يبدو أن قوارب الموت لم تعد الوسيلة الوحيدة التي يستعملها الشباب المغاربة للعبور إلى الفردوس الأوروبي، بل أصبح الكثير منهم يأخذ وجهة جديدة بعدما يتبخر حلمه ويسقط ضحية على عرض الشواطئ أو يفشل في الوصول إلى إيجاد مكان في بلد من بلدان أوروبا. الوجه الجديدة هي روسيا التي أضحت الهجرة فيها تأخذ لونا جديدا. روسيا اليوم تحولت إلى حلم بديل يعوض الرغبة في بلوغ فضاء أوروبا الغربية. فالأرقام الرسمية تقول، إن 5 ملايين من الأجانب والأشخاص الذين لا يتوفرون على جنسية يقيمون في أراضي روسيا بصورة غير شرعية. وطبقا لمعطيات جهاز حرس الحدود الروسي يدخل أراضي روسيا بصورة رسمية سنويا أكثر من 21 مليون شخص، ويتوجه جزء منهم فيما بعد، إلى بلدان أوروبا وآسيا بينما يبقى قسم آخر في روسيا. "" و تعود أسباب هذه الظاهرة حسب الرواية الروسية، إلى الرغبة في إضفاء "الطابع الليبرالي المفرط" على سياسة الدولة في مجال الهجرة. هجرة المغاربة غير الشرعية إلى روسيا، تختزلها حكاية عدد من الشباب المغاربة، أتوا إلى موسكو من أجل الاستقرار و العمل فأصبحوا، إما مهددين بالإقامة غير الشرعية في بلد لا يفتح فرص العمل للأجانب إلا نادرا، أو دخلوا عالم الهجرة غير الشرعية. فكيف وصل هؤلاء الشباب إلى موسكو ؟ وما هو مستقبلهم في روسيا ؟ عندما تصبح الغاية تبرر الوسيلة الوصول إلى خيوط حكاية شبان مغاربة مرشحين للهجرة غير الشرعية في موسكو ، لم تكن مهمة سهلة. فمكانهم و زمان وصولهم و كيف يقضون يومهم لا يعرفه سوى من ساعدهم على الدخول إلى الأراضي الروسية. الأمر يتعلق بشاب مغربي يتقاضى مبالغ مالية معينة لتهجير المغاربة إلى بلد الصقيع. عندما وصلني الخبر، قمت بالاتصالات اللازمة في مثل هذه القضايا، أخذت وقتي الكافي فتفاعلات هذا الملف مستمرة وحابلة بالجديد. رافقت رشيد (رجل أعمال مغربي يعيش في موسكو منذ عقد من الزمن) ، إلى حين عثرنا على عبدالرحمان المعروف باسم الصحراوي . شاب مغربي و أحد أبناء مدينة الرشيدية ، ويقوم بعملية تهجير الشباب المغاربة إلى موسكو. لقاءي بهذا الشاب تم بوساطة شخص مغربي آخر، قيل لي أنه يزور هؤلاء الشباب المغاربة في غرفتهم التي تضم 12 شخصا ويقدم لهم المساعدة. لم يرغب عبدالرحمان في التحدث إلينا ، وهذا مفهوم في سياق كل القضية، لكن بعد سلسلة من النقاشات وتفاوض عسير، جلسنا في المقهى . كنت أنتظر أن يبدأ كلامه بعبارات وقحة. تفوه بعبارات فيه عنف وسخط على المغرب. أحيانا كان يوجه إلي سهام النقد و أحيانا أخرى لرفيقي رشيد. فهو لا يريد أن يتحدث للصحافة، بل قالها وبالواضح: ما شأن الصحافة بأموري ... أنا أساعد أولاد بلادي...! حاول رشيد الدخول مع عبدالرحمان في جدل حول قضية المغاربة الإثني عشر، المكدسين في مكان نجهله ، يقول عنه من ساعدهم على الهجرة ، إنه قام بكرائه لفائدة هؤلاء الشباب. رشيد كان يريد الوصول إلى حل مع الصحراوي لإخراج هؤلاء الشباب من الحصار الذي يعيشونه ،و حالهم الذي سيكون أفضع بعد نهاية صلاحية التأشيرة التي حصلوا عليها في سفارة روسيا في الرباط . المهمة ليست بالسهلة و خيوط القضية أكبر مما نتصور. الصحراوي لا يريد منا أن نصل إلى هؤلاء الشباب للتحدث معهم ، بل رفض الإدلاء بأية معلومة . لكن كيف دخلوا هؤلاء إلى التراب الروسي ؟ و ما حكاية التأشيرة التي حصلوا عليها في الرباط؟ يعرف القاطنون في روسيا ، بأن إمكانية استقدام المغاربة إلى بلد لينين ، تعد عملية سهلة ، تتم عن طريق شركات تسلم دعوات خاصة مقابل مبلغ مالي معين، وبموجبها يحصل الزائر على تأشيرة لمدة تقارب العام . فهناك من يجلب العمالة المغربية كالخادمات في البيوت مثلا، و هناك من يستقدم عمالا حرفيين أو مهاجرين....مرشحين للهجرة غير الشرعية، في بلد لا يمنح الإقامة بسهولة و شروط المراقبة الأمنية صارمة، بل حتى شروط العمل غير متوفرة بالشكل المعروف في أوروبا. هذه الشركات الروسية، تقوم بتسجيل الزائر المغربي الذي سيدخل إلى الأراضي الروسية، و تسلمه دعوة من أجل دراسة مشروع معين في روسيا مثلا أو لغرض آخر. العملية تظل حبرا على ورق، ولا ترتبط بالتزام، والغرض منها هو تحقيق هدف واحد: وصول الزائر إلى روسيا فقط. عبدالرحمان شاب مغربي ، يصرح أنه يتقاضى مبالغ من المهاجرين المغاربة ، و قالها لنا بلغة فيها نوع من الصرامة : والله لم أتقاضى أي مبلغ مالي من ثلاثة من المجموعة. هؤلاء شباب من مسقط رأسي أساعدهم عوض أن يظلوا عاطلين . فصول مسلسل الهجرة في روسيا غير واضحة المعالم ، فلجوء العديد إلى طريقة الدعوات التي تقدمها شركات روسية معينة ، يطرح أكثر من سؤال حول مستقبل المهاجر و ضماناته الصحية و الاجتماعية ، بل حول طبيعة العمل الذي يمارسه ما دام أن ما يسجل في هذه الدعوات لا يحترم . فلا يمكن استصدار عقد لاستقدام خادمة أو عامل..... وتظل الموجة الجديدة من المهاجرين المغاربة التي لا تعرف ظروف روسيا العامة ولا لغة البلد، تطرح أكثر من سؤال. انتهى اللقاء مع المدعو الصحراوي الذي تقول عنه مصادرنا، أن مسئولي السفارة يعرفونه من خلال تصريحه بضياع جواز سفره، قبل أن يدخل المغرب ليعود إلى روسيا بنفس الجواز، وهو أمر فيه الكثير من علامات الاستفهام! طلبة هاربون وعمال مختبئون في الأسواق لم أكن أتصور أن جلستي مع محمد. ب .( مهاجر مغربي منذ أكثر من 20 سنة في موسكو، حاصل على الجنسية الروسية)، ستكشف لي عن خيوط جديدة للهجرة غير الشرعية. الحوار الذي دار بيني و بين محمد رفع الستار عن حقائق المأساة التي يعيشها المغاربة في روسيا: محمد، قل لي سمعت أن هناك مغاربة في وضعية غير قانونية في روسيا أو في موسكو ؟ هناك الكثير من المهاجرين الحراكة ، اذهب إلى سوق تشركيس تجد العديد منهم ، لكن سأحكي لك عن شيئا آخر أكثر مرارة ! تفضل ؟ أربعة طلبة مغاربة هربوا من موسكو إلى سان بطرسبورغ و أعادتهم الشرطة الروسية إلى العاصمة، بعدها سيقومون بتنفيذ عملية هروب جديدة من موسكو إلى ايطاليا ، ليتم اعتقالهم في النهاية و ترحيلهم مكبلين بالأصفاد إلى المغرب . اسمح لي، متى وقع ذلك، ومن يكونوا هؤلاء الطلبة ؟ وقع ذلك العام الماضي، الطلبة الأربعة يدرسون اللغة الروسية في المغرب، أتوا رفقة أساتذتهم في الجامعة إلى موسكو. وككل عام في شهر يوليو يأتي بعض الطلبة المغاربة الذين بدأوا في تعلم اللغة الروسية إلى هذا البلد لإتقان اللغة، في إطار ما يسمى بالتبادل الثقافي و العلمي بين روسيا و المغرب. لكن لماذا في نظرك يتم هذا الهروب إلى روسيا ؟ أنا هنا منذ 20 عاما، أدخل للمغرب و أصاب بالوجع...لا أرتاح إلا عندما أعود إلى روسيا. ما السبب في هذا الإحساس ؟ بالنسبة للأطفال مثلا، في المغرب ليس هناك تطبيب و تغطية اجتماعية و صحية و تعليم.... أما في روسيا فهذا متوفر !!! فصاحة الجواب و بلاغة التعبير عند محمد .ب . كانت كافية للرد على سؤالي . عدت إلى حكاية سوق تشركيس ، السوق المليء بالمتاعب المغربية . سألت محمد مرة أخرى عن تفاصيل الواقع المغربي هناك. رد علي ببساطة مرة و كأن القضية تعد أمرا مألوفا في موسكو: هناك العديد من المغاربة في ذلك السوق ، فهم دون وثائق ... وهل يمكن للمغاربة أن يعيشوا في روسيا في وضعية غير قانونية ؟ لا يمكن لهم أن يعيشوا هنا. المغربي الذي لا يعرف اللغة و يقدم هنا للعمل و العيش يظل رهين التسكع والكحول وأمور أخرى....فمثلا، هناك مغربي أعرفه كان يقطن بالقرب من بيتي، وانتقل للسكن في غابة، لأنه لا يتوفر على سكن قار وهو في وضعية غير قانونية. لكني لم أعد أراه منذ تلك اللحظة....! كلام محمد يفتح شهيتي لمعرفة المزيد حول أخطبوط هجرة المغاربة إلى روسيا . نصحني محمد بالتوجه إلى حلاق مغربي يعمل في سوق تشركيس الذي دخلته مرتين لأكتشف علامات العمال المغاربة في وضعية غير شرعية. هذا الفضاء يبدو أنه يخفي الكثير من الأسرار. فوضى في التنظيم، و وجوه ترتسم عليها لغة المعاناة. لم أتوقف عند أسوار السوق . اخترقت دروب المكان الضيقة رفقة صديق يعرف مقالب هذا المكان. الكثير يرفض أن يتحدث. حاولت أكثر من عشر مرات الاتصال بهذا الحلاق الذي يعمل في السوق، لكن وبعد سلسلة من فصول تهربه من لقاءي، فضل أن يقول لي على الهاتف و بالواضح: إن السوق لا يضم مغاربة بدون أوراق إقامة... أحسست وكأن هناك تواطئا غير معلن بين أولئك الذين تخيفهم الصحافة ، التي في رأيهم ، ستقطع أرزاق العديد ممن سيطلبون التأشيرة في السفارة الروسية في الرباط ن والمغاربة في وضعية غير شرعية . لقد قالها لي أحدهم، بعدما اتصل بي هاتفيا، و عبر لي عن أخبار وصلته من الرباط عن معاناة المغاربة مع التأشيرة في السفارة الروسية، و كأنه يريد أن يقول، إن تحقيق جريدة الصباح سيفجر قضية تحرم الخادمات في البيوت و بعض العمال و غيرهم من لقمة العيش في روسيا و العمل فيها. أجبته بلغة فيها الكثير من الهدوء: أولا ، جريدة الصباح لم تنشر بعد التحقيق الصحفي... وأنا لا يهمني هذا الأمر! كنت أود أن أسترسل في الكلام و أقول له، إن نشر تحقيق صحفي وحرمان قراء الجريدة و المغاربة الذين لهم الحق في معرفة ما يقع في روسيا، لا يجتمعان. لكن سرعان ما وصلت إلى خلاصة مفادها، أن التزام الصمت في زمن العجائب حكمة. في حوار مع الصحافية المغربية وفاء الضاوي الذين لم يحالفهم الحظ في الوصول إلى الحلم الموعود، ظلوا في روسيا، فمنهم من عمل في مطاعم ونوادي ليلية، ومنهم من ظل يتسكع في الشوارع ...! وفاء الضاوي من مواليد مدينة الدارالبيضاء عام 1972، حصلت على شهادة الباكالوريا عام 1991 في المغرب قبل أن تلتحق بروسيا و تحصل على شهادة الماجستير في الصحافة، ودرجة دكتوراه في علم اللغة من قسم الصحافة، في الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب في موسكو، قبل أن تلتحق كمراسلة بالقناة الروسية الناطقة باللغة العربية "روسيا اليوم". تستقبلها الصباح في هذا الحوار حول الهجرة و الإعلام العربي و العلاقة بين الشعب الروسي والمغاربة. س : كيف قدمت إلى روسيا و ما حكايتك مع الهجرة إلى هذا البلد ؟ في الأول من شهر سبتمبر عام 1993، حطت الطائرة التي كنت أقلها من المغرب في مطار موسكو... لم أكن أعرف لا اللغة ولا هذا البلد، وكانت أول مرة أبتعد فيها عن بلدي المغرب. لم ينتابني أي شعور بالارتباك، لأنني كنت نفسيا مستعدة لخوض تجربة الغربة. لا يمكنني القول ،إن مجيئي إلى روسيا كان ومحض الصدفة ، فقد أخذ معي الاستعداد إلى السفر أربعة أشهر، لكن اختيار روسيا لإتمام دراستي الجامعية كان صدفة... بعد حصولي على شهادة الباكالوريا ، لم تكن لدي الرغبة في إتمام دراستي في المغرب، بحثت طويلا عن السبيل لأخذ منحة إلى بلد فرونكوفوني، لكن كل محاولاتي والتي دامت سنة باءت بالفشل، كنت وقتها أدرس الأدب الإنجليزي في كلية عين الشق في الدار البيضاء، ورغم توفقي كانت فكرة الهجرة تلازمني. ويرجع ذلك لعوامل كثيرة. أحمد الله كثيرا، فعائلتي لم تبخل علي بإمدادي المال اللازم طيلة السنوات التي درستها في موسكو. س: تقول العديد من الأخبار أن موجة الهجرة السرية وصلت إلى روسيا، هل هذه الظاهرة وليدة اليوم ؟ بالفعل موجة الهجرة السرية وصلت إلى روسيا وهي ليست وليدة اليوم. أذكر جيدا أنه في سنة 1993 كان عدد المغاربة في جامعة الصداقة وحدها 180 شخصا، لم تكن الدراسة هدف الجميع، وقد تبين ذلك فيما بعد، لقد أتوا بتأشيرة دراسية، ودفعوا رسوم التسجيل في الجامعة لمدة ستة أشهر فقط، وذلك للحصول على الإقامة. كان من بينهم فلاحون وطباخون وحلاقون... وفعلا حصلوا آنذاك على تأشيرة الدخول إلى فرنسا، ومن تم منهم من قطع الحدود الفرنسية الإيطالية. أما بالنسبة لهؤلاء الذين لم يحالفهم الحظ في الوصول إلى الحلم الموعود، ظلوا في روسيا، فمنهم من عمل في مطاعم ونوادي ليلية، ومنهم من ظل يتسكع في الشوارع وليس معروفا إلى ما آل إليه مصيرهم لحد الآن!!! وشيئا فشيئا في أواخر التسعينات أصبحت تتلاشى هذه الظاهرة في روسيا. إلا أننا في الأيام الأخيرة أصبحنا نسمع أخبارا عن مهاجرين سريين وصلوا إلى موسكو. حقيقة، لا أعرف سبب مجيئهم إلى روسيا، مع العلم أن الحياة في العاصمة باهضة الثمن ، وفرصة العمل في روسيا قليلة جدا بالمقارنة ببعض البلدان الأوروبية الأخرى. س: كصحافية مهاجرة، كيف تنظرين إلى العمل الإعلامي العربي في روسيا ؟ العمل الإعلامي العربي في روسيا حاضر إلى حد ما بحكم العلاقات الروسية العربية، والدليل على ذلك عدد المكاتب التي تمثل مختلف القنوات التليفزيونية العربية ، بالإضافة إلى جرائد ومجلات تتوفر على مراسلين هنا في موسكو، كما تصدر جرائد ومجلات محلية باللغة العربية. وأريد أن أؤكد أن روسيا تلعب دورا محوريا في المنطقة ما يزيد اهتمام الإعلاميين الأجانب بشكل عام. س: ما وضعية المرأة المغربية في روسيا في الماضي و الحاضر ؟ المرأة المغربية في روسيا أتت من أجل الدراسة و الحصول على الشهادة الجامعية . هناك أمثلة عديدة، وإن كان عدد النساء اللواتي نجحن في مجال تخصصهن في روسيا وقررن الاستقرار في هذا البلد قليل. تحظى المرأة بشكل عام بالاحترام هنا في روسيا، والمرأة المغربية هي أيضا من ضمن هؤلاء النساء ما دامت تقدم عملا محترما. س: ما هي طبيعة العلاقة التي ينسجها الروس مع المغاربة ؟ المغاربة شعب منفتح... والشعب الروسي شعب شرقي، لذلك برأيي هنالك عوامل مشتركة بينهما، إذن فالعلاقة تكون عادة علاقة مودة وصداقة دائمة. وهنالك أمثلة كثيرة لمغاربة متزوجين من نساء روسيات يعشن في المغرب أو العكس واستطاع كل من الطرفين الاندماج في حياة الثاني بدون مشاكل. شخصيا أغلب صديقاتي روسيات، لم نضع لعلاقتنا حدودا سواء من حيث العادات أو الديانة أو الثقافة، المهم هو الاحترام المتبادل. عن جريدة الصباح المغربية عدد الاثنين 16 يونيو 2008