مالت الشمس نحو المغيب وهي تجر خلفها ذيول أشعتها الحمراء المتعبة... كنت أحتسي فنجان قهوة في مقهى غريس بگلميمة، حين رن هاتفي، فإذا به صديقي الكاتب المناضل زايد أشنا، وبدون مقدمات قال لي بصوت متقطع بحشرجة في الحلق: "لقد رحل.. لقد تركنا نبا." لم أنبس ببنت شفة، كانت صدمة قوية، شممت رائحة غدر الزمن ومكر الصدف تعم المكان... حولت تمالك نفسي، وأنا أمنع دمعة ساخنة من الانسياب على تعاريج خدي، دب الألم في نفسي دبيب الصهباء في الأعضاء وعسكر الحزن على قلبي وانتابني دوار من خواء وقسوة الأقدار... انزويت في ركن من أركان المقهى، أضربت عن الكلام والشراب، هاجت بي الذكرى، صور من الماضي تجتاح ذاكرتي تمر بسرعة البرق وتقصف بلا رحمة... تكاد تغتالني... ويا ليتني في تلك اللحظة أستطيع أن أبدع مرثية حرة دون روي ولا قافية ولا وزن متمردا على كل البحور، لأطلق كلماتي تسبح باحثة عن جواب لألف سؤال... أنفث آهات!! ألعن الحظ العاثر، وأخيرا نطقت وقلت: "ما أصعب الوداع وما أصعب الفراق بلا وداع.. لن ننساك". الليالي حبالى يلدن كل جديد، والأيام حبالى يلدن كل غريب، لكن لا بأس أيها الفنان الخالد، لئن فاتك تحقيق كل الأماني التي عقدناها فيك، والتي كافحت من أجلها بكل نكران ذات بين أناس يبحثون عن فرص لوضع المزيد من الحصى في أحذيتكم، فخالد وفؤاد وعمر ومصطفى سيتمون المشوار ولأمانينا سيحققون. سأتذكر دوما ما قلته لي في إحدى الحوارات التي دارت بيننا على هامش "مهرجان الرشيدية" حين سألتك عن موقفك من الانفتاح على الثقافة العربية، وأجبتني بقولة أحد المفكرين العظماء: "إنني لا أريد أن ترتفع الجدران من كل جانب حول بيتي ولا أن يحكم إغلاق نوافذي، إنني أريد أن تهب ثقافة كل أرض حول بيتي بأقصى قدر من الحرية، لكنني أرفض أن تقتلعني أي ريح من جذوري..." لن ننساك: عرفناك حرا وبقيت على العهد حتى رحلت، عرفناك شهما وظللت كذلك حتى أفلت، ألفناك مناضلا، فلن ننساك... ظل صوتك صادحا وشجيا لم يبح في يوم من الأيام إلى أن فجعنا القدر... إيقاعات فرقتك تهوى السفر بعقولنا إلى عالم ساحر نجهل معالمه... فشكرا لكم... ولترقد روحك بسلام... NBA كان كبيرا في كل شيء، تيموزغاه، أنفته، كبرياؤه، التزامه، خجول مشاكس، ثوري أصيل، غضبه نبيل... إسمه عندي يتحدى النسيان... مثقف، مناضل منقطع النظير... عندما أسمع موسيقى مداعبته للقيتارة يتخيل لي أنني أمام لوحة تشكيلية تنطق عن تفاصيل معاناة الأمازيغ عموما، وأمازيغ الجنوب الشرقي بصفة خاصة. أسف كبير أن تتحول الأحلام الكبيرة التي انتظرناها منك يا "نبا" إلى كوابيس مزعجة... وألم كبير أن تتقلص ظلالها الوارفة أمام شمس حقيقة موتك المحرقة.. ألم كبير أن نكون مجبرين على تحمل فراق فنان ينسينا بشعره وموسيقاه وطنا يبادلنا الحب بالصفعات. عادة دمعتي قريبة... وأنا أتلقى نعي موته، تذكرت ما قاله لي ذات يوم بلغة أمازيغية عميقة وثقيلة: "دمعتنا – أداموح – يجب أن تكون ذات كبرياء تتحدى الألم والانكسار وتبقى حبيسة الجفون ولا تنهمر على الخدود وترفض أن يمسحها كف أو يجففها منديل... ورغم محاولتنا استفزازها، لن تسقط، يجب أن تظل شامخة... هكذا هي دموعنا نحن أبناء الجنوب الشرقي." ليرحمك الله يا فناننا الخالد، ولنعزي أنفسنا بقول الشاعر: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول