كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الموقف من حرية التبشير المسيحي بالمغرب، وأدلى شيخ المقاصد أحمد الريسوني، أحد أهم المراجع الدينية السنية في العالم الإسلامي اليوم، بموقفه الجريء في الموضوع،إذ اعتبر من حق النصارى أن يبشروا بدينهم في أرض الإسلام، كما يسمحون هم للمسلمين وغيرهم بالشيء نفسه على أرضهم،وفي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح، وهو منطق سليم لولا أنه يتعارض مع بنية الدولة المغربية التي تقوم على أساس ديني بمرجعية إسلامية قوامها إمارة المؤمنين، فالسماح بالتبشير المسيحي بالمغرب يشبه، من الناحية السياسية، السماح لحزب سياسي يدعو لإقامة نظام جمهوري على أنقاض الملكية، فإذا كان الإسلام وما يزال يحفظ للأقليات الدينية حقها في ممارسة طقوسها التعبدية، فإن حرية الدعوة لمعتقدات تخالف عقيدة التوحيد، لا تكون إلا على أرضية علمانية تتخذ نفس المسافة من كل الديانات؛ والعلمانيون عندنا إذا كانوا يتشبثون بوحدة المذهب المالكي في الفتوى والأشعري في العقيدة، حرصا منهم على استقرار البلد، ولا يقبلون بالتنوع من داخل الإسلام، فكيف يدعون إلى حرية التبشير بديانات أخرى مخالفة لأصوله، كما يزعم عصيد في مقاله الأخير حول التبشير المسيحي بالمغرب. وقد أثارني تعليق أحد الإخوة المسيحيين المغاربة على مقال عصيد (تعليق 4 : مارسيل)، وهو رجل تعليم، جاء في آخره: "أستطيع أن أقول لك أستاذ "عصيد" أننا نشعر بارتياح لتبني هذا الدين(يعني المسيحية) عوض سماع لغة التهديد بقطع الايدي و الأرجل و الرجم، و ما الى ذلك من السلوكات التي لا يمكن ان تصدر عن انسان يعبد الرب و يخلص له في عبادته". وأنا أدعو هذا الأخ المسيحي للبحث حول عقائد النصارى؛ وأقول له: إن التوحيد هو أساس الإسلام، وهو أصل الدين الذي جاء به المسيح وسائر الأنبياء عليهم السلام،وأما الحدود فهي موجودة في سائر الأديان، وأنا أضع بين يديك وإخوانك الذين فارقوا ملة إبراهيم عليه السلام هذه الأرضية للتأمّل: خبر "الصلب" غير متواتر ولا منقول بسند صحيح: إذا كانت عقيدة الصلب عند النصارى توازي عقيدة التوحيد في الأهمية عند المسلمين، فلا يعقل أن تحف بها الشبهات من جميع الجوانب ،وقد أورد علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي المتوفى سنة 1914م في تفسيره "محاسن التأويل"، ما جاء في إنجيل لوقا ممزوجا ببعض تفاسير القوم حول قصة "الصلب"، لزعمهم أن كلام لوقا أصح و أفصح من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد، ثم عقب على ذلك بقوله : " اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب، ويبرهن على عدم الوثوق بها، كما قال الله تعالى : ﴿مالهم به من علم إلا إتباع الظن.. ﴾. ونقل عن الإمام ابن حزم من كتابه (الملل) عند الكلام عن النصارى قوله : "النصارى مقرّون بأنهم لم يقدموا على أخذ المسيح نهارا خوف العامة، و أنهم أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح، و أنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار، و أنه نزل إثر ذلك، و أنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة، في بستان فخار، ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب، ولا موقوفا لذلك، وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه، ففعلوا ذلك، وإن مريم المجدلانية، وهي امرأة من العامة، لم تقدم على حضور موضع صلبه، بل كانت واقفة على بعد تنظر؛ هذا كله في نص الإنجيل عندهم، فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوما متواطئا عليه، و ما كان الحواريون ليلتهم تلك، بنص الإنجيل، إلا خائفين على أنفسهم، غيبا عن ذلك المشهد، هاربين بأرواحهم مستترين ... فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه .. وهذا معنى قوله تعالى : ﴿ ولكن شبه لهم ﴾ " . ونقل عن الإمام القرافي في (تخجيل الأناجيل) قوله : " يقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح و صلبه، أتنقلونه تواترا أم آحادا ؟ فإن زعموا أنه آحادٌ لم يقم بذلك حجة، ولم يثبت العلم الضروري؛ وإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح و صلبه متواتر، أكذبتهم نصوص أناجيلهم التي بأيديهم، إذ قال لهم نقلتها الذين دونوها لهم و عليها معولهم : إنه لما أخذ فقتل كان في شرذمة يسيرة من تلاميذه، فلما أقبل عليه الجند هربوا بأسرهم ولم يتبعه إلا بطرس من بعيد، و لما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته، فقالت هذا كان مع يسوع، فحلف أنه لا يعرف يسوع ، وخادعهم حتى تركوه، وذهب و لم يكد يذهب ،و أن شابا آخر تبعه و عليه إزار فتعلقوا به، فترك إزاره بأيديهم و ذهب عريانا. فهؤلاء أصحابه و أتباعه، لم يحضر منهم و لا رجل واحد بشهادة أناجيلهم..". هذا قول أئمة المسلمين الكبار ممن اعتنى بالرد على النصارى و نسف معتقداتهم، ليس فيه أي تحامل على القوم، بل هو مبني على المنقول من أناجيلهم، فلما اضطربت أقوالهم في أمر الصلب وصارت الشبهات تحف بهذه العقيدة من جميع الجهات، وجب ردها إلى الكتاب الخاتم الذي جاء مهيمنا على ما قبله من الكتب مصدقا لما بين يديه منها، وفيه القول الفصل، قوله تعالى : ﴿وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم ﴾. الجذور الوثنية لعقائد النصارى المحرفة من أهم المباحث التي تناولها الشيخ رشيد رضا في تفسير " المنار"، وهو ينقض عقائد النصارى المحرفة، بيان الجذور الوثنية لعقيدة الصلب وعقيدة التثليث عند الهنود والبراهمة والبوذيين والمصريين القدامى، وكيف تسربت إلى دين النصارى باعتناق بعض الوثنيين لديانة المسيح فأفسدتها، ونقلتها من التوحيد إلى الشرك، وقد اعتمد في ذلك على ما قرره باحثون غربيون ومؤرخون مشهود لهم بالنزاهة العلمية، أمثال "دوان" في كتابه: " خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الأخرى"، و"هوك" في رحلته، و" مورينورليمس" في كتابه "الهنود"، والقس "جورج كوكس" في كتابه (الديانات القديمة) و"بيل" في كتابه ( تاريخ بوذه)، وغيرهم كثير. 1) الجذور الوثنية لعقيدة " الصلب": عقيدة "الصلب" و "الفداء" كما هي مقررة في دين النصارى، معروفة عند الوثنيين خصوصا منهم الهنود. يقول "دوان" في كتابه المشار إليه أعلاه:" إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة، قديم العهد جداً عند الهنود الوثنيين وغيرهم "،وذكر الشواهد على ذلك، منها قوله: " يعتقد الهنود أن "كرشنا" المولود البكر، الذي هو نفس الإله "فشنو" تحرك حنوّاً كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه..."!! وذكر أن ( مستر مور) قد صور "كرشنا" مصلوبا، كما هو مصور في كتب الهنود، مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب إنسان معلقا، وقال:وجدت له صورة مصلوبا وعلى رأسه إكليل من الذهب، والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك. وقال " هوك" في ص 326 من المجلد الأول من رحلته: " ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسد أحد الآلهة وتقديم نفسه ذبيحة فداء للناس من الخطيئة". وأما ما يروى عن البوذيين في "بوذه" فهو أكثر انطباقا على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه، حتى إنهم يسمونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلص العالم، ويقولون إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها... وقد عقد علماء تطور الأديان مقارنة بين عقائد النصارى في الصلب، وما ورد عند الهنود والبوذيين القدامى، فوجدوا تطابقا مذهلا بينها، كما يبينه الجدول التالي: 2) الجذور الوثنية لعقيدة " التثليث": يقول الدكتور بوست في تاريخ الكتاب المقدس عند الكلام على لفظ الجلالة: "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقاليم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله روح القدس؛ فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن المفدى، وإلى الروح القدس التطهير؛ غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء؛ أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم كما هي في العهد الجديد...". يعلق الشيخ رشيد رضا على هذا الكلام بقوله :" والحق أن العهد القديم – أي كتب الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح- ليس فيها شيء ظاهر ولا خفي في عقيدة التثليث، لأنها عقيدة وثنية محضة.." (، ثم بيّن الجذور الوثنية للتثليث كما فعل مع عقيدة الصلب. يقول بهذا الصدد: " أما كون هذه العقيدة وثنية، فقد بينه علماء أوربة بالتفصيل وأتوا عليه بالشواهد الكثيرة من الآثار القديمة والتاريخ، وإننا نشير إلى قليل منها في هذا المقام: يقول ) دوان(: إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث المكون من ثلاثة أقانيم : برهما وفشنو وسيفا، لا تنفك الواحدة عن الأخرى، فهي إله واحد بزعمهم. وقد شرح المؤلف (دوان) معنى هذه الأصول أو الأقانيم عندهم بقولهم : " 'براهما' الممثل لمبادئ التكوين والخلق ولا يزال خالقا إلهيا، وهو )الآب( ، و'فشنو' يمثل حفظ الأشياء المكونة ) أي من الزوال والفساد( وهو )الابن( المنبثق والمتحول عن اللاهوتية، و'سيفا' وهو المهلك والمبيد، والمبدئ والمعيد ،وهو ) روح القدس( ويدعونه )كرشنا( الرب المخلص والروح العظيم الذي ولد منه )فشنو( الإله الذي ظهر بالناسوت في الأرض ليخلص الناس...". ثم بين الشيخ أن التوحيد هو أصل عقيدة البراهمة، وأن رسولهم الذي أرسل لهم وصف لهم الإله بثلاث صفات التي تظهر بها حقيقة الألوهية، وهي ما به الخلق والإيجاد، ثم ما به الحفظ والإمداد، ثم ما به التصرف والتغيير.. فلما طال عليهم الأمد ودبّت إليهم الوثنية جعلوا لكل فعل من هذه الأفعال إلها، وجعلوا أسماء الصفات، أسماء أقانيم وذوات...يقول: وللهنود تماثيل للوحدة والتثليث، رأيت واحدا منها في دار العاديات التي بنتها الحكومة الهندية الإنكليزية في ضواحي مدينة بنارس ) المقدسة عند البراهمة( . أنظر الجدول التالي للمقارنة: