الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    المندوبية السامية للتخطيط تتحدث عن الأسعار خلال سنة 2024    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    الكويت تعلن عن اكتشاف نفطي كبير    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    إحباط محاولة تهريب 9 أطنان و800 كلغ من مخدر الشيرا وتوقيف ستة مشتبه فيهم    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تيفيناغ : التاريخ و المستقبل
نشر في اشتوكة بريس يوم 09 - 08 - 2012

غالبا ما يتم تناول أبجدية تيفيناغ من الزاوية السياسية الايديولوجية وتصبح بذلك عرضة للسباب والشتم ولمواقف سياسوية براغماتية ضيقة ، ونادرا ما يتم تناولها من الزاوية العلمية والتاريخية و الأكاديمية. هذا المقال يسعى إلى تسليط الضوء على الزاوية التاريخية والعلمية من خلال محورين :" تيفيناغ والتاريخ " وسنعمل على ابراز الشرعية التاريخية لهذه الكتابة التي تعد من أقدم الانظمة الصوتية التي عرفها الانسان من خلال تبيان مجموعة من المعطيات المستقاة من الدراسات و الابحاث التي أنجزت في هذا المجال ، في حين سنتناول في المحور الثاني " تيفيناغ و المستقبل": الابعاد الدلالية والرهانات المستقبلية لتيفيناغ.
وقبل تناول المحورين كان من الضروري التذكير بأن تناولنا لهذا الموضوع لا يعني بالضرورة إعادة فتح النقاش حول مسألة حسم فيها منذ 2003 بقرار رسمي ونالت سنة 2004 اعترافا دوليا ISO - Unicode ، بقدر ما نسعى إلى اعتماد مقاربة علمية تدحض نوايا بعض الأقلام التي ما فتئت تصنع الاوهام وتهول من شأن تيفيناغ في كتاباتها بدعوى انها ستعزل الامازيغية وستضع الحواجز لمن يريد تعلمها، قول هؤلاء – عن وعي أو عن غير قصد - يندرج ضمن مخطط استمرار طمس حقيقة الامازيغية وكتابتها العريقة ومساعيهم الحثيثة للحفاظ على الوضع كما كان، أي سيادة الأُحادية. الذين ينادون بأن الخط الآرمي (العربي) هو الانسب لكتابة الامازيغية نداؤهم في حقيقة الامر لا يتجاوز لسانهم، فحتى الآن لم نرى لهم أي انتاجات ابداعية او فكرية أمازيغية ولو بالحرف "العربي" مع العلم انه لا يوجد قانون يجبر الكاتب أو المبدع على اعتماد حرف معين وهو ما يفسر ان نداءاتهم لا تتجاوز التشويش و العرقلة، ومن الجانب البيداغوجي والديداكتيكي يعتبر حرف تيفيناغ الانسب و الاكثر ملائمة للغة الامازيغية لِما يقدمه من خصوصيات لا نجدها في الابجديات الأخرى (وسنورد امثلة على ذلك في المحور الثاني).
تيفيناغ و التاريخ:
منذ القدم والأمازيغية لها كتابتها الخاصة التي تتميز بطبيعتها كلغة صوامت ساكنة ( nature alphabétique consonantique). ولا تزال هذه الكتابة تستعمل من جيل إلى جيل من طرف أمازيغ الصحراء الطوارق ( ايموهاغ) الذين يسمونها بتيفيناغ، وبهذه الألفبائية خطّت مجموعة من النقوش القديمة التي يقال لها "الليبية - الأمازيغية" المنتشرة في كل أرجاء شمال افريقيا و الصحراء: من حوض البحر الابيض المتوسط إلى جنوب النيجر ومن جزر الكناري إلى الحدود الغربية لمصر. ويقترن انتشار حرف تيفيناغ بالمجال التاريخي الذي عرف انتشار اللغة الأمازيغية. وتتميز تلك النقوش بكون غالبيتها احادية اللغة (الامازيغية) في حين يتميز بعضها الآخر-وهي معدودة على رؤوس الأصابع- باعتمادها على الثنائية اللغوية : الامازيغية – البونيقية، أو الامازيغية – اللاتينية.
في إطار ألفبائية تيفيناغ، غالبا ما يتم العودة في الادبيات التاريخية إلى مصطلحين : "تيفيناغ" و "الليبية" (libyque) وغالبا ما يستعملان كاصطلاحين مترادفين ، مما يجعل هذه التسميات في حاجة إلى بعض التوضيحات لتحديد كل مصطلح على حدى:
"تيفيناغ" - شانها شأن كلمة "تيرّا"- تطلق على رمز أو الرموز الخطية للكتابة الأمازيغية. وظهور تيفيناغ في صيغة الجمْع من جهة يفسر بالرجوع إلى طبيعة الكلمة المكونة من مجموعة من الحروف ، ومن جهة آخرى يرجع إلى التنويعات التي تعرفها ألفبائية تيفيناغ على امتداد شمال افريقيا و الصحراء. فتيفيناغ تعني ذلك النظام الألفبائي الذي تم اعتماده منذ ما قبل التاريخ من طرف أمازيغ جنوب الجزائر و أمازيغ مالي و النيجر، كما تعني كذلك أحد تنويعات نفس النظام الألفبائي المستعملة حاليا لدى الطوارق. خلاصة القول تيفيناغ تعني الكتابة التي تستعمل الرموز الامازيغية بغض النظر عن أنواعها: تيفيناغ الشرقية، الغربية، الصحراوية و الطوارقية ( سنتناولها في الفقرات الموالية من هذا المقال).
"الليبية" مشتقة من اسم ليبيا الذي يعني افريقيا لدى الإغريق، والليبيون هم سكان افريقيا أجداد الامازيغ. من نفس الجذر اشتقّت كلمة " الليبو" التي كان المصريون القدامى يطلقونها على جيرانهم الأمازيغ. من خلال الابحاث و الدراسات التي تناولت النقوش القديمة، مصطلح الليبية يطلق على الالفبائيات الامازيغية المتنوعة التي عرفت تطورا في شمال افريقيا. والكتابات القديمة التي تم العثور عليها في هذا المجال تسمى بالكتابات "الليبية – الامازيغية."
تمكن دارسو تيفيناغ (Faidherbe, 1870 ; Chabot, 1933 ; Marcy, 1936 ; Galand, 1966 ; Camps, 1996 ; etc.) من الاتفاق على وحدة الليبية – تيفيناغ كنظام للكتابة خاص باللغة الامازيغية، واعتبروا كذلك أن ثلاث تنويعات من هذا الخط تعايشت فيما بينها منذ القدم وشكّلت الأوجه المختلفة لكتابة تيفيناغ ، يتعلق الامر بالانواع التالية: تيفيناغ الشرقية، الغربية و الصحراوية القديمة. هذا التصنيف يفسَّر من خلال بعدين أساسين:
الليبية – تيفيناغ تتميز بتعدد أنواعها التي تختلف من حيث عدد حروفها وتعدد جرس بعض أصواتها بسبب العامل الجغرافي.
الاستقلالية التاريخية للأقاليم و الجهات التي تستعمل فيها إحدى هذه الانواع.
وفيما يلي أبرز الخصائص التي يتميز بها كل نوع من انواع تيفيناغ و المناطق التي تعرف وجوده:
النوع الشرقي لتيفيناغ: يتواجد هذا النوع بشمال تونس و الجهة الشرقية للجزائر، وتعتبر هاتان المنطقتان من أكثر المناطق التي عرفت ظهور الكتابات الليبية- الامازيغية القديمة، فهما منطقتان تنتميان إلى مملكة نوميديا التي اشتهرت بازدهار اللغة و الكتابة الامازيغيتين – بل وإصدار عملة نقدية تحمل الكتابة الامازيغية- وتعايشهما مع الحضارات الأجنبية. أولى تلك الكتابات تم اكتشافها سنة 1603 وكانت ثنائية اللغة "امازيغية- بونيقية" ثم اكتشافها بقبر الملك الامازيغي ماسينيسا بدوكّا ( Dougga). قرنان بعد ذلك سيأتي القنصل الانكليزي في تونس (Thomas Reade) ليقوم بأخذها إلى بريطانيا، بعد مماته تم وضعها بالمتحف البريطاني (انظر: شابو(Chabot)، 1933: 145-146). ثاني تلك الكتابات لم يتم اكتشافها الا في سنة 1904 ودائما بقبر ماسينسا بدوكّا بتونس. القيمة التاريخية لتلك الكتابات الليبية الامازيغية الشرقية أثارت انتباه مجموعة من الباحثين منذ بداية تيفيناغولوجيا (علم التيفيناغ) في نهاية القرن التاسع عشر. ونتيجةُ ذلك تتجلى في كون النوع الشرقي لتيفيناغ يعتبر من بين أكثر الانواع دراسة و تداولا، وقد تم حصر حروف هذا النوع في 23 حرفا بفضل لوحة دوكّا المكتوبة باللغتين (الامازيغية - البونيقية).
النوع الغربي لتيفيناغ: هذا النوع يتواجد بالمغرب و الجهة الغربية للجزائر، وتشكل الكتابات التي عثر عليها في المواقع التالية: ليكسوس، تامودا ووليلي الأكثر دراسة وتدوالا نظرا لكتابتها بلغتين: الامازيغية - البونيقية، ثم الامازيغية – اللاتينية. في المغرب يتواجد العديد من المواقع التي تم العثور فيها على ازيد من ثلاثمائة (300) لوحة منقوشة بالليبية الامازيغية (أنظر: مارسي، 1932 – كالون، 1966 – سكونتي وآخرين ، 2001)، هذه المواقع هي: ليكسوس، تامودا، عين جمعة، تيكريكرا (قرب أزرو)، وليلي ونواحيها، راس بيكفريون (قرب تيفلت)، ياكور بأوريكا وأوكيمدن، وارامْدَاز بإغرم (تارودانت)، تيسّرفين بفكيك، بن كركور (الراشيدية)، أوسّيكيس بأمسمرير (ورزازات)، فم الشنّا بتينزولين، إيفران ن تازكا بزاكورة، مسكاوا بأقّا (طاطا)، لجواد و الشايف ولد عاتيا بأوسرد، لومات الاصلي بالسمارة...إلخ.
النوع الغربي لتيفيناغ يتميز بما يلي: عدد الحروف التي يتكون منها أكبر من عدد حروف النوع الشرقي لتيفيناغ، يحمل في طياته عدد من التنويعات و يمتد على رقعة جغرافية شاسعة ويتشابه إلى حد كبير من النوع الصحراوي.
النوع الصحراوي لتيفيناغ: هذا النوع يغطي مساحة جغرافية شاسعة: جنوب الجزائر، مالي، النيجر و ليبيا، العديد من الكتابات تم اكتشافها ب:تاسيلي، الهكّار، أدرار ن ءيفوغاس، أدرار أهنيت، أيير، بوناجم بطرابلس، جرمة بفزان...إلخ.
يرى الباحث Henri Lhote (1984) ان هذا النوع ينقسم إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تعتبر الاقدم ظهرت في مرحلة الفرسيات caballin (قبل ظهور الجمل بالصحراء) إلى جانب النقوش الصخرية التي تحمل صور الخيول والفرسان، هذا النوع من تيفيناغ يصعب فك رموزه. المجموعة الثانية تتكون من رموز تعتبر الأقدم على الإطلاق والقريبة من حروف تيفيناغ الحالية، والطوارق –دون غيرهم- يتوصلون إلى قراءتها و فهمها. تيفيناغ هذه المجموعة تنتمي إلى مرحلة ظهور الجمل بالصحراء. المجموعة الثالثة تتكون من أنواع تيفيناغ الحالية التي يستعملها الطوارق من جيل إلى جيل إلى يومنا هذا. بالاضافة إلى هذه المجموعات التي حددها الباحث Henri Lhote ترى الباحثة الاركيولوجية مليكة حشيد (2001) أن هناك مجموعة رابعة تعتبر الاقدم تعود إلى ظهور اولى رموز الكتابة الليبية في الصحراء الكبرى، تلك الرموز مرتبطة بالانسان الامازيغي القديم في سياق تعايشه مع الحيوانات في حقبة ظهور الزرافة بتاسيلي بالجزائر. وترجع الباحثة حشيد تعدد أنواع تيفيناغ الصحراوية إلى التاريخ بفتراته المختلفة وإلى الجغرافيا بتعدد المناطق.
هذا التصنيف لأنواع تيفيناغ ساهم في تحديد المناطق الجغرافيا التي ينتشر فيها تيفيناغ و في ابراز الخصوصيات المحلية من خلال المعطيات الجغرافية و التاريخية و الاثنية.
التيفيناغولوجيون قدموا أبجدية تيفيناغ على شكل ثلاثة أنواع (أنظر الفقرة السابقة) التي تعتبر في حقيقة الامر الاوجه المختلفة لنفس الكتابة ، هذه الانواع الثلاثة تعكس التنويعات الصوتية لمختلف الفروع اللغوية الامازيغية عبر الزمن أو في فترات تاريخية محددة.
ابتداء من الستينيات (1960) ظهرت أنواع جديدة لتيفيناغ néo-tifinagheالتي شكلت تطورا تاريخيا وعلميا وطبيعيا لتيفيناغ التاريخية. الهدف من تطوير تيفيناغ العريقة يتجلى في تمكين اللغة الامازيغية من نظام أبجدي معياري يتناسب مع مختلف الفروع اللغوية الامازيغية الحالية. أولى المحاولات قامت بها الاكاديمية الامازيغية (أكراو إيمازيغن) في نهاية الستينيات 1960 حيث اعتمدت بالأساس على تيفيناغ الطوارقية باعتبار ان هذه الاخيرة عرفت اتصالا تاريخيا بدون انقطاع، وانتشرت néo-tifinaghe بشكل سريع في المغرب و الجزائر وعرفت منذ ذلك الحين إضافات وتقويمات؛ فبالإضافة إلى تفيناغ –أكراو ايمازيغن التي يرمز إليها ب: IA ظهرت التنويعات التالية:
Amazigh (ama), Tamazgh (tam), fus deg wfus (FF), Arabia Ware Benelux (Awb), Tifawt (Tif), Tasafut (tas), tamazight (taz), Tamagit (tag), Tawiza (taw), Agadir o'flla (agof).
تتميز هذه التنويعات باعتمادها على المعطى التاريخي في التطوير والارتقاء وحافظت على جل الحروف المعروفة في تيفيناغ التاريخية و عملت على تعديل و تقويم بعضها لتتلائم مع خصوصية الفروع اللغوية الأمازيغية الحالية، وتتميز هذه التنويعات –من بين مميزاتها- في اعتماد بعضها على الحروف المفخمة والمشفّهة في حين استغنى عنها البعض الآخر. لا يسع المقام لذكر كل التفاصيل بخصوص هذه التنويعات التي عرفها نيو-تيفيناغ والتي تتقارب فيما بينها بشكل كبير وتختلف في بعض الجزئيات الصغيرة، لكن الهدف كان هو رسم كرونولوجية هذه الابجدية الألفية (alphabet millénaire) التي ساهمت من خلال الزمان و المكان في تغيير التعبير الكتابي للامازيغية وأسست لتعديلات وتقويمات للشكل الهندسي للحروف شأنها في ذلك شأن كل اللغات العالمية الحية.
تيفيناغ و المستقبل:
انطلاقا من هذا الإرث التاريخي القديم و المعاصر لأبجدية تيفيناغ تمت معيرة وتقعيد تيفيناغ-يركام الحالية من خلال الاستمرارية التاريخية وتحليل المعطيات اللسانية الامازيغية ومختلف الأشكال الخطية الامازيغية -التي استعرضناها آنفا- اعتمادا على مبادئ أربعة وهي:
الاساس التاريخي للحرف (L'historicité): بمقتضى هذا المبدأ فحروف تيفيناغ الحالية هي حروف تاريخية أصيلة تنتمي إلى الكتابة الأمازيغية العريقة، بمعنى الاحتفاظ برابط قوي مع مختلف أوجه الفبائية تيفيناغ التاريخية والحالية.
بساطة رسم الحرف (La simplicité): الاشكال الخطية لحرف تيفيناغ تتميز بالبساطة و السهولة في الرسم، بمعنى لا رموز إضافية ولا إلى حروف مركبة أو حروف تنطق حسب سياقها التركيبي.
عدم التباس قيمة الحرف (L'univocité du signe): لكل صوت يقابله حرف : كل ما ينطق يكتب مما يسهّل أنشطة القراءة و الكتابة، في اللغة الفرنسية مثلا هناك حروف مركبة (ch) يستعان بها للتعبير عن صوت معين (ش) وتنطق بطريقة ازدواجية تارة (ش) وتارة (ك).
الاقتصادية العامة (L'économie) : بمقتضى هذا المبدأ تم الاعتماد فقط على الحروف التي تتطابق مع الفونيمات الاساسية للغة الأمازيغية .
شكلت معيرة و تقعيد أبجدية تيفيناغ الحالية انجازا ايجابيا و فتح باب المستقبل لهذا الحرف العريق من خلال ولوجه للعالم التربوي و الاعلامي واعتماده حرفا رسميا للغة الأمازيغية. ولوجه لعالم التكنولوجيا و المعلوميات شكّل كذلك مكسبا تاريخيا لا يمكن الاستهانة به نظرا لما يوفره من فرص ادماجه في الوسائل التكنولوجية والتقنية ومسايرة متطلبات العولمة. وبعد أن كانت أبجدية تيفيناغ في العقود الماضية تهمة لمن يتبناها في الكتابة (المحامي حسن إدبلقاسم الذي كتب لافتة مكتبه بتيفيناغ، جمعية تيللي التي رفعت لافتات مكتوبة بتيفيناغ في عيد الشغل سنة 1994 ...) أصبحت اليوم افتخارا لكل المغاربة بدون استثناء بفضل تضحيات المجتمع المدني الامازيغي ونضاله المستمر والقوى الديمقراطية الوطنية و ثلة من الاساتذة الذين سخروا كفاءاتهم العلمية و الأكاديمية في سبيل تحقيق هذا المكسب الوطني و التاريخي الهام.
تيفيناغ يتجاوز الخط الشكلي لحروفه إلى ما هو أعمق : فبعد ما فرضت تيفيناغ نفسها من خلال الهندسة المعمارية الامازيغية الأصيلة وفي فن النسيج والوشم وصناعة الفخار و الحرف التقليدية ..إلخ على مر العصور، جاء الدور على واجهات المحلات التجارية والهيئات الغير حكومية و بعض المؤسسات الرسمية والمهرجانات الوطنية والجمعيات التنموية التي انخرطت في العمل على خلق أنشطة تهم النهوض بالأمازيغية بعد أن كانت فيما مضى تهتم بالبنيات التحتية ، وفي المجال الاقتصادي و المالي أصبحنا نرى تقارير بنكية بالأمازيغية (BMCE Bank نموذجا) ...إلخ مما يفسر سرعة العودة والتصالح مع الذات. الادماج الحقيقي للأمازيغية في الحياة العامة سيساهم بداية في إعطاء الانطباع أن للمغرب لغتان تتعايشان فيما بينهما في ظل المساواة ، وإن كانت هذه الأخيرة لم تتحقق بعد نظرا للشرود الذي تعيش فيه بعض العقليات والمؤسسات على حد سواء نتيجة تمسكها بماضي اللامساواة و الأُحادِية وبراثين الفكر القومي العربي، وثانيا في ترسيخ تلك المساواة على أرض الواقع من خلال المدرسة و الاعلام و الإدارات والفضاءات العمومية و الخاصة.
وتعرف وثيرة انتشار أبجدية تيفيناغ تطورا مستمرا بين أبناء الوطن وداخل المؤسسات و الفضاءات الوطنية و الجهوية مما عزّز حضورها الدائم على مستوى الهوية البصرية التي ستشكل للمواطن –كما للأجنبي- صورة عن عراقة هذا الوطن وانتمائه الحضاري العميق، واعتمادها كذلك في علامات التشوير و الطرق سيزيد من فهم أسماء الطوبونيمية وقراءتها جيدا واستيعاب مضمونها بسهولة –وبالتالي معرفة من نكون؟ - بحيث ان أبجدية تيفيناغ تتضمن حروفا وخصوصيات صوتية لا تتوفر في الابجديات الأخرى كالحروف المشفّهة والمفخمة وكمثال على ذلك نعطي ما يلي:
ءيزي – ءيزي : الكلمة الأولى بزاي مفخمة (ẓ) وتعني "المرارة" ، الكلمة الثانية بزاي مرققة (z) وتعني "الذبابة".
ءيكْلَا – ءيكْلَا: الكلمة الأولى بكاف مشفّهة ( (kwوتعني "صَبَغَ ، لَوَّن" ، الكلمة الثانية بكاف عادية (k) و تعني " اسْتراح و أخذ انفاسه".
كتابة هذه الكلمات بتيفناغ لا يشكل أية صعوبة للقارئ - عكس ما نلاحظ بالخط "العربي" - لأنها تحتوي على الحروف المشفهة والمفخمة وغيرها التي تجسد الخصوصية الامازيغية.
فيما مضى شكلت الفرنسية ضرورة قصوى في الوثائق الرسمية (بطاقة التعريف الوطنية ، الحالة المدنية....إلخ) نظرا للفراغ الذي كانت تملأه بسبب عجز العربية في كتابة بعض الاسماء التي تتضمن حروفا لا يتوفر عليها نظامها الأبجدي، وغالبا ما يتم اللجوء إلى الفرنسية لقراءة الاسم بشكل صحيح، وقد عايشنا مجموعة من الحالات خلال مشوارنا الدراسي وسنورد مثالا على ذلك: صديق لي كان اسمه العائلي أكرام (Agrram) وغالبا ما ينادى عليه بأكرام (Akram) وبين الاسمين فرق شاسع، صديق أخر كان يحمل إسم تكساس (Tigsasse) وغالبا ما يُربَط إسمه بالولايات المتحدة الأمريكية (tiksas) في سخرية وتهكم شديدين. اعتماد تيفيناغ في الوثائق الرسمية له ما يبرره وسيحافظ على أصالة الاسماء العائلية المغربية ويشكل كذلك أحد المبررات التي ستدحض مزاعم دعاة الفرانكفونية.
ويبقى المجال التعليمي من أول الاولويات الذي سيساهم لا محالة في تأصيل الانتماء الوطني وتثمين الممتلكات الرمزية الوطنية وذلك باعتبار أن حاضر ومستقبل الامازيغية سيكون أكثر ما هو ماض.
خالد أوبلا
طالب بماستر اللغة و الثقافة الامازيغيتين
جامعة محمد الخامس أكدال – الرباط
[email protected]
المراجع:
أعشي، مصطفى (2002): "جذور الكتابة الأمازيغية" من أجل ترسيم أبجدية تيفيناغ لتدريس الأمازيغية ، منشورات، AMREC، الرباط، ص. 09-32.
المجاهد، الحسين (1995): "تيفيناغ" معلمة المغرب، مطبعة سلا، ص. 2724-2726.
Ameur,M. et all.(2006), Graphie et orthographe de l'amazighe, Publication de l'IRCAM, Elmaârif al Jadida, Rabat.
Camps, G.(1996), « Ecriture Libyque », in Encyclopédie berbère, tome 17 , Edisud, Aix-en-Province , p.2564-2573.
Galand, L. (1966), Inscriptions antiques du Maroc, Paris : CNRS .
Hchid, M.(2001), Les premiers Berbères. Entre Méditerranée, Tassili et Nil, Edisud/Ina Yas, Aix-en-province/Alger .
Marcy, G. (1936), les inscriptions libyques bilingues de l'Afrique du Nord, Impr. Nationale, paris.
....................


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.