إذا رأيت الأغصان ذابلة فاعلم أن الجذور تفتقد إلى العناية. جذور حريتنا لم تمت. لكنها ذابلة غير منتعشة. وقصة ذلك الذبول لا تتعلق بواقع اليوم ولا الأمس القريب بل هي ضاربة في عمق التراث العربي الإسلامي. حرية تراكمت من فوقها جبال من المعارك والثارات والدماء والويلات والتصفيات. قصة الحرية وكل ما ارتبط بها من آهات وأوجاع وأخذ ورد بقدر ما تكمن في الحاضر تكمن في الترات الذي يعيش معنا وبين أظهرنا. وعلى ضوءه نقرر حاضرنا ومستقبلنا. قد يقول قائل ببساطة: أريد اليوم حريتي وكرامتي! مالي وللتراث؟ هل أنبش في الماضي لأجد حاضري؟ ماعلاقة هذا بذاك؟ على رسلك ! ليس التراث شيئأ ماضويا يحسن السكوت عنه لاستئناف الحياة الجديدة بحثاً عن الكرامة ومجتمع مدني متحضر يعرف حقه كما يعرف واجبه ويحترم مسؤوليته. التراث حاضر في ذاتنا مكوِّن من مكونات المعايير التي ننظر بها إلى الأحداث فنصدر الأحكام حولها. ليس ينفك المرء عن تراثه بحال من الأحوال ولا يستطيع العيش بدونه. سواء تصرف بوعي أم بغيره. لهذا ترتبط معرفة الذات والهوية بالتراث. ونقصد بالتراث ماضي الأمة بما فيه من الفتوحات وأعمال الرجال والأخبار والأعراف والعادات. والدين جزء من التراث وليس كله. وهو الأوسع طابعاً يهيمن على أوسع مساحة فيه. والأكثر حضورا هي الأيديولوجيات التي احتمت بالدين ونجحت ردحاً من الزمن إذ أعطيت الصبغة الدينية التي أمدت أعمارها وأخرت سقوطها. محاصرة قيمة الحرية من داخل التراث لم يتم تحجيم أيِّ قيمة من القيم العربية الإسلامية كما تم تحجيمُ مبدئ الحرية ومضايقة مجالها وحدودها في التراث العربي. فقد ظلت منطقة محرمة داخلها مفقود، وإن خرج فعلى أعواد المشانيق. هذا بالرغم من كونها أصل من الأصول التي أنيط بها تكليف المكلف حيث " لا تكليف إلا بفعل اختياي" كما يقول علماء أصول الفقه. وهي شرط وجوب بالنسبة للعبادات. كما أن المُكرَهَ رفع عنه القلم لا يعد مذنبا بما ارتكبه تحت الإكراه لغياب حرية الإختيار، وفي هذا الصدد تصب كوكبة من النصوص المُعتبرة مثل حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه بعض أهل السنن بألفاظ متقاربة: رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ومثلها من القرآن قوله تعالى: لا إكراه في الدين (البقرة 256) لكن ظل فقه الحرية منحصرا في مجال محدود، غائبا تماما عن الواقع العملي، كالمشاركة السياسية والإجتماعية والمبادئ التربوية والتعليمية. فالذين اقتحموا هذا الميدان من علماء المسلمين دفعوا الثمن باهظاً. لهذا نستطيع القول أن الحرية وئدت واغتيلت مبكراً وهو الأمر الذي جعل الفكر العربي الإسلامي معاقاً من هذا الجانب. فالعقل العربي يحتاج بالفعل إلى عملية جراحية ليستدرك تلك الإعاقة لا أن نعوضها من روافد غريبة عن التراث لأنها لم تستقم ولن تستقيم. لكن العملية الجراحية من طبيعتها أن تكون مؤلمة، والألم يحدث عندما يُطرح المسكوت عنه للنقاش فتثور العاطفة على العقل ويزعم المعترض أن التراث كله كان ولا يزال قداسة وعدالة وحرية وفتحاً مبيناً. في هذا الصدد أريد أن يقف القارىء الكريم معي عند أحد الصفحات من الترات التي لا تزال، صفحة ماضية لكنها حاضرة. ثم تأمل معي: المكان مسجد الكوفة، والزمان من أيام الله صبيحة يوم عيد الأضحى للعام الخامس بعد المائة للهجرة. والذي سيؤم الناس ويخطبهم هو والي العراق من قِبَل هشام بن عبد الملك، خالدُ بن عبد الله القسري. الناس تتوافد على المسجد تباعاً وقد لبسوا أحسن ثيابهم وتجملوا لأداء سنة صلاة العيد، وقد انفتحت قلوبهم وآذانهم لسماع تذكير الإمام الذي ولاه الله أمرهم، ليتصافحوا بعد الصلاة وقد تصافت قلوبهم وتسامت أرواحهم. وتتم الفرحة بعد حين بذبح الأضحية شكراً لله. فبعدما ما أنهي الخطيب الصلاة وخطب بعدها، وحث الناس على مكارم الأخلاق والتواصي بالحق والصبر والتسبيح والتكبير لأيام التشريق أضاف في الختام قائلا: انصرفوا وضحوا بضحاياكم، تقبل الله منا ومنكم، فإني أريد اليوم أن أضحي بالجعد بن درهم فإنه يقول: وما كلم الله موسى تكليماً ولا اتخذ الله إبراهيم خليلا. ونزل خالدُ بن عبد الله القسري على المنبر وحز في أسفله رأس الجعد بن درهم (البداية والنهاية لابن كثير ج 9. ص350) . كان الذبيح قد أعِد سلفاً للذبح مقيداً بين المنبر والمحراب. فلم تمض لحظات حتى انفصل رأس الجعد عن جسده بسيف صارم، وتدحرج بعيداً، والجسم لا يزال موثقاً. وجَمَ القومُ وسكتوا، ولم يعلق أحد على ما سمع وشاهد، وتنفسوا بهدوء وانصرفوا واجمين صامتين. قيل إن من الناس من استحسن الأمر استحساناً. وقد أخضع المحدثون هذه القصة لنقد أسانيدها فثبت عند أغلبهم بأن مجموع الروايات التي وردت بها يقضي بصحتها. البعد السياسي لذبح الجعد بن درهم كان الجعد أولَ من قال بخلق القرآن وتأويل الصفات، وعنه أخذ الجهم بن صفوان. ولكلٍّ من تأويل الصفات وخلق القرآن بعده السياسي الذي ينتهي القول بهما إلى دائرة حرية الإرادة، وذلك منشؤ الصراع بين الأمويين والمعتزلة. لكن أين تقع حرية الإرادة من تأويل الصفات وخلق القرآن؟ كان منطلق القدرية/ المعتزلة (القائلين بقدرة الإنسان الإختيارية على خلق أفعاله) أن الإنسان يتمتع بحرية الإرادة وبالتالي هو مسؤول عن أفعاله، لما أعطي من حرية الإختيار. رداً على ما كان يروجه الأمويون سياسياً من عقيدة الجبر. ذكر ابن قتبة أن عطاء بن يسار ومعبد الجهني دخلا على الحسن البصري في مسجد البصرة فسألاه: يا أبا سعيد,, إن هؤلاء - يقصدان بني أمية - يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله,, فأجابهما الحسن البصري قائلاً: كذب أعداء الله (ابن قتبة، الإمامة والسياسة ص 441) وحين خطب معاوية في جنوده في صفين قال في سياق خطبته: ,, وقد كان من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض. وقد قال الله سبحانه: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد. (البقرة 253) وعندما حمل الناسَ على بيعة ابنه يزيد قال: إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم (الجابري العقل الأخلاقي العربي ص 80). العقيدة التي قررها الأمويون منذ البداية وركزت عليها الخَطابة في دولتهم طولا وعرضاً هي أن: حكمهم تم بإرادة الله، وعلمِه السابق الأزلي. تلك هي عقيدة الجبر الذي من الطبيعي أن تنتج رد فعل مكافئ لها في الأدلة مضاد لها في الإتجاه. فكان مضمون رسالة خطاب المعتزلة في مجموعها الموجهة للأمويين أن توليهم السلطة ليس قضاء وقدراً ولا هو من سابق علم الله، إنما المسألة تعود لتملككم رقاب الأمة بسيفكم المسلط. لكن هذا تضمنه خطاب أهل الإعتزال من بين السطور. لقد عرف خطابهم بنوع من الصرامة تجاه الإستبداد ودحض المغالطات التي استهوت رعاع الناس. يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: لا يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلالة وولاة الجور إذا وجد أعواناً، وغلب على ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور (القاضي عبد الجبار: تثبيت دلائل النبوة 2 ص.574/575) مسألة خَلْق القرآن يلتقي القول بنفي صفات الفعل مع القول بخلق القرآن في أن كلا المسألتين تعودان لصفة الكلام. والنقاش ينطلق بصفة العلم من السؤال التالي: هل علم الله أزلي قديم، أم مُحدَث؟ فالسياسة الرسمية الأموية تقتضي أزلية علم الله وتَحْمِلُ الأئمة على القول بها. والنتيجة أن ما جرى من انتزاع السلطة وقتل تسعين ألفا في صفين وحدها قضاء وقدر بالمنطق الأموي الذي نظر له معاوية. كرد فعل يثبت الجهم بن صفوان والجعد بن درهم أستاذه في تقرير العقيدة أن علم الله محدث (حادث وليس قديماً) عَلِم به عند حدوثه، لأن الشىء لا يكون معدوماً ومعلوماً في آن واحد. وبالتالي فإن الله لم يقدِّر على الناس أعمالهم. بل عَلِم بها حال حدوثها. حيث ينفي الفكر المعتزلي صفة العلم السابق الأزلي الذي يقتضي القضاء والقدر. فمعنى كون القرآن مخلوقاً أن الله لم يتكلم به في الأزل، إذ يتضمن القرآنُ خطاباً لموجودات لم تكن، ثم وجدت. كيف يكلم الله موجودات منعدمة غير موجودة - حسب أهل الإعتزال؟ كذلك الحال بالنسبة لكل ما يمكن أن يطرح للنقاش من التصرفات البشرية هل كانت قضاء وقدراً، أم هي مسؤولية الإنسان؟ لأن الصفات التي دار عليها النقاش تؤول إلى صفة العلم وما عداه يعطى حكمه. البعد الثوري في تأويل الصفات عند المعتزلة ليس من المهم أن نتفق أن نختلف مع مضمون ما ذهب إليه الجعد بن درهم في تأويل الصفات أو إنكارها هروباً منه بالقول بتعدد القوادم. لكن اتخاذ قرار ذبحه يوم العيد وبهذه الطريقة لا يتما شا بحال من الأحوال ولا يتفق والسعة التي تتوفر عليها دائرة الإيمان التي وسعها الله وضيقتها الأيديولوجات. حيث لا يزال ذبح الجعد هذا يُدَرَّس إلى اليوم في مقررات العقيدة لبلدان عربية، كمثال نموذجي لحراس العقيدة من أهل الأهواء من لدن الذين يرون أن هذا القرار وبهذه الطريقة نصرة للعقيدة ومفخرة لخالد بن عبد الله القسري. وقد أشاد ابن القيم بهذا الذبح في القصيدة التي يقرر من خلالها عقيدة الفرقة الناجية المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، وهي قصيدة نونية تبلغ ستة آلاف بيت. التي استهلها بقوله: حكم المحبة ثابت الأركان,, إلى أن يقول: جَهم بنُ صفوان وشيعتُه الألى ,,, جحدوا صفات الخالق الديان بل عطلوا منه السموات العلى ,,, والعرشَ أخلوه من الرحمن ونفوا كلام الرب جل جلاله ,,, وقضوا له بالخلق والحدثان وفي البيت الخمسين من القصيدة يقول ابن القيم: ولأجل ذا ضحى بجعدٍ ,, خالد القسري يوم ذبائح القربان. إذ قال إبراهيم ليس خليله,, كلا ولا موسى الكليم الداني. شكر الضحية كل صاحب سنة,, لله درك من أخي قربان. ذهب ابن القيم في هذا البيت الأخير إلى أن أهل السنة كلهم باركوا هذا الذبح واستحسنوه، باركوا الضحية وأقروها، مع ثنائه على خالد القسري بقوله: لله درك من أخي قربان. وكان خالد القسري قد ألقى القبض على التابعي سعيد بن جبير بمكة وأرسله للحجاج بن يوسف الثقفي بالعراق فقتله كما هو معروف. لكن من غرائب الزمن أن قُتل خالد القسري هذا شر قتلة على يد من قدم لهم كل هذه الأعمال والقربات. ففي سنة عشرين ومائة للهجرة عزله هشام بن عبد الملك بأمر من الوليد بن يزيد فعذبه أشد أنواع العذاب ثم قتل. ومهما يكن من أمر فإن الجعد بن درهم لم ينكر صفة الكلام ولا خُلة إبراهيم لله كما يبدو من ظاهر كلام ابن القيم. لكنه تأولها تفادياً لاشتراك الله مع الخلق في الصفات، لإنه وأصحابه لا يثبتون صفات الله التي يشترك فيها الخلق معه. لأن ذاته لا تحُل بها الحوادث، لكونها أزلية. فذاته لوحدها أزلية، بذلك سموا أنفسهم أهل التوحيد. أما كونهم أهل العدل فإن الله - في نظرهم - عادل حيث يستحيل في حقه أن يقدِّر على المرء أمرا ثم يعذبه على إتيانه. فالإنسان مسؤول على أفعاله ولا اعتبار لعلم الله السابق من منطلقهم. فهم يرون أن الله خلق في الشجرة كلاما، ثم كلم موسى من خلالها. قال القرطبيى : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء. ولا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين. لقوله تعالى : فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (القصص30 ) فالذي ذهب إليه أكثر المفسرين في تفسير هذه الآية أن حرف من في قوله تعالى مِن الشّجرَةِ متعلق بالفعل الذي هو نودي. على هذا سيكون معناها ابتداء الغاية. فتكون الشجرة مصدرَ النداء. أي سمع كلاما خارجا من الشجرة. وما قيل في مِنَ الأولى قيل في الثانية حسب رأي الزمخشري وهو بدوره من المعتزلة. فمن الثانية " من الشجرة " بدل من الأولى " من جانب الوادي الأيمن" بدل اشتمال لأن الشاطئ اشتمل على الشجرة. فتكون المعنى: حصل الكلام من قِبَل الشجرة. فالقرآن يحتمل أكثر من وجه حسب الدلالات اللغوية التي تعد أحد أسباب تنوع الرأي الفقهي في المسألة الواحدة. لكن المشكلة تتم عندما ننصب المشنقة لمن يخالفنا الفهم. ماذا كان يخفي علم الكلام؟ لم يكن علم الكلام مقصوداً لذاته، إنما كان يخفى من ورائه جبالا من الثلوج، طالما تحاشا الحكام الإصطدام بها حتى لا تتكسر سفن عروشهم. وربما حوَّلوا مسار إبحارها ما أمكن تحويله، لكيلا يصطدموا بمعضلاته الفلسفية التي تطرح كل شيء على الإطلاق للنقاش وتتساءل حول أي شيء وتستفز العقول لتُفكر. من أهم الأبعاد السياسية التي كان يرمي إليها الفكر الإعتزالي إبان بروزه هو توسيع دائرة قدرة الإنسان وحرية الإرادة وبلورة طاقة العقل البشري. وهذا من طبيعته أن يضيق دائرة الجبر، وهو المجال الذي يكرس الإتكال والخمول وانتظار السماء وقبول الأمر الواقع. هما أمران بينهما مد وجزر، فكلما ضيَّقنا من قدرة العقل اتسعت دائرة الجبر، وكلما ضيقنا من سلطة الجبر اتسعت إمكانية الإرادة الحرة وإبداع العقل البشري الهائل اللامحدود حسب الفيلسوف الألماني إيمانيويل كانت. ولادة الحرية اليوم عندما يولد الجنين يحتاج لاستكمال وقته لتنمو عضلاته. فمن تعجل بشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، كما يقال. ذلك ما تحتاج إليه حريتنا المولودة حديثاً في بلادنا العربية. حرية صنعتها الشعوب بيدها، التي أسقطت فراعنتها وانتزعت منهم حريتها انتزاعاً. ثم بقي التحدي الأكبر يكمن اليوم في ممارسة تلك الحرية التي انتزعوها مجتمعين بكل شرائحهم. كيف نتقاسمها ونحن ذوُو توجهات مختلفة، وقناعات متعددة؟ فالحرية نقطة مركزية بين المتدينين واللادنيين. بين المتدينين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وبين اللادنيين على تنوع نظرتهم للوجود. هل هناك من هذه الشرائح من له أن يستأثر بهذه الحرية ويستمتع بها دون الأطراف الباقية؟ ليس في بلادنا بين الفريقين في مناظرتهم الفكرية نقطة الوسط. بل راديكالية انفعالية لايحضر فيها من العقل شيء. إننا نعيش الفقر المعرفي فيما يتعلق بالحرية والوعي بها. لأنها ظلت منطقة معزولة في تراثنا، لم يبحث في فقهها. بل لم يُبتكر ذلك الفقه أصلا كما حدث باقي أبواب الفقه الإسلامي. الأمر الذي جعلنا فقراء فيها، تلاميذ مبتدئين في تعلمها وحسن استعمالها. كما أن المسؤولية بنت الحرية. فالإحساس بالمسؤولية لا ينمو لدى شخصية المرء إلا إذا تربى على مبدإ الحرية. وفي الوقت نفسه ليس من الحق في شيء أن نقول اليوم أن القدماء لم يقوموا بتحقيق الكلام في الحرية كما حققوه في مسائل آخرى تبريراً لكسلنا. لكني أكرر الكلام هنا لأقول إن منطقة الحرية كانت ولا تزال مطوقة محظورة حتى على الفقهاء. ولا نجزم القول أنها اليوم أضحت مستباحة على الإطلاق، كلا، حتى في الغرب تبقى نسبية. لكن لها من المساحة ما يوفر التنفس للعلماء والمفكرين والمبدعين مالم تصطدم مع مصالح الكبار. الذي ينتظر الباحث المسلم هو التشميرعلى سواعده لوضع اليد على مناط الحكم لاستخراج أصول الحرية وقواعدها وما يمكن أن يتفرع عن تلك الأصول. إن اغتيال الحرية على مدار التراث أنتج شعوباً يُقادون ولا يقودون. يستهلكون ولا ينتجون أو يبدعون. يصعب عليهم الإختيار واتخاذ القرار و تدبير الإختلاف. لأن الحرية والمواطنة، وإبداء الرأي، واحترام وجهة النظر الأخرى مبادئ تربوية تُنَشّؤ عليها الأجيال في الصغر لتمارسها في الكبر. لكنها باتت دفينة التراث.