تسويقها إعلاميا، في الوقت الذي يتم تمرير كل شيء حكوميا على مستوى القرارات، ليبرز هذا الانسجام عمليا بعد أن كان مفتقدا إعلاميا، فأكبر ثغرة هي إذن غياب الهوية السياسية للحزبين من داخل الحكومة في ظل سيطرة هوية أصولية لا وطنية ولا مغربية لحزب رئيس الحكومة، كما أنها مضادة لهوية الفكر السياسي المغربي الحقيقي، فقد نختلف – ولا نخفي اختلافنا ونقدنا- مع حزبي الاستقلال والحركة الشعبية، لكننا لا يمكن أن ننكر الهوية السياسية المغربية والتاريخية للحزبين، وهو ما يفتقده حزب "العدالة والتنمية" افتقادا مطلقا لم يستطع إملاء هذا الفراغ الهوياتي بكل الروتوشات التي ما فتئ يستقدمها ويستخدمها، مهما حاول الحزب الأصولي أن يتلبسه مرحليا وظاهريا لقضاء حاجاته وحوائجه، فالمؤاخذة النقدية الكبرى إذن التي نسجلها على حزبي الاستقلال والحركة الشعبية من داخل مشاركتهما الحكومية، و هي غياب هويتهما الفكرية والسياسية والتاريخية المغربية من هذه المشاركة فعلا وقولا وإعلاما وعملا، وهنا تنفجر الأسئلة الحتمية والحاسمة:" من يقف وراء تجميد الهوية السياسية المغربية للحزبين من عمل الحكومة ومن خطابها لصالح الهوية السياسية الأصولية لحزب السيد بنكيران؟ فهل يقف خلف ذلك السيد بنكيران نفسه معتبرا ذلك شرطا حاسما ، ما دام يرى نفسه وحزبه وفكره الأصولي هو الذي أطعمهما – الاستقلال والحركة الشعبية- من جوع وآمنهما من خوف، من داخل حكومته؟أم أن تغييب الهوية السياسية المغربية للحزبين المذكورين، هو قرار ذاتي اتخذته قيادة الحزبين من منطلق أنهما ينظران إلى الزحف الأصولي من داخل الحكومة بأنه مجرد سحابة صيف ستمر. وعليه فلا بد من الصبر أمامها بالسكوت والإرضاء ريثما تمر، وبأنها مجرد زبد هيجان الأمواج سيذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فسيمكث في الأرض، وبناء عليه فلا بد من إمهال الزبد الأصولي في زحفه بمزيد من الزمان والمكان من داخل مؤسسات الدولة، ليتم تشطيبه بعد ذلك؟؟ وقبل الخروج من دروب هذه الأسئلة ومن أزقتها الضيقة والملتوية، لابد من الاعتراف بأننا لا نملك إجابات حاسمة وحازمة عن هذه الأسئلة المطروحة، وإذا كان من اللازم علينا التعليق عليها فإننا سنقول في عجالة: أنه إذا كان السيد بنكيران هو من يفرض محو الهوية السياسية للحزبين من صورة الأداء الحكومي، على اعتبار أنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، فإنه حساب لا يشك أحد في خطأه، إذ أننا نعتبر أن القوة التاريخية والسياسية للحزبين المذكورين، مهما ضعفت في الانتخابات، فإن حزب بنكيران لا يملكها في العمق، على الرغم مما أبانه من استعراض للعضلات في غزوة الصناديق، كما أننا نحن مهما عارضنا سياسة الحزبين فإننا لم نجد في سلوكهما السياسي وفكرهما الحزبي ما يشكل تهديدا وجوديا للهوية المغربية ولدولتها، كما وجدنا ذلك في الممارسات الفكرية والتنظيمية والسياسية لحزب رئيس الحكومة، أما إذا كان تغييب الهوية السياسية المغربية للحزبين من عمل الحكومة ومن خطابها، مع مشاركتهما فيها، قرارا ذاتيا من الحزبين، اتخذاه مرحليا في انتظار اندثار العواصف الأصولية في ما يسمى ب " الربيع العربي"، فهو في نظرنا يبقى قرارا مبنيا على حساب خاطئ، لأن الفكر الأصولي وتنظيماته يعتبر زبدا جفاء يخيف بهيجانه وأصواته واندفاعاته، لكنه فارغ من المضامين، وفارغ مما ينفع الناس، لكن خطورته تكمن في أنه مرض يبني تصوراته على الوهم، والطاقات والقوى الخفية، الأمر الذي يخدع الناس، ويخضعهم بسهولة، وعبر هذه المخادعة والمخاضعة تعمل القوى الأصولية بالسيطرة والاستحواذ على هياكل الدولة وعلى مؤسساتها عبر انقلابات باردة وسلسة، الأمر الذي يضيق الخناق على القوى الحية والحداثية والوطنية في المجتمع، ويصف جهودها الحقوقية والثقافية والهوياتية، من لدن القوى الأصولية :" بأنها مجرد أيادي ومخططات أجنبية كافرة تريد اجتثاث واستهداف عقائد الناس وعباداتهم..."، وكل هذا يطمئن ويسعد مرتكزات " الصنمية السلعية" المتحالفة مع السيد بنكيران، ومع القوى الأصولية الخادمة لمشاريعها، مادامت لا تمس ولن تمس المشاريع المالية التي تعتبر بؤر وأنوية "الاقتصاد السلعي" لهذه "الصنمية السلعية".