كنت في مقال سابق ناقشت تصريحات الأستاذ عصيد بشأن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظماء الفرس والروم في سياقها السياسي، باعتبار أن الزمن كان زمن ضغط سياسي على المغرب باستعمال ورقة حقوق الإنسان، وباعتبار أن السيد عصيد وغيره ممن ينتصر لوجهة نظره، لم يثيروا هذه الملاحظات في وقتها لمرصد القيم الذي يضم النشطاء الحقوقيين الذين نصبتهم حكومة التناوب لرصد المقررات المدرسية ومدى انسجامها مع المقتضيات الحقوقية، وإنما اختاروا لحظة جد ملتبسة ليمارسوا التحريض ضد مقرر التربية الإسلامية تماما كما يفعل البعض اليوم ممن يحاول استغلال رأي فقهي لا يستحضر الشرط الزمني بخصوص حد الردة، وكنت أكدت في مقالي السابق إن السيد عصيد فاقد للمصداقية العلمية، واليوم، وبعد الانتصار الكبير الذي حققته الدبلوماسية المغربية في الصحراء، وبعد فشل الأجندة الأمريكية في استعمال ورقة حقوق الإنسان، وبعد تغير الشرط الزمني، صار من الضروري أن أنخرط في مناقشة علمية لرأي الأستاذ عصيد، الذي ذهب فيه بأن مقرر التربية الإسلامية يضم رسائل للنبي صلى الله عليه وسلم مضمونها إرهاب وتهديد يتناقض مع المرجعية الحقوقية ومع قيم التسامح، كما ذهب أيضا إلى أن الادعاء بأن الإسلام هو الدين الحق يتناقض مع التسامح الديني. وحتى ننظم المناقشة العلمية، نبدأ بالموضوع الأول: رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والعظماء: حسب نص الرسائل النبوية إلى ملوك وعظماء الدول، فقد تكرر النص التالي الذي جعله عصيد مستنده في نعت هذه الرسائل بالتهديد وتغذية النزوع الإرهابي عند الناشئة، أقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم:" بسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ" والمتأمل لهذا النص في ظاهره ودلالته لا يجد أي إرهاب يذكر فيه، ولا يتضمن أي تهديد بالقتال، فهو دعوة إلى الدخول في الإسلام، وحديث بمنطق الدعوة وليس بمنطق القتال، إذ طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عظماء الدول الدخول في الإسلام للنجاة بأنفسهم من النار ولنيل الأجر مرتين، وعدم تحمل الوزر بعدم ترك الحرية للضعفاء في اختيار المعتقد الذي يؤمنون به. والقرائن النصية كلها تؤكد هذا المعنى بدءا بعبارة" إني أدعوك بدعاية الإسلام" فالأمر يتعلق بدعوة، والدعوة تفترض استجابة ورفض، والاستجابة جزاؤها الأجر، والرفض جزاؤه الإثم، والأجر هنا مضاعف، كما أن الوزر مضاعف، ولا وجود لأي عبارة تتضمن تهديدا باستعمال السلاح أو الجهاد للإكراه على الدين، ومما يشهد لذلك تتمة الرسالة التي تم الاستشهاد النبوي فيها بأروع آية في التسامح والانطلاق من المشترك الديني وهي قوله تعالى:"َ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" فكيف يستشهد الرسول صلى الله عليه وسلم بآية تعتبر عنوانا للتسامح في معرض التهديد بالقتال كما يرى الأستاذ عصيد؟ والحال أن الذي لبَّس على الأستاذ عصيد الفهم، أنه توقف في الرسالة على قوله عليه الصلاة والسلام": أسلم تسلم" ظنا وجهلا منه بدلالة اللغة العربية أن الأمر يتعلق بمقابلة الإسلام بسلامة البدن، في حين أن المقصود هو السلامة الأخروية بدلالة اللغة أولا، وبدلالة القرائن السياقية المحتفة بعبارة أسلم تسلم، وبالدليل القرآني الداعم لمقصود النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بالدليل التاريخي، الذي يؤكد بأن الغضب الأولي لعظيم الروم لم يكن من مضمون الرسالة التي فهمها فهما أفضل من فهم عصيد على أعجميته، وإنما كان الغضب من البروتوكول الذي ضرب في العمق كما توضح كتب السير ذلك، فليرجع إليها الأستاذ عصيد ليزيد في تعميق معارفه بالسيرة النبوية قبل أن يحاكمها. ثم كان على عصيد أن يستعمل قدرا من الذكاء في قراءة النص باستحضار السياق الزمني الذي جاءت فيه هذه الرسالة، والتي أعقبت صلح الحديبية، أي ما قبل فتح مكة، اي الفترة التي لم يتم فيه تغيير موازيم القوى بين كفار قريش وبين مسلمي المدينة، فكيف يفتح النبي صلى الله عليه وسلم القائد السياسي جبهة سياسية وعسكرية واسعة ضد العالم؟ مما يعني أن هذه الرسائل إنما تحمل مضونا دعويا خالصا لا أبعاد سياسية أو عسكرية فيها. فمما سبق، يتبين أن السيد عصيد وقع في خطأ كبير مرجعه إما التسرع وعدم قراءة نص رسائل النبي صلى الله عليه وسلم في سياقها الكامل، وإما جهله باللغة العربية ودلالاتها، وإما أنه يريد فقط افتعال معركة سياسية، ولو كانت مستنده العلمي ضعيفا، كما يتبين أن هذه الرسائل لا تتعارض مطلقا مع حقوق الإنسان ولا تحمل أي رسالة تهديد، بل هي قاعدة أساسية للبحث عن المشترك الديني والتسامح بين الأديان. الموضوع الثاني: التسامح الديني أما ادعاؤه بأن اعتقاد الحق في الإسلام مناف للحوار بين الأديان والتسامح بينها، فهذا يناقضه اعتقاد عصيد بسمو مرجعية حقوق الإنسان وزعمه الدفاع عن حق أصحاب المرجعية الإسلامية في التعبير عن آرائهم، إذ القول بأحقية مرجعية ما، حسب منطق عصيد لا يستلزم منه نقد مرجعيات الآخرين وتسفيهها، إن خالفت مرجعية حقوق الإنسان، إذ أن ذلك يؤول إلى ضرب قاعدة الحق في الاختلاف، حسب منطق عصيد دائما، وهو ما لا يؤمن به عصيد نفسه، إذ يبيح لنفسه الادعاء بسمو مرجعية حقوق الإنسان على بقية المرجعيات، ولا يلتزم بعدم نقد المرجعيات الأخرى، إذ يباشر عملية النقد ضدها، في حين، يفعل العكس مع معتنقي الإسلام، إذ يمنع معتنقيه من الاعتقاد بأنه الحق بحجة أن ذلك مخالف للتسامح، ولا يفعل الشيء نفسه، حين يبيح لنفسه نقد المرجعيات الأخرى حين يعتقد بسمو المرجعية الحقوقية التي يستند إليها. فإن اعترض عصيد فقال، إنني أجوز لنفسي ذلك بحكم أن مرجعية حقوق الإنسان هي مرجعية عالمية تعكس المشترك الإنساني، ووجه بالمنطق ذاته، من كون معتنقي الإسلام يعتقدون في الإسلام نفس الشيء، ويعتقدون في غيره ما يعتقده عصيد في المرجعات الأخرى غير المرجعية الحقوقية. هذا هو مقتضى المنطق الذي ينبغي أن يتم مواجهة عصيد به، لنخلص في الأخير إلى خلاصة، وهي أن الأصل في قواعد المناظرة وآدابها كما سجلها العلماء والمتكلمون والفلاسفة، وهي تمثل بالمناسبة التجسيد الحقيقي للحق في الاختلاف، أن المطلوب من المناظر ليس هو أن يترك اعتقاده في صحة مذهبه، وإنما المطلوب أن يعامل مذهب خصمه بمقتضى قواعد المناظرة، وأن يلزم الخصم بالحجة، وأن يؤول إلى الحق إن كانت حجة خصمه قوية، فمن قال إن التسامح يتطلب عدم المناظرة؟ ومن قال إن الحق في الاختلاف يستلزم مصادرة الآراء إن استندت إلى الحجة؟ إن ذلك لم يقل به أحد لاسيما الفلاسفة البرهانيون الدين للأسف لم يستفد الأستاذ عصيد من منطقهم شيئا. الخلاصة، أن ما ذهب إليه عصيد في هذا الموضوع لا يصمد، وأن الدفع بذريعة التسامح لمنع الناس في الاعتقاد بأحقية دينهم ولو كان ذلك مسنودا عندهم بالدليل والبرهان لا يقول به برهاني فضلا عن بياني أو عرفاني، وأن الحرية والحق في الاختلاف، وهي المبادئ التي يؤمن بها عصيد، لا تشترط أكثر من نبذ التعصب والكراهية، ولا تعصب في اعتقاد الحق في الإسلام والتحريف في غيره، إن كان ذلك مسنودا بدليل العقل، فكما أن للآخرين الحق في القول في الإسلام بمقتضى النظر العقلي الذي انتهوا إليه، للمسلمين نفس الحق، وأن عنوان التسامح يبرز عند المناظرة الفكرية والاحتجاج بالدليل والبرهان والتزام آداب الحوار. هذه مجرد مساجلات عبارة، نخطها للذين يتصورون أننا لم نجب عصيد لانعدام الحجة والدليل، وإلا لقضينا كل العمر في الرد على مواقفه التي أحيانا يخجل منها البحث العلمي، لأن الرجل لا يبذل الحد الأدنى من الاجتهاد والنظر في النصوص الشرعية، فهل يطلب منا أن نضيع أوقاتنا النفيسة كل مرة في إبداء ملاحظات علمية على رجل يظلم نفسه ويضع مصداقيته العلمية في التراب حين لا يعطي لنفسه الوقت الكافي للنظر في النصوص التي يوجه لها السهام.