انعدام الفرص في أرضنا رحل بنا إلى أرض غيرنا، كان الطريق الوحيد لتحقيق أحلامنا التي أصبحت شبيهة بالكابوس في موطننا، كانت الهجرة خيارا صعبا قهرنا في أعماقنا، لكن البحث عن ما هو أحسن كان يدفعنا، وينادينا، كنا اثنا عشر شخصا نترك ولأول مرة أهالينا لنقطع آلاف الكيلومترات بحثا عن العلم، كنا في المطار.. وكانت الدموع تملئ عيوننا وألم الفراق يأسرنا، وترك الأحباب هاجس يداهمنا، كنت وقتها أنظر إلى الفتيات، وهن يودعن أمهاتهن، ويبكين في أحضان آبائهن، والتفريق بينهم كان من أصعب الأمور، وكان الأولاد يكتمون دموعهم رجولة منهم وخوفا على أحاسيس الأهل، لكن الفراق كان أصعب منهم، والدموع أقوى من أن تبقى في أعينهم، فانهمرت و انهمر معها ألم وخوف من المهجر والمجهول.. ركبنا الطائرة معا، ولم نكن نعرف بعضنا البعض، لكن كان هناك هدف يجمعنا، وحزن يأسرنا، وروح الوطن توحدنا، كنت يومها أنظر إليهم كأهل جديد سأعيش وسطهم سبع سنين، حمينا بعضنا طول الطريق،وتحملنا مشاكل بعضنا، وتحلينا بالصبر، وكنا إخوة بالوطنية، واللغة والأصل. وصلنا لأوروبا لكنها ليست تلك التي يتهافت الشعب المغربي للوصول إليها والظفر ولو بصورة أمام أحد معالمها، ليشعلوا بأبناء الوطن رغبة في انتهاك الكرامة من أجل الحلم، بل هي أوروبا الشرقية حيث يأخذ البرد حظا كبيرا ليضفي سدوله غير آبه بغيره، ليصبح الدفء آلة ينتهي بانقطاع الكهرباء. هناك إذن أعلن الطلاق المؤقت للوطن، في انتظار رسم أبجديات المستقبل لإعادة العلاقة، فطلاق كهذا يمزق شرايين الوصل عندما لا يكون مخيرا، فترك الوطن هو حكم بالإعدام مع إيقاف التنفيذ.. فقديما كنا صغارا، وكان وطننا مدينتنا، وحينا، كان الحضن الدافئ ، العالم الجميل، الأمل المشرق، اللقمة الطيبة، الضحكة البريئة، الأنشودة المحفوظة في القلوب، غفوة به تعني راحة لا يعادلها ثمن. كبرنا..هاجرنا لنكتشف أن الوطن ينقصه الكثير، وأن ما كنا نراه ليس سوى انعكاسا لبراءتنا الملفوفة بعمى أولويات الوطن. الوطن بالمعنى الحقيقي هو الأب الأكبر للشعب، فعندما يشعر الأوروبيون والأمريكيون أن الحياة عندهم بأسرها مسخرة للإنسان ابن الوطن، يشعر العرب أن كل شيء مسخر لخدمة فئة معينة من الوطن، يعيشون أوطانا وهمية تقصي احترامها بعدم احترامهم، وعندما يصرخ الأجنبي معبرا عن رأيه يقف الكل تصفيقا واحتراما حتى ولو كان نفاقا، فوجهة النظر محفوظة الكرامة عندهم، بينما مجرد صرخة فقر أو ألم أو ظلم أو حاجة تعتبر صرخة إثم في حق الوطن، يجز صاحبها إلى السجن أو ينضم للائحة السوداء رغم طهره.. حتى داخل الوطن مفارقات تمزق الأعماق فأناس تعيش الامان و اخرى تعيش الحرمان، أناس تتجرع الحنان و اخرى تبحث عن خبز الزمان، أناس تنام تحت ضوء الأبجور، وآخرون تحت ضوء القمر، فأين التكافؤ وأين الديمقراطية؟؟ عن أي رقي نتحدث خاصة عندما يتعلق الأمر بالطفولة المغتصبة، فيأخذ من حقهم ليعطى لفئة لا تستحق العطاء ويحرمون من أدنى الحقوق، ويرمى بهم في دروب الشقاء ويجردون من إحساس الطفولة، ذاك الذي لا يعوضه إحساس،إحساس لا مكان فيه للحسد ولا للنفاق إحساس مشبع بالبراءة والأمان، لما يحرمون ونحرم من ضحكتهم البريئة وإحساسهم الجميل لما يعطى لابن الثري كل الظروف كي يكون من أوائل القسم، بينما يرمى بالفقير في آخر الصفوف، فهم ينظرون إليه كحاجز لا يمكنه العطاء، لكنه يعطي ويعطي لكن ما من مُتلق، فالكل يعتبر وجوده كعدمه لا لشيء سوى لانعدام الإمكانيات.. لما يحرم بعضهم من الدراسة ليعول عائلة بأكملها ليمنحهم حنانا هو لم يشعر به يوما، فإما الأب توفي وقد رباه على أن الرجل من يتحمل مسؤولية عائلته مهما كان صغيرا، رباه على أن التضحية في سبيل الأهل واجب وليست اختيارا.. ومنهم من ولد ولم يجد معيلا، وتربت في داخله أمنيات وأحلام، لكن الزمن فرض عليه الشقاء في سبيل العيش، فرمى بها وراء ظهره و أخفى أحاسيس الحزن والأسى بداخله، ففقره علمه الكثير ومبادئه أكبر من الثراء والأثرياء وحبه لمن حوله أغناه عن كل جديد، لكنه محتاج لمعيل.. لكن الحل أبسط بكثير إذا أراد الوطن أن يشعر أنه جزء منا فعليه أن يشعرنا أننا جزء منه.. يتنهد الفؤاد وتدمع العين من كثرة المواقف التي تشعرك انك غريب في وطنك ،الشواهد كثيرة والآلام لا تعد ولا تحصى، والعشق الممنوع أصبح القصة الوحيدة القابلة للإعادة كل موسم في انتظار اسطورة تبث مرة، فتوقظ الجميع من سباتهم.. نحن نحب الوطن ونتسابق على ترديد نشيده، ونرفع علمه قرب صدورنا لنؤكد على بقاء نبضات قلوبنا مغربية، ونريد أن نبرئ الوطن مما يلقى عليه من أصباغ الفوضى، فالآن حان وقت ثورات الإصلاح، ثورة على الجهل وثورة على التخلف العلمي والصناعي والزراعي، وثورة على التحزب الاجتماعي وثورة على الطواغيت والأفاعي، والتشتت والفرقة وثورة على البلطجة والسرقة، وثورة على الكراهية، وثورة على الرفاهية.. سنعود يا وطني.. فأرض باردة كالتي نعيش بها في بعدك لا تعنينا، فلم نتركك هربا، بل بحثا عن شيء نعود به إليك..فالحل ليس فقط في شعارات البقاء أو الرحيل، وإنما في عدم إسقاط فضيلة اللقاء.. * طالبة بجامعة نوفجورود الحكومية للطب بروسيا سنة رابعة