تقديم لا بد منه غالبا ما يذيل كثير من الكتاب مقالاتهم ب: اكاديمي، مترجم، باحث، لساني ، أستاذ جامعي أو دكتوراه في الدراسات الإسلامية، أو متخصص في كذا، وغيرها. وقد تتغير المواضيع وتتوالى لكن أغلبهم ينتهي به المطاف إلى مجرد حالة دفاع عن "انتماء قبلي"،(على حد تعبير برهان غليون عن الأحزاب العربية)، وعن مرجعية ذهنية ومعرفية معروفة سلفا. ف"المتخصصون" مثلا في الدراسات الإسلامية يدبجون مقالاتهم بآيات وأحاديث شتى إلى درجة يصعب معها الفصل بينها وبين خطب الجمعة. وبذلك يتحولون إلى رجال دين يتسابقون حول من ينقل أكثر عن السلف الصالح، وبعضهم حول لي أعناق النصوص حتى تتوافق مع فكرة مسبقة، ويمجد الذات العربية الإسلامية ويسهب في الإرشادات، ويختم بالدعاء بالهداية للمسلمين. والأكاديمي ينزع "القبعة الأكاديمية"، ويضع بدلها "الواقيات من الرصاص". وبدل مراجعة المعطيات من منظور علمي/تاريخي حسب التخصص، وتحري المصداقية، وتدقيق النظريات المؤسسة والمؤطرة تربويا وبيداغوجيا للمواضيع المعالجة، نراه يتمترس خلف ايديولوجيات معينة لا تفلح سوى في تعويم النقاش وتضليل القارئ في متاهات"فكرانية" لا يحدها إلا خيال الحالمين بعيون مفتوحة. وهذا المترجم أو الباحث لا يختار من النصوص سوى ما يتناسب مع "نظرته" الشخصية للأمور، ولا يتناول في الغالب إلا جزءا لا يتجزأ من موضوع عام أُهملت جوانبُه الأخرى. وهكذا نجد - مثلا- "باحثا مترجما" يتمترس خلف مرجعية هولندية ليبرهن على أن "الأمازيغية أمازيغيات وأصلها فنيقي"(؟) ولسان حاله يقول: (لست أنا القائل بل هولندا). هذا دون الحديث عن اصحاب "الثقافة من أجل الثقافة" وتشكيل التعابير والمثاليات الهلامية التي تضيع في طياتها المواقف الجادة التي نحن بحاجة إليها في زمن الفوضى غير الخلاقة. لكن من بين كل هذه التخصصات والتعمقات تبقى الطامة الكبرى هم اللسانيون حينما يتعلق الأمر بقضايا لغوية، وخاصة حين لا يتناولونها إلا كرجال دين أو كمثقفين تعجبهم طناطن رؤوسهم بعد أن بلغوا من العلم "عتيا". مقدمة: أهمية اللسانيات ودورها إذا كانت اللسانيات (منذ 'بانيني' إلى اليوم) قد لعبت دورا أساسيا في دراسة اللغات وفهم نمط تفكير وتعبير الإنسان كل حسب موطنه ولغته، فقد عرفت ايضا فترات أخرى طويلة من الجمود الفكري، كما عرفت أيضا بعض التوجهات أو التحليلات الخاطئة التي تركت ترسبات سلبية في المخيال الجمعي للشعوب. والجمود يعني - من بين ما يعنيه- اجترار أو تعميق تلك التحليلات السطحية أو لفها بغطاء ايديولوجي (ديني أو إثني...) معين يطغى على عمقها اللساني/العلمي. لقد "قَدَّسَتْ" جل الشعوب لغاتِها في بداية استعمالها (كتابيا على الخصوص) كأداة للتعبير والتواصل، وربَطَتْها بمصادر إلهية كل على طريقته، وأدخلوا السجع والبلاغة إلى النصوص الدينية (الكهنة والأحبار و). كما ظهر "طهرانيون" يدعون إلى تطهير لغاتهم من الشوائب (كبعض المفردات أو التعابير التي لا تعجبهم لسبب أو لآخر،حتى ولو كانت متداولة على أرض الواقع وسط فئات عريضة من المجتمع). ورغم ذلك، استطاعت اللسانيات أن تحقق قفزات هامة، فمرت من مرحلة الفيلولوجيا إلى مرحلة النحو –بالمفهوم الحديث للكلمة-- خاصة بعد تطهير اللغات من دنس التقديس. وهكذا، بعد أن كان الدارسون الغربيون يعتبرون لغاتهم مقياسا لتقدم اللغات الأخرى، حملت إليهم نهاية القرن ال19 انقلابا فكريا، بحيث أصبحوا [خاصة بعقد الدراسات التي قام بها فرانز بوا (وآخرون من بعده مثل: سابير و وورف، وغيرهما)] يعتبرون بأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي نمط تفكير وحمولة ثقافية وحضارية للشعوب، وبأن لكل لغة (أو عشيرة لغوية) مميزاتها، ولا يجوز بأي حال من الأحوال قياس تقدمها أو تخلفها بالأسقاطات. فكان ذلك بمثابة شرارة ألهبت الأبحاث والدراسات اللسانية ووضعتها على السكة السليمة. مما أدى إلى ظهور العديد من المدارس اللسانية الهامة في أوربا وأمريكا. ولم يكد يتوسط القرن ال20 حتى حصلت على لقب "العلم الرائد"(pilote Science) فاخترقت جميع المجالات (الفلسفة، الديداكتيك، الإعلاميات، ...)، واستطاعت أن تصحح الكثير من المغالطات. في حين لا يزال البعض الآخر مستمر في تقديس لغته، ويعتبرها إلهية، وبذلك يكون -- دون وعي منه-- قد حصرها في زاوية مغلقة تمنعها من التطور. واليوم، رغم كل هذا الزخم النوعي الهائل من الأبحاث والدراسات التي تراكمت خلال القرن ال20، فلا يزال بعض "اللسانيين" المغاربة يحصرون أنفسهم في تلك "النظرة التقليدانية" و"الإنطباعات الفقهية" إلى القضايا اللسانية وكأن الأرض لا تدور. الكتابة ولعل من بين الأمور التي استأثرت في الآونة الأخيرة باهتمام النخبة المغربية من سياسيين و"مثقفين" ورؤساء مجمعات الدفاع عن اللغة العربية والباحثين... هو كيفية كتابة (اللغة الأمازيغية)، والحرف المناسب لها. ويكاد يُجمِعون على أن (الحرف العربي) هو "الأنسب" لكتابة هذه اللغة غير العربية. وفي هذا الإتجاه، انطلقت أيضا "ورقة عباس" الجراري الذي أكد بأن (استعمال حرف تيفيناغ خطأ) وبأن (استعمال الحرف العربي "غِنىً")، ولكن لا أحد –خاصة من اللسانيين- يقدم لنا مُسَوِّغا علميا أو لسانيا واحدا لهذا الإختيار. وقد تناسلت التبريرات والتعليقات كل على طريقته، لكن لا نجد في مداخلاتهم قِيمة مضافة واحدة قد تُفيد المستمع أوالقارئ أو المتعلم. ملاحظات أولية -- ان الكتابة جاءت بعد آلاف السنين من الإستعمال الشفهي للغات. وقد جاءت لتترجم الرسائل أو الأصوات "المسموعة" (وكل ما يمكن أن يقال) إلى رسومات "مرئية" لأغراض شتى منها: التواصل غير المباشر والتدوين، إلخ. -- ان هذه الرسومات تطورت مع الزمن لتصبح رموزا تعبر إما عن فكرة(في بعض اللغات) أو حروفا يرمز كل منها إلى صوت محدد حسب الشكل الشفهي ( في لغات أخرى). -- ان محاولة كتابة لغة معينة (بواسطة الحروف)هي محاولة لرسم بنيتها الصوتية. والبنية الصوتية هي سلسلة صوتية تتتابع فيها أصوات صامتة C ، وأخرى صائتة Voyelles وفق طبيعة تشكيلها (صوتيا ومعجميا ونحويا). كما ترسم مميزاتٍ على مستويات أخرى، تتضمن كيف تُنطق هذه الأصوات، كالتفخيم أو التنوين أو التمديد أو التشديد وغيرها. وبالتالي فإن الحرف الأنسب لكل لغة هو الحرف الذي يعكس بإخلاص طبيعة هذه السلسلة الصوتية بجميع تلويناتها، وكذلك العلاقة الوظيفية بين سائر مكونات الجملة الواحدة (وهذا بالتأكيد ما لا تغفله السلسلة الصوتية الخاصة بكل لغة، وإلا ما كان التواصل ليتحقق حتى لدى الأطفال). وكان المشكل الحقيقي الذي عانى منه المهتمون القدامى بالكتابة هو مشكل الصوائت التي لا تتوفر بعض اللغات على رموز لها ، في حين تُعوِّضُها أخرى بمجرد "حركات" (كالكسرة والضمة والفتحة في العربية) في حين أنها أصوات مستقلة بذاتها عن الصوامت. وهذا يمكن إثباته بالأجهزة الخاصة بالصوتيات المتوفرة حاليا، ويعرفها اللسانيون والفيزيائيون جيدا. -- لا يمكن لحروف لغة أن تعكس أصواتَ لغةٍ أخرى إذا لم تكن متطابقة من الناحية الصوتية: (الفرنسية، مثلا، لا تتشكل بنيتُها الصوتية من أصوات (ه،ع،ق) وبالتالي لا يمكن أن تعكس لنا حروفُها المناسبةُ لها هِيَّ جملةًََ صوتيةً عربية). البنية الصوتية للغة الأمازيغية من المعلوم أن الكثير من اللغات تشترك في الكثير من الأصوات كََ ( "د" أوفي صيغته المفخمة "ض" / و"ك" / و"س"/ إلخ)، لكنها أيضا تختلف في أصوات أخرى كما تمت الإشارة إلى ذلك، سواء تعلق الأمر بالصوائت أو بالصوامت. - صوت الشفا Schwa أولا - ومن بين الصوائت الهامة في اللغة الأمازيغية نجد صوت "الشفا" الذي ُيَرْمُزُ إليه الIAP بالرمز:[∂] والذي لا يوجد في اللغة العربية.L'alphabet phonétique international وأهمية هذا الصائت تكمن ليس فقط في تميزه عن باقي الأصوات الصائتة، ولكن أيضا في الأدوار النحوية التي يقوم بها في الجملة الأمازيغية.مثلا: الكلمة المؤنثة تبدأ ب:[at] ، تتحول إلى [t∂] في حالة الإلحاق، كأن يكون للكلمة دور "الفاعل" في الجملة. مثلا : "ذَهَبَت المرأةُ"أو"الكبيرةُ":[ġ=غ]: وهنا فإن "الشفا" مؤشر نحوي دال على دور "الفاعل"، (]T∂dda t∂mġart[ ← ]tamġart[ كما هو الأمر بالنسبة ل [a] الذي يتحول إلى [u] في دور "الفاعل" بالنسبة لكلمة "مذكر"، مثل: urğaz ←arğaz أو مؤشر دال على حالة الإلحاق بشكل عام ، كالإضافة أو غيرها. هذا الصائت ليس هو a ولا i ولا o ، بل هو صائت محايد، ولا يمكن أن ينوب عنه ما يسمى "السكون" إذا كتبناه باللغة العربية؛ لأن السكون أساسا هو "عدم وجود أي صوت "صائت" بعد صوت "صامت"، في حين أن "الشفا" هو"صوت صائت محايد"، بمعنى neutre وليس غائبا. في النحو العربي،هناك مشكل قد يكون معرفيا. نقول مثلا: إن الحرف "ج" مسكونٌ أو مجرورٌ أو منصوبٌ أو مضمومٌ، في حين أن هذا الحرف في الواقع ما هو ب(المسكون ولا المجرور ولا غيرذلك)، وإنما هو متبوع ب (0) صائت، أو ب: (i،o،a أو ∂)، أو صائت آخر. وهذا دون إغفال التأثيرات المتبادلة بين الأصوات المتجاورة. في جملة مثل (ماذا فعلتَ في هذه القضية؟)، نقول بالأمازيغية: mad tessekert ge tmek ̆rist adġ نجد من بين 8 صوائت 5 "شفات"، وقد نجد أقل أو أكثر في سياقات صوتية أخرى، لكنه يبقى هو الأكثر تداولا في الأمازيغية، وبالتالي لا إمكانية للتغاضي عنه بأي شكل من الأشكال إلا إذا كان ذلك على حساب جودة الكتابة. وإذا كتبنا نفس الجملة بالعربية فسنجد: "مَدْ تْسْكْرْتْ كَْ تْمْكْرِسْتْ أَدّْغْ"، بمعنى 10 سُكُونَاتٍ (جمع سكون) متتالية، أي 10 صوامت لا يتخللها أي صائت، ومن المستحيل علميا أن نجد أكثر من صامتين متتاليين. مثل آخر: Ared'd iddu التي تعني: "إلى أن يأتي" إن كتبناها بالعربية (أَرْدّْ إِدو) فقد تُحِيلُنا على العكس تماما: (إلى أن يذهب) Ard iddu وذلك بسبب عدم وضوح موقع الشفا في الجملة. ثانيا- التفخيم: كلمة (إجَّا ažži) - دون تفخيم صوت (الجيم)- تعني (تنبعث منه رائحة طيبة). أما إذا فخمناها (a̦ž̦ži)، فسيصبح المعنى هو العكس تماما: (رائحته كريهة). مما يدل على أن التفخيم في اللغة الأمازيغية له وظائف فارقة ومختلفة بالمقارنة مع اللغات الأخرى. تُرى كيف سنحل هذه الإشكالية إذا اعتمدنا الحرف العربي؟ مع العلم أن الIAP تشير إلى هذه العلامة الفارقة بوضع نقطة تحت الصوت الصامت المفخم. La bilabialisation ثالثا- وتعني تمديد الشفتين نحو الأمام على شكل O عند نطق بعض الصوامت. وهذا أيضا له وظيفة هامة، وقد يتغير المعنى إذا لم نأخذه بعين الإعتبار: وتعني: "هي تفعل". da ttegga - وتعني: "هي تعجن". da tt ̆egg ̆a- وهذه إشكالية أخرى قد يجد لها دعاة استعمال الحرف العربي لكتابة اللغة الأمازيغية حلا. أما الحرف الأمازيغي فيضيف رمز (u)مصغر إلى أعلى يمين الصوت المعني. رابعا – صوت g: يَرمُز من يَكتُب بالعربية إلى ما يسمونه (الجيم المصرية) أحيانا ب"غ"، أو "ج" وأحيانا أخرى ب"ق" أو "ك" (بإضافة ثلاث نقط فوقه أو فتحة مطولة). أما بالنسبة للأمازيغية فهذه كلها أصوات مختلفة، ولكل واحد منها حرف يرمز إليه. فكيف سنفرق بين هذه الأصوات إن استعملنا الحرف العربي خاصة إذا كانت كلها متواجدة في نفس السياق؟ خاتمة: لا يمكن للحروف اللاتينية في نظرنا المتواضع أن تعكس أصوات اللغة الأمازيغية إلا إذا أضافت بعضَ الرموز الخاصة بهذه اللغة إلى رموزها، وتبنت قواعد الأبجدية العالمية في الكتابة، بحيث لا يُكتب إلا ما يُنطق، والعكس غير صحيح بالضرورة. وهذا يمكن أن يُفسَّر بالرجوع إلى القواعد المشتركة، الظاهرة ليس فقط من حيث تشابه الأصوات والضوابط النحوية، ولكن أيضا من حيث تشابه الحروف المستعملة منذ القديم. أما الحرف العربي دون تعديل فاستعماله بنجاح يدخل في باب المستحيلات، إذا أخذنا بعين الإعتبار الملاحظات السابقة. وفوق هذا وذاك، فهاهو الحرف الذي يناسبها بجميع المقاييس لأنه أدرى بشعابها، دون الحاجة إلى غيره. طبعا، إذا كان الهدف الأول والأخير هو الجودة على مستوى التواصل. ختام لا بد منه بالإقتصار فقط على هذه الملاحظات السابقة –وهي جوهرية إن كانت الغاية هي الجودة-، سنظل نسائل المثقف والباحث والمؤرخ والأكاديمي كل في مجال اختصاصه. ولْتعَْمَ كل الخلفيات إن كانت الأماميات تقوم بالدور المنوط بها. ونسائل اللساني على الخصوص: - هل سنُسقط الشفا والتفخيم وصوت g وتدوير الشفتين ... فقط لأن هناك من يريد ذلك ؟ أم أن هناك تفسيرا آخرلإسقاطها؟ - أم سيجتهد البعض في إملاء اللغة العربية بإضافة رموز أخرى حتى يتناسب حرفها مع اللغة الأمازيغية؟ - إذا أسقطنا تلك المميزات من الكتابة، فكم من جهد سيتطلب التواصل –كتابة- بين مستعملي هذه اللغة؟ لا نعتقد بأن المدافعين عن القومية العربية على الأقل منذ ال60يات أو من يؤمنون ب"قدسية" اللغة العربية سيقبلون بمراجعة كتابة الحرف العربي. لأنه -من منظور خاص- لا يمكن للعربية أن تتنازل عن كونها "لغة القرآن ولغة أهل الجنة"، . ولا نعتقد بأن اللسانيين سينكرون الأخطاء التي عرفتها أغلب (أو كل) اللغات التي مرت إلى مرحلة الكتابة قبل تطور علم الصوتيات بما في ذلك اللغة العربية. ولكن حمل قبعة "الأكاديمية" تكليف قبل أن تكون تشريفا. وقيمة النص في ذاته وليس في كاتبه. * أستاذ الفرنسية بالسلك الثاني، مهتم باللسانيات.