عادت نغمة التكفير إلى الواجهة من جديد على خلفية الخرجة الأخيرة للفاعل العلماني "أحمد عصيد" الذي أطلق تصريحات انتقد خلالها بعض مضامين منهاج تدريس مادة التربية الإسلامية لتلاميذ الجذع المشترك، والتي تحمل أبعادا " إرهابية" بمعايير هذا العصر على حد قوله. لكن كلام عصيد سرعان ما تم التقاطه بطريقة لا تخلو من تأويل مغرض، أصبح بموجبه الرجل مارقا وكافرا بالملة، حيث سارع بعض المحسوبين على التيار السلفي إلى توجيه الإتهامات الجاهزة لهذا الفاعل الحقوقي بكل مفردات التخوين والتجريم والتكفير. هذا الخطاب المتشدد الذي يفرض نفسه وصيا على الدين استغل كلمات عصيد وأخرجها عن سياقها الخاص، لينصب نفسه منافحا عن الإسلام والمسلمين في تحد واضح للقانون وبنبرة تحريضية من شأنها تعريض حياة الناشط الأمازيغي للخطر. هذا السعار" السلفي" بنفسه التكفيري الحامل لكل معاني وإشارات التهديد والوعيد وجد في تصريحات عصيد ضالته، وذلك بدعوى أن موقفه المعلن يسيء إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفي بيئة تؤثثها الأمية والأحكام المسبقة والعواطف المندفعة، يصبح مثل هذا الإتهام بمثابة دعوة صريحة مع سبق الإصرار والترصد إلى هدر دم المعني بالأمر. وهنا يكمن خطر التكفيريين بالتحديد. فنحن أمام فكر استئصالي منغلق يلغي الإختلاف ولا يؤمن بالتعددية والرأي الآخر. ولا يعترف بقواعد الديموقراطية التي ترعى حرية الإنسان في التعبير والتصرف وفق مقتضيات القانون. لذلك ينبغي التصدي بحزم لهذا المد التكفيري الذي يهدد الحريات ويصادرها ويكمم الأفواه باسم الدين. ما الذي اقترفه عصيد لكي يتعرض لهذه الهجمة المغرضة؟. قد يختلف الكثيرون مع مواقفه وأطروحاته، لكن الإختلاف الفكري ينبغي أن لا يتجاوز حدود السجال المعرفي من خلال مقارعة الحجة بالحجة، والغلبة للموقف السليم والمنطقي طبعا، لأنه لا يصح إلا الصحيح. التصريح المثير للجدل توقف فيه عصيد عند عبارة " أسلم تسلم" التي كانت تتضمنها رسائل الرسول الكريم إلى الملوك الذين دعاهم إلى الإسلام، معتبرا أن هذه العبارة تستخدم لغة تهديدية تجعلها رسائل " إرهابية" بلغة هذا العصر،وإن كانت تتعلق بسياق خاص، لذلك لا يليق تدريس محتوياتها للتلاميذ في مرحلة عمرية معينة... ولا يوجد في مثل هذا الكلام ما يبرر إخراج سيوف التكفير من أغمادها. فالمتعلم في المستويات التعليمية المرتبطة بمرحلة المراهقة في حاجة إلى التهذيب والتربية على قيم التسامح والتعايش والإحترام. ولنا في سيرة نبينا كثير من المواقف التي تحقق هذه الحاجة. ومن المؤكد أن تغييب الوجه الحضاري للإسلام المعتدل والمتسامح في البرامج التعليمية وشحن أذهان المتعلمين بمشاهد القيامة وعذاب القبر ولغة الوعد والوعيد... يفسح المجال أمام اتساع نفوذ التكفيريين، وهو ما من من شأنه أن يهدد المكتسبات التي راكمتها بلادنا على علاتها في ما يتعلق بالحريات. اللافت للإنتباه هو تزامن هذه الهجمة على عصيد مع الفتوى التي أصدرها المجلس العلمي قبل أيام قليلة والتي تقضي بقتل المرتد. والواقع أن مثل هذه الفتاوى تساهم ولو عن غير قصد في إذكاء شعلة التطرف والتشدد. ذلك أن السياق الحالي لا يحتمل مثل هذه الفتاوى التي لا أحد يمكنه التكهن بتداعياتها، مادام المتربصون على أهبة الإستعداد لاستغلال كل ما من شأنه أن يخدم مشاريع التطرف. فالمغرب الرسمي يردد باستمرار التزامه بتعهداته الدولية على مستوى حقوق الإنسان، لكن الأقوال في حاجة إلى ترجمة فعلية. لذلك وانسجاما مع مقتضيات الدستور الجديد التي تنص على " الحق في الحياة" يجب على الدولة إلغاء عقوبة الإعدام كإجراء ضروري يحقق التنزيل السليم للدستور على المستوى الحقوقي. أما أن نظل مشدودين إلى مرجعية فقهية أنتجت أدواتها في القرون الوسطى بدون إعمال قاعدة الإجتهاد العقلي وبدون مراعاة السياق الثقافي والإجتماعي والسياسي المختلف بين الماضي والحاضر، فإن ذلك لن يساهم إلا في تقوية خيار الإنغلاق والماضوية والوصاية على الحريات. لذلك فقد آن الأوان لتحريك المساطر القانونية اللازمة حتى لا يتجرأ أي أحد على مصادرة حق الآخر في التعبير أو يحرض على العنف والقتل تحت أي مسمى من المسميات.