بسم الله الرحمن الرحيم قرأت ردا للأستاذ أحمد عصيد على الأستاذ محمد يتيم بعنوان: الحرية عند الإسلاميين: أنت حرّ... داخل بيتك. وهو رد جاء طافحا بتجرؤ عجيب على الإسلام والمسلمين مما دفعني إلى كتابة هذه السطور... ليس دفاعا عن أفكار الأستاذ يتيم الذي هو أقدر على الدفاع عن أفكاره، ولكن دفاعا عن الحق... ومن باب {سنشد عضدك بأخيك} لقد طرح الأستاذ عصيد غير قليل من الأفكار المنحرفة عن عقيدتنا، نحن المسلمين، والمنجرفة عن هويتنا، نحن المغاربة، في تناقض صارخ ليس فقط لدين الله تعالى القائم على الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، ولكن للقيم الإنسانية أيضا تلك التي يسمونها كونية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية وما شابه. وهي القيم التي هم أول من ينتهكها انتهاكا ويخرمها خرما. وإن مناقشتي للأستاذ عصيد هنا تتمحور حول فقرة صغيرة فقط مما قاله وليس على كل قيله. كما أن ردي عليه بخصوصها بمثابة ما يكفي من الخريطة للدلالة على الطريق، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. أنا على علم بالخلفية الفكرية للأستاذ عصيد ومرجعيته الإيديولوجية ، وربما هو أيضا على علم بخلفيتي الإيمانية ومرجعيتي العقدية... وهذا يجعل من الصعب بل من المستحيل التوافق على ما لا يمكن التوافق عليه، أو الاتفاق على ما لا يمكن الاتفاق عليه. فاختلاف المرجعيات وتعارضها يجعل زوايا الرؤى مختلفة، واختلاف زوايا الرؤى يجعل الصورة مختلفة بالضرورة. من هنا كان إدراكنا للواقع، نحن المؤمنين بالكتاب والسنة على فهم الأئمة وحفاظ الأمة، مختلفا إلى حد التناقض بيننا وبين الأستاذ عصيد ومن على شاكلته من المؤمنين بالقيم –الكونية- وإن اصطدمت بدين الله تعالى في أحكم المحكمات كما أنزلها أحكم الحاكمين. حتى وإن جمعتنا نفس المواقع. ولا يعني هذا أنني أكفر بما يسمونه القيم الكونية وما شابه... أبدا، وإنما لي فيها تأصيل وتفصيل. فأنا ومن على مذهبي لا نقبل كل وارد وشارد... فلنا مرجعية نسميها المرجعية الإسلامية التي هي عندنا أسمى وأعلى ومهيمنة على ما سواها... وكل ما يصطدم معها أو يعارضها فلا يساوي عندنا جناح بعوضة، وهكذا الأمر عند كل مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمفروض أن الأستاذ أحمد عصيد لا يشذ عن هذه القاعدة، أو ليس اسمه أحمد؟ على اسم النبي الأحمد؟ صلى الله عليه وعلى آله وسلم. لا يفهمن الأستاذ عصيد أنني أكفر بما يسميه المواثيق الدولية والقيم الكونية، ويجعل منها قصة صالحة للنشر والتشهير والتهويل... لا ورب الكعبة. إنما نحن المسلمين نكفر بكل ما يعارض محكم التنزيل أو يُتعسف فيه تعسفا فاضحا كلما أراد التنزيل، تنزيل النص على واقع معين. ولنا في ذلك من قواعد الأصول والتأصيل ما يجنبنا كثيرا من الزيغ عن الحجة والمحجة التي لا يزيغ عنها إلا هالك. تشبث الأستاذ عصيد بالدستور المغربي وبالقيم –الكونية- لترسيخ واقع غربي جاهلي وفرضه على أمتنا المسلمة بقوة القانون والدستور والمواثيق... لا يستقيم في شيء، بل هو التدليس على ذوي البضاعة العلمية المزجاة، والتلبيس على غير المتشبعين بروح المقاصد الشرعية التي جاءت لإقامة مجتمع حر وكريم وآمن ومؤمن... مجتمع التعايش والتسامح وفق منهج الله كما هو، وليس وفق منهج الناس الدخلاء كما هو. لذا فالمغالطات طاغية على كتابات الأستاذ عصيد إلى حد يبعث على الدهشة. هل نسي الأستاذ عصيد أن الدستور المغربي الذي يحيل إليه يجعل الإسلام، لا غيره، دينا رسميا للدولة المغربية؟ لا أظنه نسي. وإلا لما كان من الناشطين المغاربة الذين ما فتئوا يطالبون بإسقاط إسلامية الدولة إلى غير رجعة. فوجود هذه المادة على رأس الدستور المغربي يقلق القوم بلا هوادة، ويؤرقهم بما لا يطيقون. هذه المادة الدستورية، أقصد إسلامية الدولة، تعطينا الحق، كامل الحق في غربلة كل قيمة مهما كانت كونية وإنسانية وما إلى ذلك... فما وجدناه موافقا لديننا وغير متعارض أو معترض في حكم أو خلق أو شريعة أو شعيرة... قبلناه وأوجدنا له صيغة من صيغ الاجتهاد الشرعي لإدماجه في علمنا وعملنا من باب المصالح المرسلة ومن غيره من الأبواب... والحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها التقطها... أما إذا وجدناه مخالفا لديننا ومتعارضا معه بما لا يقبل تأويلا مستساغا بأي وجه من الوجوه، نبذناه وأسقطناه ورددناه... ولا كرامة. علمه من علمه وجهله من جهله. وإلا ماذا يفيد أن تكون الدولة إسلامية ثم تقبل بكل ما يخرم هذا الإعلان الدستوري الذي ارتضاه الشعب بأغلبية ساحقة؟ وماذا يفيد أن تكون الدولة إسلامية، والشعب مسلما، ثم يتحكم في هذه الدولة وفي هذا الشعب بعض ممن لا خلاق لهم ولا دين...؟ ما معنى أن يكون للأمة شخص اسمه أمير المؤمنين ثم يراد لنا أن نعيش تحت هيمنة فكرية وسلوكية لا تمت إلى دلالات إمارة المؤمنين بصلة؟ نحن من حيث نحن شعب مسلم لا نرضى بما يخرم الصلات الوثيقة قلبا وقالبا مع مبادئ إسلامية الدولة والوظائف الشرعية لإمارة المؤمنين... وعلى الأستاذ عصيد والمجموعة التي تعزف على نفس الوتر أن يعلموا أننا متشبثون بإسلامية الدولة نصا وروحا، وبمنصب إمارة المؤمنين عنوانا ومضمونا... إن الخضوع والخنوع إلى أفكار دخيلة وإيديولوجيات مستوردة يسُوقها ويسَوِقها أفراد من المتغربين باسم الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان تحايلا على قيم هذه الأمة ومكرا بدينها لهو غاية في الخطورة على حاضرنا ومستقبلنا... وهو استلاب للذات والهوية ومصادرة للكرامة الإنسانية في أجل صورها وتجلياتها. بل هو أشنع أنواع الإرهاب الفكري الذي لا يقل خطورة عن الإرهاب المادي الذي قد يعدم أفرادا من الأبرياء ويروع آخرين... في الوقت الذي يرمي إليه الإرهاب الفكري هذا إلى تدمير أمة ونسفها نسفا وتركها تابعا ذليلا لا إرادة لها ولا هدف... عندنا ياأستاذ عصيد شيء اسمه حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص... من حيث هو آلية علمية ضابطة لتقنين المفاهيم وجعلها منضبطة بالشرع الحنيف ومرتبطة به على الدوام. فما تجده من مسائل في دستورنا المغربي كحرية المعتقد وديموقراطية النظام والمساواة والحريات الشخصية وواقع الأقليات... وما إلى ذلك، وهو ما تحاولون اللعب على حباله، كله راجع بالضرورة إلى أم البنود ورأس الأمر في الدستور المغربي ألا وهو إسلامية الدولة، زيادة على خصوصية المغرب في إمارة المؤمنين. المواثيق – الكونية – ياأستاذ عصيد مواثيق عامة وضعت للمسلمين والنصارى واليهود والمجوس والوثنيين والملاحدة والبوذيين... وغيرهم بصرف النظر عن أجناسهم ومواطنهم وألوانهم ولغاتهم ومستوياتهم الفكرية والمالية والسياسية والاجتماعية وغيرها... هذه مرة أخرى مواثيق عامة ومطلقة. والدين الإسلامي، الذي هو عقائد وشرائع وشعائر وسلوك... وهو دين الدولة المغربية المعترف به دستوريا والمقبول به شعبيا... والراسخ والمتجذر تاريخيا... مهما رأيت من مظاهر التمرد عليه في دنيا التطبيق ... موثق خاص ومقيد، خاص بالمسلمين المغاربة الذين يشكل تعدادهم ما يقارب المائة بالمائة، أقول يقارب... ولا تكاد تمثل الأقليات في المغرب سوى جزء يسير جدا من ساكنته مثل اليهود المتعايشين معنا على الدوام في سلم وسلام... والقاعدة الأصولية تحتم علينا حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد... أي قبول المواثيق الدولية العامة والمطلقة والالتزام بها ... لكن على ضوء الخصوصيات المغربية التي لا يجوز بحال من الأحوال انتهاكها والقفز عليها تحت أي ذريعة من الذرائع. والخصوصية المغربية جعلت على رأس أعلى موثق في الأمة وأسمى عقد قانوني واجتماعي وسياسي فيها: إسلامية الدولة أي أن الإسلام، كتابا وسنة، هو الأسمى والأعلى وفوق كل موثق أو قانون دولي وإنساني وحقوقي... سمه ما شئت. وفي هذا فقط، لا في غيره، يتجلى احترام المغاربة من حيث هم مسلمون، واحترام دينهم الذي هو الإسلام لا سواه من الأديان. فحرية الاعتقاد مثلا قيمة كونية، وهي قبل ذلك قيمة إسلامية. نزل بها الروح الأمين على سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} {لكم دينكم ولي دين} {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} إلى آخر ما هناك من نصوص تجعل مسألة الاعتقاد مسألة قائمة على الحرية والرضى والقبول... بل إن دخول أي إنسان في دين الإسلام مكرها وإجباره على ممارسة شعائر الإسلام على رغم أنفه... فيه معصية عظمى لله تعالى {لست عليهم بمسيطر} {وما أنت عليهم بجبار} {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} ... ومؤد إلى النفاق لا محالة. غير أن تعارض هذا المبدأ الكوني العام _ حرية الاعتقاد _ مع جزئية خاصة في المنظومة الإسلامية والتي هي منع حرية الردة... تجعلنا بالضرورة متشبثين بحرية الاعتقاد من جهة ورافضين للخيانة العظمى للدين التي نسميها الردة أو الخروج عن الإسلام أو تبديل الدين... ولا أظنك ياأستاذ عصيد في حاجة إلى نصوص شرعية صحيحة وصريحة في الموضوع. من هنا تدرك أن حرية الاعتقاد مكفولة في ديننا، وأن حرية الردة شيء آخر ليست سوى خيانة عظمى. وعلى هذا الأساس يمكنك فهم باقي القيم من مساواة وكرامة وحرية...إلخ. نأتي الآن إلى إحدى عبارات الأستاذ أحمد عصيد المستفزة في رده على الأستاذ محمد يتيم حيث يقول: [إن المؤمن الذي تستفزه مظاهر الإختلاف هو ضحية مفهوم منحرف للتديّن، كما يعاني من نقص في الإلمام بدينه من منظور منفتح، ومن انعدام التربية على حقوق الإنسان وعلى احترام الغير كما هو، لا كما يريده المؤمن أن يكون]. بهذه الكلمات ينصب الأستاذ عصيد نفسه شيخا واعظا للمؤمن، ومعلما حدقا لمن تستفزه مظاهر الاختلاف ويقع ضحية مفهوم منحرف للتدين. ونحن ما عهدنا الأستاذ عصيد رجل دين ولا عالم شريعة ولا فقيها مبتدئا... بله فقيها متمرسا. ما هي مظاهر الاختلاف هذه ياأستاذ عصيد؟ لماذا هذا التلبيس على القارئ؟ لماذا لا تكون أكثر صراحة وتفصح عن مكنونك؟ أليست حرية الردة داخلة عندك في مظاهر الاختلاف؟ أليست حرية الإجهاض أي قتل النافس بالباطل رغما على ما تدعونه من تشبث بالقيم الكونية داخلة عندك في مظاهر الاختلاف؟ أليست المجاهرة بالإفطار في رمضان غصبا عن هذا الشعب المسلم داخلة عندك في مظاهر الاختلاف؟ أليس الشذوذ الجنسي من لواط وسحاق داخلة عندك في مظاهر الاختلاف؟ أليست حرية الزنا والدعارة والعهر داخلة عندك في مظاهر الاختلاف؟... هذه هي مظاهر الاختلاف المسكوت عنها هنا والمعبر عنها بوضوح في أماكن أخرى سواء على لسانك أم على لسان من يوصفون بالحقوقيين... والحقوق منهم براء. ولو كنتم تؤمنون بالحقوق لآمنتم بحقنا نحن المسلمين الذين نشكل الأغلبية الساحقة من هذا الشعب في إقامة شرائع ربنا وشعائره. وهكذا نراكم تتباكون على حقوق الأقلية في بلادنا وهي الأقلية اليهودية قصرا والتي لا ينتهكها أحد. ولا تعيرون أي احترام أو اهتمام للأغلبية الغالبة من هذا الشعب ألا وهي الأغلبية المسلمة. أعلم أن الأقلية اليهودية نفسها ليس لها عندكم اي اعتبار، وأعلم أنها ليس في حاجة إلى من يدافع عنها أصلا، وأعلم أنها ليست مهددة في شيء من دينها أو وجودها... واليهود المغاربة على علم بذلك. لكن الأقلية التي تقصدون والتي ما فتئتم تطبلون لها وتزمرون هي أقلية الإباحية والانحلال الخلقي وتبذير أموال الأمة في ما تسمونه الفن والإبداع وما هو إلا إشاعة الفواحش في الذين آمنوا. وأقلية شرب الخمور وترويجها رغما على تحريمها بالكتاب والسنة والإجماع... والدستور أيضا _إسلامية الدولة_ هذا في الوقت الذي تكلف هذه الخمور خزينة الدولة خسائر فادحة ومفاسد لا آخر لها على مستوى تدمير الإنسان بالجريمة والتعويق والحوادث في الطرقات والاغتصاب وتفكيك الأسر وتخريب المجتمع برمته... كل هذا بسبب الخمر الملعونة. هذا ما تسمونه الحق في الاختلاف ياأستاذ عصيد. ولئن كان هذا هو فهمنا المنحرف للتدين فليت شعري ما هو فهمك الصحيح له؟ وعن أي تدين تتحدث أصلا؟ ثم ما هو الإلمام بالدين من منظور منفتح؟ ماذا تعني بالانفتاح؟ الانفتاح على الردة؟ لا وألف لا. الانفتاح على ماذكرته آنفا من الموبقات؟ لا وألف لا. شعبنا المسلم لا يسمح بهذا ياأستاذ ولئن رأيته عاجزا عن التصدي لهذا المنكر العظيم بقوة الإسلام والدستور والقانون... فلأنه عجز مجرد عجز لن يستمر إلى قيام الساعة. وفرق كبير بين العجز الذي هو أحد أسباب تمردكم على ديننا نهارا جهارا... وأسبابه كثيرة قد أتعرض لها لاحقا. وبين الرضى ونصرة هذا الشعب لتفسخكم الخلقي واستلاب فكركم من قبل غيركم... لا يغرنك تجمهر بضع مئات من الناس على مائدة راقصة في هذا المهرجان الساقط أو ذاك لتخلص إلى حكم خاطئ ومغالطة ظاهرة مفادها أن الشعب المغربي شعب منحل ومتفسخ... فدونك مكانتكم في الانتخابات الأخيرة التي أعطت الفوز الكاسح للإسلاميين في أنحاء العالم الإسلامي رغم تفردكم بوسائل الإعلام والمال والسلطة... أليس لكم في ذلك ياأستاذ أحمد عصيد عبرة وبصيرة؟ متى تدركون معاشر العلمانيين واللادينيين والمتفسخين والشاذين ووكالين رمضان... أنه لا مستقبل لكم بيننا إلا بالتوبة النصوح، أو بممارسة انحرافكم في بيوتكم ولكم علينا حق عدم التجسس عليكم وكشفكم وفضحكم... أي ممارسة حريتكم هذه في بيوتكم. أجل يعجبني فيك ذكاؤك وسلامة استنباطك لما كتبه الأستاذ محمد يتيم ومن قبله آخرون كثر، ومن سيأتي بعدهم... الحرية عند الإسلاميين: أنت حرّ... داخل بيتك صدقوا في فهم الدين، وصدقت في فهم ما يقصدون... لكن مرحبا بكم في دنيا حرية الإبداع الحقيقي والتنافس الشريف على خدمة البلاد والعباد في التحديث والاقتصاد والتعمير والبحث العلمي والرقي بهذا الشعب على مستوى تعليمه وتطبيبه ومسكنه وتوفير حاجياته الضرورية بل والتكميلية والتحسينية أيضا... هذه الحريات عليكم أن تخرجوا من بيوتكم وتمارسوها على رؤوس الأشهاد في واضحة النهار... أما حرياتكم الأخرى، فمن ابتلي بقادورات فليستتر. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. الموقع الخاص: www.elfazazi.com البريد الإلكتروني: