إلى حنان الشيخ -1- كنت منذ وصولي إلى السلك الثانوي التعليمي مولعا بالمدرسة البنيوية، كنت آنذاك تلميذا مجدا، تفوقت في السنوات الثلاث التي كانت تسمى في تلك الفترة الخامسة والسادسة والسابعة ثانوي، التي توازي قسم الباكالوريا، وكانت شعلة المدرسة البنيوية في التفكير قد بدأت تتجلى واضحة في الدراسات الأدبية المغربية، تم جاءت ترجمة كتاب رولان بارت الشهير ،درجة الصفر في الكتابة، من لدن الناقد المغربي الألمعي محمد برادة، كما بدأ اسم ليفي ستروس يلمع في المغرب أيضا، باعتباره شيخ البنيوية. لقد أعجبني في هذا النمط من القراءة قدرته على تفكيك بنيات النص الأدبي والقدرة على إعادة تركيبها من جديد، ولعل هذا الأمر هو الذي سيدفعني في مستقبل الأيام لاعتماد السيميائيات كمنهج في تحليلي الأكاديمي لبعض الروايات العربية و الغربية، سواء على المستوى اللغوي العربي أو الفرنسي فيما بعد. لهذا ما أن سمحت لي الظروف بعد حصولي على شهادة الباكالوريا بالتسجيل في إحدى الجامعات الفرنسية، حتى سعيت للحصول على أكبر قدر من الكتب التي تهتم بالمنهج البنيوي التحليلي إن على مستوى النظر الفكري أو الإنجاز التطبيقي. -2- عند وصولي إلى مدينة ستراسبورغ، قررت أن أسجل نفسي في قسم العلوم الإنسانية، تخصص سوسيولوجيا، متخذا من الباحث المغربي الكبير عبد الكبير الخطيبي نموذجا يحتذى، وكان من حسن حظي أن هذا التخصص كان يثير شهية أكبر عدد من الفتيات الفرنسيات، إذ كان يتم فيه دراسة السلالات البشرية من جانب أنطروبولوجي، ودراسة الفكر الفلسفي من جانب تأريخي تحليلي، ودراسة العلائق الاجتماعية من جانبها الاجتماعي بالخصوص، إضافة إلى الجانب التحليلي النفسي. لقد كان هذا التخصص في بداية الالتحاق به أي في السنة الأولى والثانية منفتحا على مجالات علمية أخرى تكمل رؤية المهتم به نحو العوالم الاجتماعية التي يحاول دراستها، ولا تجعله ينغلق فقط على جانبها الاجتماعي فحسب، لكن أهم ما كان يثيرني فيه شخصيا، هو قدرة الأساتذة هناك على إقامة علاقات حوارية مع الطلبة حول الظواهر الاجتماعية المدروسة، وحرصهم على أن يقوم هؤلاء الطلبة ذكورا وإناثا بعروض مشتركة شبه إجبارية حول ظاهرة من الظواهر المدروسة. هكذا كان مثلا الأستاذ بولا الذي كان يثير فينا اسمه نحن الطلبة المغاربة كثيرا من المرح و البهجة، لأنه يدل في لغتنا العربية المغربية- العامية- على اسم المصباح، وبالتالي فهو يذكرنا بالأجواء الجميلة التي قضيناها في بلدنا الحبيب، المغرب، يشرح لنا كيفية تعامل الشعوب المسماة بدائية مع الناحية الجنسية باعتبارها ظاهرة ثقافية حددت في كثير من لحظات حياتهم مصير هذه الحياة نفسه، ودفعتها بالتالي لتسير في اتجاه دون آخر، كما كان يحدثنا عن الطقوس التي كانت تصاحبها والتي ما زالت بعض تجلياتها حاضرة لدى بعض الشعوب المعاصرة. وكان في كثير من الاستشهادات التي يقدمها لنا يقف عند ليفي ستروس معتمدا على ما جاء به، مشيدا بقدرته على تفكيك كثيرا من الرموز وإعطائها معاني جديدة قلما انتبه إليها الباحثون قبله، وهو ما جعلني أسترجع علاقتي بهذا المفكر الكبير والرغبة من جديد في قراءة كتبه أو الالتقاء به، خصوصا وأنني كنت دائم الذهاب إلى مدينة باريس. -3- هكذا قررت ذات صباح جميل أن أقصد مدينة باريس ولو سيرا على الأقدام، لأرى ليفي ستروس شيخ البنيويين في العالم أجمع. هاتفت صديقتي الباريسية نادين مخبرا إياها بمجيئي عندها لقضاء بعض الليالي، جمعت بعض حاجياتي واستلفت بعض النقود من عند بعض الصديقات العربيات منهن والغربيات، لأن الأصدقاء غالبا ما يخذلون بعضهم البعض، وتوجهت صوب محطة القطار. في الطريق إليه شاهدت بعض الفتيات الجميلات يقفن في الطريق ويردن الوصول إلى أماكنهن عن طريق لعبة الإيقاف الذاتي أو ما يسمى باللغة الفرنسية الأطوسطوب، دعتني إحداهن بعينيها الجميلتين للوقوف صحبتها، على اعتبار أن هذه الوسيلة كانت مستعملة جدا من لدن الطلبة إناثا وذكورا، وإن كانت السيارات تقف بالخصوص للإناث، فكرت في الأمر وقررت أن أذهب إلى باريس بهذه الوسيلة وصحبة فتاة جميلة أيضا ستكون حتما هي صاحبة السيارة، جربت حظي مرتين وفي الثالثة نجحت. وقفت فتاة تبدو على ملامحها الرغبة في المغامرة، كانت آية في الجمال، كما يقول دائما نجيب محفوظ في رواياته التي قرأتها عن آخرها واحدة تلو الأخرى حتى أدركتني حرفة الأدب بسبب قراءتها المتواصلة. نظرت الفتاة إلي مليا، ثم أمرتني بالصعود إلى السيارة وبالجلوس في المقعد الأمامي المجاور لمقعدها، ثم سألت عن وجهتي المقصودة. أجبتها مدينة باريس، قالت: حتة واحدة، آه اعذرني أيها القارئ، لقد نسيت، حسبتني أتحدث عن فتاة مصرية، الخطأ على نجيب محفوظ وليس علي، قالت: آه، بون، ولكني لست ذاهبة إلى هناك. ابتسمت وتظاهرت بعدم الاكتراث، فكرت مليا ثم قالت، اسمع سأقدم لك أغنية قديمة، إذا عرفت لمن هي. أوصلتك إلى مدينة باريس وبقيت معك حتى تعود منها، قلت اتفقنا، أو في الحقيقة قلت داكور، على أي لقد كنا نتحدث باللغة الفرنسية. وهل يأخذك شك أيها القارئ في ذلك، ونحن في قلب فرنسا والفتاة فرنسية أبا عن جد، هكذا بدأت الفتاة تصدح بأغنية: لا تتركيني، بصوت شجي، ابتسمت. قالت: أكيد لم تعرفها، سأساعدك، إنها لمغني فرنسي من أصل بلجيكي. قلت لها والقلب قد شغف بعيونها قبل كلامها. إنه جاك بريل. قالت مندهشة من كون شاب عربي لم يتجاوز سنه الثانية والعشرين بعد، قد عرف مغنيها الأثير لديها، وهو أي المغني وليس أنا، ليس مغنيا نمطيا، بل فنان رقيق وشاعر أصيل: كيف عرفته. قلت لها إنه مغني الأثير أيضا، ابتسمنا في لحظة غاب فيها الزمن، قالت لي ويديها على مقود سيارتها: إلى باريس ... إلى باريس !! -4- كانت الطريق إلى باريس غاية في الروعة، تصوروا شابا وسيما وفتاة جميلة يركبان معا سيارة فارهة، ويستمعان معا إلى أغاني جاك بريل، كيف ستبدو لهما الطريق، غاية في الروعة، قال صديقي القصاص المغربي، لما رويت له القصة قبل كتابتها، هكذا امتد الطريق وهكذا امتدت الأشجار متتابعة في سرعة هائلة، وكأن كل واحدة منها تريد أن تسبق الأخرى، وكأن كل واحدة منها لا تريد أن تفارقنا وتتركنا نسير تائهين، حدثتني صديقتي عن نفسها، كانت طالبة في السنة الأولى في كلية الفنون التشكيلية، تحسن رسم البورتريهات بشكل أثار إعجاب كل الطلبة في الكلية قبل أن يشد أنظار الأساتذة بعد ذلك، استطاعت أن تعيد رسم الموناليزا حتى بدا ليوناردو دافنشي وكأنه قد أعارها يديه لدى رسمها لها. واستحقت عن ذلك لقب بنت ليوناردو دافنشي، وحين سألتها عن اسمها أخبرتني بأنه منى. قلت لها إنه اسم عربي أصيل. قالت لي ضاحكة بل إنه اسم عالمي، أنسيت بهذه السرعة اسم لوحة ليوناردو دافنشي. لقد أسماني أبي الذي كان هو الآخر مثلي يعشق الرسم ويهيم به على اسم صاحبة اللوحة الشهيرة التي نتحدث عنها، أي الموناليزا، مكتفيا بالاسم الأول منها أي منى، أو كما تنطقونها أنتم العرب مونا، غلبني الضحك فانطلقت مني قهقهة رنانة استطاعت أن تعديها فانطلقت هي الأخرى ضاحكة مقهقهة، وكان أجمل ضحك عاشه عاشقان على مر تاريخ الأدب كله. إذ لم يضحك قيس مع ليلى فجن من شدة بكائه، ولم يضحك روميو مع جولييت فماتا كأشقى عاشقين، على الأقل، في صفحات مسرحية وليم شكسبير، التي تحمل اسميهما، والتي سبق لي أن كتبت عنها مقالا غاية في الروعة أيام إعجابي الشديد بهذا المسرحي الفذ. -5- وصلنا إلى باريس، أطلت المدينة الكبيرة فرحة بقدومنا إليها، أو على الأقل، بقدومي إليها، ذلك أنها، أي المدينة طبعا، كانت على علم بأنني سوف أكتب عنها ذات يوم، طال الزمن أو قصر، وكذلك الأمر كان، أطلت إذن علينا، مبرزة إلينا وجهها العمراني البديع، تراءى لنا برجها الشهير، برج إيفل، وهو يدعو زائريها لزيارته. اقترحت على منى أن نذهب إليه. ابتسمت ودعتني للولوج، قبل أي شيء، إلى المقهى المجاور للمكان الذي أوقفت فيه سيارتها. طلبت قهوة سوداء في حين طلبت هي حليبا أبيض. تأمل كل واحد منا الآخر مبديا إعجابه به أو هكذا خيل ربما لكل واحد منا، لتبق أيها القارئ الغيور وأنت أيها القارئة الشكاكة على خاطر خاطركما، أكتبها لكما بالتعبير المغربي أيضا، اقترحت علي صديقتي أن أقرأ لها بعضا من أشعاري، اخترت لها قصيدة بدت لي في ذلك الوقت رائعة. كان اسم القصيدة الموناليزا، أقدم لك أيها القارئ العربي وأنت طبعا أيتها القارئة العربية ترجمتها الشعرية في ما يلي من حديث. -6- - قصيدة الموناليزا- حبيبتي... أيتها الأنثى ... الجميلة الفتانة يا حبات قلبي وقد تفتت.... مثل حبات الرمانة أيتها الشاعرة الرسامة، الفنانة أيتها العابرة قلبي ... إلزمي حدود دربي ... وحلقي إن شئت في أرجاء سمائي لكن رجائي أن تظل معي رقيقة ... مثل طيف حمامة ! ******* حبيبتي... أيتها الأنثى الجميلة الفتانة يا أعذب طفلة رأيتها في حياتي يا أبهى إنسانة ... لك مني قولي الجميل لك مني أجمل ابتسامة لكن رجائي أن تظل معي لا تسمعي... كلام العاذلين لا تسمعي ... كلام النفس المعاتبة... اللوامة... -7- حين انتهيت من قراءة قصيدة «الموناليزا»، وهو عنوان اخترته لها في تلك اللحظة مباشرة، حتى أظل في أجواء نفس الحديث مع صديقتي منى، وقد كتبت القصيدة طبعا عن واحدة أخرى غيرها، لكن قصائد الحب تهدى لكل النساء، إذ كلهن في القصائد يكن جميلات بهيات، وكل الشعراء فيها أيضا، أي القصائد يكونون عشاقا كبارا، قلت حين انتهيت من قراءة القصيدة سمعت صديقتي تصفق لي مبدية إعجابها الشديد بالقصيدة، اقتربت منها وهمست في أذنها اليمنى قائلا بأن القصيدة هي من وحي اللحظة وبأنها كتبت عنها تحديدا، منحتني قبلة سريعة ثمنا للقصيدة، وكان أجمل ثمن تقاضيته لحد الآن عن كل قصائدي التي كتبتها. قررنا بعد أن انتهينا من شرب كأس القهوة السوداء المخصص لي وكأس الحليب الأبيض المخصص لها أن نتوجه صوب متحف اللوفر مباشرة، أتعرفون لماذا ؟ طبعا لمشاهدة لوحة «الموناليزا» وللتأمل في ابتسامتها السحرية المذهلة التي أعيت نقاد الفن في فك طلاسمها، فمنهم من قال إنها ابتسامة ماكرة، ومنهم من قال إنها ابتسامة فيها من البكاء الشيء الكثير. لم نزدد من مشاهدتنا للوحة معرفة أكبر بها، وإن كانت لحظة المشاهدة لحظة شاعرية لنا بالتأكيد، ولحظة تاريخية بالنسبة لي، استحضرت فيها كل ما قرأته عن هذه اللوحة الخالدة التي أقف الآن أمامها أو على الأقل توهمت ذلك إذ كنت أرنو إليها عن بعد. كانت اللوحة تخاطبني، تفضي لي بأسرارها لكن حين أريد الحديث عن هذه الأسرار أعجز تماما. ذلك هو سحر الفن الخالد في كل الأزمنة، السحر الفني الذي يعجز الآخر عن الولوج إلى عوالمه وإن توهم حينا من الدهر أنه ولج إليه. كانت صديقتي ترمقني بإعجاب، لأنها شعرت بعالم اللوحة يستحوذ على مجامعي، ضغت على يدي فضغطت على يدها، لم ألبث أن طبعت قبلة على جبينها، كانت قبلة يطبعها شاعر على جبين رسامة، تركنا متحف اللوفر وتوجهنا صوب أقرب فندق، أدينا ثمن مبيتنا، اخترت غرفة لي واختارت غرفة بالقرب مني. قررنا على الأقل أن نظل صديقين في اليوم الأول من تعارفنا، تركنا عواطفنا تتجاذب مع بعضها، وفضلنا أن نلتقي مثل حبيبين على صعيد الأحلام ليس إلا. -8- في صباح اليوم التالي، رن الهاتف بغرفتي بالفندق، كانت صديقتي الفرنسية منى تدعوني للنهوض كي آخذ الفطور صحبتها، حين التقينا قبلتني ضاحكة، قالت لي وهي تغمز بعينيها كيف قضيت ليلتك ؟ قلت لها مجاريا تلاعباتها بالكلمات، قضيتها صحبة الموناليزا، ضحكنا معا وتوجهنا نحو أقرب مائدة، كان الفطور شهيا، أصرت هي على تأدية ثمنه وأصررت أنا على التجاهل متظاهرا بعدم الاهتمام للأمر. خرجنا بعدها نتجول في أزقة وشوارع باريس، سألتها عن مقر جامعة السوربون، أخبرتني بمعرفتها له وبإمكانها اصطحابي إليه بعد الزوال إن أحببت. أخبرتها برغبتي في لقاء الفيلسوف ليفي ستروس، أعجبت كثيرا بذلك، ومن حسن حظنا أننا وجدناه لدى مدخل كلية العلوم الإنسانية، قالت لي أنظر إلى هناك وحين نظرت بدت لي صورة لرجل مهيب. لقد كان بالفعل هو ليفي ستروس، صاحب الكتب الشهيرة التي طبقت شهرتها الآفاق، أسرعت الخطى للقائه، انتبه إلي فتوقف، تقدمت وسلمت عليه، جاءت صديقتي، فعلت ما فعلته، سألني عن رغبتي، أخبرته بها، كنت أريد حضور إحدى محاضراته. ابتسم قائلا لي ولصديقتي، هأنا ذاهب لإلقاء إحداها في ذلك المدرج. تواعدنا على اللقاء هناك. وبالفعل حضرنا كباقي الطلبة الآخرين، وحين رأيته وهو يشرح درسه، تراءى لي من بعيد وجه أبي الغائب، الوجه الذي أحببته كثيرا، فسررت لذلك كثيرا. ---- (*) هذا الفصل هو من رواية « الحياة في غرب المتوسط» وهي امتداد بشكل من الأشكال للرواية السابقة للكاتب أي رواية « وقت الرحيل» التي صدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة المغربية ، سلسلة إبداع، سنة 2007، وهي رواية تنتمي إلى نوع الروايات الحضارية التي تطرح علاقة الشرق بالغرب،من منظور إنساني تكاملي مبني على المحبة والتسامح والتآخي ،عن طريق تتبع حياة شاب في علاقاته المتشعبة مع الحياة الثقافية هناك .إنها رواية تعيد التفكير من جديد في روايات عربية سابقة من أهمها ،عصفور من الشرق ،لتوفيق الحكيم ،و، قنديل أم هاشم ،ليحيى حقي،والحي اللاتيني ،لسهيل إدريس، وموسم الهجرة إلى الشمال ، للطيب صالح، لكن هذا التفكير يأخذ طابعا حداثيا بامتياز...