تعليمُنا اللُّغويّ - وليس هو وحده- مريضٌ جدًّا يَعرف مرضَه المُدرِّسون أكثر من غيرهم بفعل طُول مُعاناتهم وعُمق مُلابَستهم لمُشكلاته. ويبدو أنّ علامات مرضه الأساسيّة ستٌّ: الأُولى أنّ خرِّيج "الثانويّ"، رغم قضائه سنوات طويلة في تعلُّم اللُّغات، لا يُتْقن في الأخير أيّ لُغةٍ ؛ والثانية أنّ التلميذ يُواجِه، بشكل يَطبعه التّفاوُت والتّنافُر، عدّة لُغات منذ سنوات تعلُّمه الأُولى بألفباءاتها المُختلفة ؛ والثالثة أنّ المُدرِّس صار يَضْطرُّه التّدهوُر اللُّغويّ العامّ إلى 0ستعمال خليط لُغويّ تتداخل فيه "الفُصحى" و"العاميّات" و"الأجنبيّات" ؛ والرابعة تخلُّف طرائق تعليم اللُّغات بالمقارَنة مع ما هو معمول به عالميّا ؛ والخامسة تفضيل إحدى اللُّغات الأجنبيّة (بالخصوص "الفرنسيّة") على اللُّغات الوطنيّة والرسميّة ؛ والسادسة أنّ الدّولة، في شخص مُمثِّليها وأجهزتها (الحُكوميّة والإداريّة والإعلاميّة)، لا تَحترم 0ستعمال «اللِّسان المعياريّ» في مُخاطَبة المُواطنين الذين يُفْرَض عليهم وحدهم أن يَتعلّمُوه ويَستعملوه! ولا شكّ أنّ الأسباب القائمة وراء ذلك الوضع كثيرةٌ. لكنْ ليس منها - بكل تأكيد- وُجود قُصور طبيعيّ لدى المُتعلِّم المغربيّ، ولا كونُ الوضع اللُّغويّ بالمغرب يُمثِّل حالةً خاصةً بالمُقارَنة مع غيره ؛ وإنّما يَرْجعُ أهمُّ تلك الأسباب إلى: أوّلًا، وُجود نسبة خمسين في المئة تقريبا من "الأُميّة" التي تُعزِّزُها الاستقالة المُتزايدة للأُسرة (وأهميّة الوسط الأُسريّ في 0كتساب اللّغة لا تخفى) ؛ وثانيا، 0فتقاد سياسة للتّخطيط والتّدبير اللُّغويَّيْن في خِضمّ واقع يَعرف تعدُّدا لُغويّا وتفاوُتا 0جتماعيّا وثقافيّا ؛ وثالثا، تزايُد ضغط اللُّغات الأجنبيّة في 0رتباطها بالتّوسُّع الهَيْمنيّ للقُوى العالَميّة ؛ ورابعا، وُجود نُخبة من المُستفيدين من واقع السيطرة اللُّغويّة في هذا الاتِّجاه أو ذاك. وبدلا من الوُقوف المُتأنِّي عند مجموع المُشكلات المُرتبطة بأشكال التّبادُل والتّنازُع اللُّغويَّيْن، فإنّ بعض المُتدخِّلين من «أنصاف الدُّهاة» عندنا لا يَبْرَعُون في شيء أكثر من التّركيز على صُعوباتِ تعلُّم وتعليم "العربيّة"، فتراهُم يَتفانَوْن في جعلها مِشْجبًا يُعلَّق عليه فشل السياسة العُموميّة للدّولة بهذا الخصوص. وأكثر من ذلك، فإنّهم لا يُمْعنون في تنقُّص "العربيّة" إلّا بما يُشكِّكُ في جدوى كونها رسميّةً كلُغةٍ أُولى ويدفع، من ثَمّ، في 0تِّجاه 0ستبدال غيرها بها كبديل مُحتمَل (و"واقعيّ" في ظنِّهم)! وإنّ ممّا يَجدُر تبيُّنُه في صنيع «أنصاف الدُّهاة» ذاك إنّما هو عملهم، بوعي أو من دونه، على تحريف النِّقاش العُموميّ بما يجعلُه نقاشا زائفا مَداره 0تِّخاذ "العربيّة" بُؤرَةً تُشدّ إليها الأنظار بعيدا عن الواقع الحقيقيّ الذي لا يَنْفكّ عن ثُبوت فشل الدولة في إقامة سياسة ناجعة للقضاء على أُميّةِ نصف المُواطنين وللتّحرُّر من التبعيّة للنُّخبة المُتفرنسة المُستلَبة والمُتنفِّذة (تتعلّق المُشكلة، تحديدا، بنخبة وليس أبدا بلُغةٍ أو ثقافة). ولا أدلّ على شدّة التّضليل، بهذا الصدد، من كون بعض المُتدخِّلين صارُوا يَسكُتون على كل ذلك ويَتعاطون التّهجُّم على "العربيّة" بصفتها - في ظنّهم- لُغةَ الاستلاب التي تتحمل المسؤوليّة عن كل الضعف والِاختلال اللُّغويّ الذي يُعانيه، في الغالب، المُتكلمون المَغاربة. وفيما وراء ذلك، فإنّ التّبصُّر يُوجب أن يَنْصبّ البحث على إيجاد أهمّ السُّبُل التي من شأنها أن تُؤسِّس سياسةً عُموميّة في التّخْطيط والتّدْبير اللُّغويَّيْن ضمن مجتمع كان ولا يزال معروفا بتعدُّده اللُّغويّ والثقافيّ وبانفتاحه الجُغرافيّ والحضاريّ. ولذا، فإنّ تحريف النِّقاش العُموميّ يُقصَد به أساسا تسريع إيجاد مَخْرج أُحاديّ يَضمن 0متيازًا فِعْليّا لهذه اللُّغة أو تلك قبل أن يُؤسَّس «المجلس الوطنيّ للُّغات والثقافة المغربيّة» (كما ورد النص عليه في دُستور 2011 المُعدَّل) الذي يُنتظر أن تكون «مُهمّته، على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربيّة والأمازيغيّة، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربيّة باعتبارها تُراثا أصيلا وإبداعا معاصرا.» (الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس من الباب الأول). ومن أجل ذلك، فإنّ تأسيس وتنْصيب «المجلس الوطني للُّغات والثقافة المغربيّة» يُعَدّ المُستعجَلة الأُولى باعتباره المُؤسسة الدُّستوريّة والعُليا التي يُرجى منها أن تكون قاطرةً لسياسة التّخْطيط والتّدْبير اللُّغويّين على مستوى كل جهات المغرب. غير أنّه لا بُدّ من العمل على تفادي إعادة إنتاج سياسة الفشل من خلال النّظر إلى الأمر كما لو كان يَتعلّق فقط بإيجاد واجهةٍ مُؤسَّسيّة تُدبِّر (في الظاهر) الأزمة القائمة وتبقى (في العمق) مُستديمةً لمُشكلات العجز والاختلال، من حيث إنّ بعض هُواة الوَلائم يُريدون أن يَأتي المجلس المعنيّ في صورة توزيع جديد للرَّيْع على فئات من الذين حُرموا سابقا من مَأدُبة اللِّئام أو الذين صِعدُوا حديثا إلى مَسرح الأحداث! ولعلّ أهمّ ما هو مطلوب، في هذا المجال، أن يكون للمجلس من المَوارد والصلاحيّات ما يَسمح له بتتبُّع سيرورة التداوُل والتعليم اللُّغويّ على مستوى المجتمع المغربيّ برُمّته. ولا سبيل إلى هذا من دون جعل هذا المجلس ذا دور "تقريريّ" وعدم حصره فيما هو "0ستشاريّ"، لأنّ إعطاءَه تلك الصفة هو الذي سيُمكِّنه من العمل على إيقاف الارتجال والارتزاق في ميدان التّدبير والتّعليم اللُّغويَّيْن، كما سيُمكِّنه من العمل على وضع الأرضيّة المطلوبة لبناء معرفة موضوعيّة ومُستجدّة حول الواقع اللُّغويّ والثقافيّ بالمجتمع المغربيّ، بعيدا عمّا هو شائع من تقديرات مُجازِفة ومُقارَبات مُبتسَرة. وحتّى يكون المجلس الأعلى للُّغات كفيلا بأداء أدواره تلك، يُقترَح أن تُراعَى في تكوينه المُقتضيَات التالية: 1- ألّا يكون فيه عُضوًا من له أيُّ 0رتباط حزبيّ أو نشاط إديولوجيّ لصالح فئة دون غيرها، بل ينبغي أن يكون أعضاؤُه مُوظَّفين يَتحمّلون المسؤوليّة واجبا مَدنيّا ووطنيّا بدون أيِّ خلفيّات أُخرى (لا بأس بشيء من "الطُّوبَى" على كل حال، لأنّه لا 0عتبار لشخص غير مُستعدّ للإدلاء دائما ببُرهان عمليّ على نزاهته و0ستقامته!) ؛ 2- ألّا يكون فيه عضوًا أيُّ شخص تابِع لمُؤسَّسةٍ أُخرى ويُريد أن يَجمع في آن واحد بين شَغْلِ (وعائدِ) وظيفتين ؛ 3- ألّا يكون فيه عضوًا من يَعرف فقط لُغة واحدة (أيّا تَكُنْ)، بل لا بُدّ للعضو فيه من يكون مُتْقِنًا لُغتين فأكثر مع وُجوب أن تكون إحداهما (أو إحداها) رسميّةً و/أو وطنيّةً ؛ 4- ألّا يكون عضوًا فيه إلّا من تأكّد رُسوخُ قدمه في العلم والعمل في مجال البحث العلميّ الذي يَنبغي أن يَشمل "النّحو" و"اللِّسانيّات" و"الفلسفة" و"عُلوم الإنسان" (تاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، إلخ.) ؛ 5- أن يكون نحوُ ثُلُثي أعضائه من شُبّان وشابّات لا تَزيد أعمارُهم على خمسةٍ وأربعين سنة ؛ 6- أن يكون أعضاؤُه مُمثِّلين لكُلِّ جهاتِ المغرب بلا 0ستثناء ؛ 7- أن تكون قراراتُه في صورة «توافُقات معقولة» قائمة على التّشاوُر والتّفاوُض وليس ناتجةً عن تحالُفات مَصْلحيّة ضيِّقة أو مُعبِّرة عن أغلبيّة عَدديّة صمّاء ؛ 8- أن تكون أعمالُه نتاجا (ونابِضا مُحرِّكا) لنقاش عُموميّ ودِمُقراطيّ يُعبِّر عن حيويّةِ المجتمع المغربيّ بمُختلف مُكوِّناته وقُواه الحقيقيّة ؛ 9- أن تكون كل الإجراءات المُتعلِّقة بالسياسة اللُّغويّة العُموميّة بالمغرب خاضعةً لمُراقَبته ومُتابَعته ؛ 10- ألّا تبقى أيّ لُغة من اللُّغات المُتداوَلة في الإعلام والإشهار أو في المدرسة أو في المسجد خارج نطاق تدخُّل المجلس باعتبارها حكرا على فئة بعينها ؛ 11- أن تكون نتائجُ أعماله موضوعَ 0حترام وتقدير من قِبَل الجميع بفعل خُضوعها (وفقط بسببه) لكل المُقتضيات السابقة. إنّ مجلسا للُّغات بهذه المَعايير والمُقتضيَات (التي ليست سوى 0قتراحات من بين أُخْرَيات مُمكنة) مُطالَبٌ بأن يقوم بكل الأدوار المُتعلِّقة بالتّخطيط والتّدبير اللُّغويَّيْن في إطارِ سياسةٍ عُموميّة مَبْنيّةٍ على أُسس "التّرشيد" و"الحَكامة". وبهذا المعنى فقط تَصير هذه "اللُّغة" أو تلك مَكْسبًا لكل المَغاربة، وليس من خلال التّنْزيل المَوْسميّ والمِزَاجيّ أو التَّرْضيَة بالحصص لفئات دون أخرى. ذلك بأنّ اللُّغة لا تكون حقّا طبيعيّا لكل المُواطنين إلّا بقدر ما يُتحكَّم 0جتماعيّا وثقافيّا في شُروط 0كتسابها و0ستعمالها. وبالتالي، فإنّها لا تَفْرض نفسَها فقط بما هي لُغة (صفتها كذا وكذا)، وإنّما تكون كذلك إمّا في المدى الذي تُتْرَك الشُّروطُ المُحدِّدةُ لها موضوعيّا تعمل خارج وعيهم وإرادتهم، وإمّا بناءً على التّحكم الاجتماعيّ والمَدنيّ في هذه الشُّروط بالشكل الذي يُعْطي لمجموع "المُواطنين" فُرصةً لكي يُبَلْوِرُوا نوعا من "الاختيار" بعيدا عن أشكال المُزايَدة والتّضليل التي يَتعاطاها أُناس لا يُدافعون عن لُغةٍ بعينها إلّا بقدر ما يَحْرِصون على مَصالحهم الشخصيّة التي لا ترتبط ضرورةً بتداوُلها بقدر ما تُيسِّر0ستغلالَهم لها تحت شتّى العناوين والشعارات.