تعتبر قضية الهوية ، في شقها اللغوي والديني، من القضايا التي انصب عليها الجدال حاليا، في إطار النقاش العام حول ورش الإصلاح الدستوري المفتوح بالمغرب اليوم. و اختلفت مواقف الفاعلين الثقافيين، وتنوعت مقترحات الأحزاب السياسية ، بين المطالبة بالتنصيص على تنوع روافد هذه الهوية، لتشمل إضافة إلى البعد العربي، كل من البعد الأمازيغي والمتوسطي والإفريقي للشعب المغربي، باعتبار المغرب دولة مغاربية، وليست مغرب-عربية ، كما في دستور 1996. وكانت الامازيغية من أكثر القضايا إثارة للنقاش بين مختلف الفاعلين السياسيين والمدنيين والمثقفين ، واختلفوا حول دسترتها باعتبار ذلك مدخلا لسياسة لغوية متوازنة و تمهيدا لوضع تخطيط لغوي يحفظ للمغرب أحد مكونات ثروته الرمزية، و تراوحت المواقف بين من دعا إلى دسترتها لغة رسمية ، ومن ينادي بدسترتها لغة وطنية فقط . ومما لا شك فيه أن هذه القضية سيزداد النقاش حولها حدة ، كلما اقتربت اللجنة المكلفة بإعداد مشروع الدستور المنتظر من استكمال أشغالها ، و بعد طرح مشروع الدستور للاستفتاء. وإسهاما في هذا النقاش، ومشاركة في هذا الحوار، سنقوم بالوقوف عند هذه القضية بالتحليل والدرس. من خلال تناول الوضع اللغوي بالمغرب ، باعتباره الواقع المراد تنظيمه و تأطيره بالدستور المقبل ، ثم الإطلالة على بعض الحقوق التي تكفلها الوضعيات الدستورية للغات، وفق ما تنص عنه المواثيق الدولية ، كالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية، المؤرخ في 16 كانون الأول/ديسمبر 1966 ، و وثيقة الإعلان العالمي للحقوق اللغوية الذي الصادر سنة 1996 ببرشلونة، و أخيرا طرح الإشكالات المرتبطة بدسترة الأمازيغية. الوضع اللغوي بالمغرب: موقع المغرب الجيوسياسي جعله تاريخيا جسر عبور، و منطقة توافد جماعات بشرية عديدة و مجال تأثير كبريات الحضارات البشرية : الفينيقية، الرومانية و الوندالية و البيزنطية المسيحية و أخيرا العربية الإسلامية –، منها من تصارع مع السكان الأصليين الأمازيغي( الرومانية ، الوندالية ، البيزنطية المسيحية) ، ومنها من تعايش معهم ( الفينيقية و العربية الإسلامية) ، حيث حدث التمازج والأخذ و العطاء، وتداخلت الثقافات الوافدة والعابرة مع الثقافات المحلية الأصلية . وتعتبر الحضارة العربية الإسلامية أهم حضارة عمرت المغرب قرون عديدة، ولازال تأثيرها حاضرا و بقوة إلى اليوم، حيث يشكل الإسلام واللغة العربية جزءا من الهوية المغربية(1). هذا الوضع اللغوي والثقافي ازداد تنوعا وتعقيدا بعد سقوط المغرب تحت الاستعمار الفرنسي في الوسط و الاحتلال الاسباني في الشمال والجنوب ، ليظهر على الساحة اللغوية فاعل لسني جديد( الفرنسية وبالدرجة الأولى ثم الاسبانية ) ، عمل على الهيمنة والسيطرة على المجالات الحيوية التي كانت اللغات القديمة تحتلها. ونتيجة للسياسة اللغوية التي نهجتها السلطات الاستعمارية الفرنسية بالمغرب، الموجهة أساسا ضد اللغة العربية، المتمثلة في إقصاءها من مجالات استعمالها خاصة في المناطق الناطقة الامازيغية، وتعويضها بالفرنسية (2)، ولما كانت السياسية اللغوية الاستعمارية تستهدف ضرب اللغة العربية باللغة الامازيغية (3)، من اجل الإبقاء على اللغة الفرنسية سائدة ومهيمنة ، كان رد فعل الحركة الوطنية المغربية بعد الاستقلال، حيث تم اعتماد التعريب كأحد مبادئ السياسة التعليمية ،دون ايلاء أي اهتمام الأمازيغية ، من حيث إدماجها في التعليم والإعلام والإدارة وباقي مجالات الحياة . إلا أن اعتماد تعميم التعليم كمبدأ ثاني للسياسة التعليمية لما بعد الاستقلال، مكن أبناء المناطق الناطقة الامازيغية من ولوج المدرسة و الارتقاء في أسلاك التعليم والإدارة ، ليشكلوا في ما بعد نخبة و حركة ثقافية تطالب بإعادة الاعتبار للغة والهوية الامازيغية، وتصحيح الوضع اللغوي بالمغرب ، وباعتماد سياسة لغوية عادلة ومتوازنة، تمكن الامازيغية من المكانة اللائقة بها بما في ذلك إدماجها في مجالات التربية والإدارة والتعليم والإعلام ، وتمكينها من وضع قانوني متميز. إذا كانت العديد من الدول قد عملت على التعامل مع تعددها اللغوي وتنوعها الثقافي من خلال رسم سياسة لغوية و تخطيط لغوي(4) مكنها من إعادة الاعتبار للغاتها من خلال الاعتراف القانوني بتعدد روافد هويتها ، و الاهتمام وتثمين رأسمالها الرمزي (لغات و ثقافات) ، بحمايتها و دسترتها ، فان المغرب ما زال يفتقد الرؤية الواضحة التي تمكنه من تدبير وضعه اللغوي، من خلال وضع سياسة لغوية عادلة وراشدة، في ظل ظروف عالمية تتسم بزحف العولمة الثقافية في ركاب عولمة اقتصادية استهلاكية ، تسعى إلى تنميط الشعوب في قالب ثقافي واحد(5). هذه الصيرورة التاريخية الحضارية نجم عنها واقع ثقافي و وضع لغوي يتميزان بالتنوع و التعدد، حيث تتزاحم فيه ، إن لم نقل تتصارع فيه العديد من اللغات واللهجات والتنويعات اللغوية كالأمازيغيات الثلاث ( تاشلحيث –تزايانيت- تاريفيت) واللغة العربية الفصحى إلى جانب العاميات ذات الأصول العربية ( الدرجة الهلالية – الدرجة الحسانية ) ، من جهة ، و اللغات الوافدة مع الاستعمار (الفرنسية والاسبانية والانكليزية) من جهة ثانية ، و ترك هذا الوضع اللغوي غير المنظم على حالته الاجتماعية والثقافية الطبيعية ، كل لغة أو لهجة أو تنويعة لغوية تحتل منطقة جغرافية أو مجالا اجتماعيا أو قطاعا معينا، إما بحكم عدد الناطقين بها، أو بحكم القوة و الثقل الاقتصادي أو الثقافي أو الديني أو السلطوي للفئة الاجتماعية الحاملة لها، أو حسب الوظائف التواصلية والمهام الاجتماعية والثقافية التي تؤديها. فإذا كانت اللغة العربية الفصحى هي لغة التواصل الرسمية في الوثائق والمرافق العمومية ولغة الشأن الديني ، وتزاحمها الفرنسية في المؤسسات الإدارية والإعلام والتعليم العالي ، فان الأمازيغيات الثلاثة والعاميات العربية هن لغات التواصل اليومي في البيت و الشارع . هذا الوضع الواقعي يعيش مفارقات غريبة، إذ لا علاقة له بالوضع القانوني المنصوص عليه في الدستور و القوانين ، فاللغة العربية هي اللغة الرسمية دستوريا ، ولكن الفرنسية هي اللغة الرسمية واقعيا، لكونها لغة الإدارة والاقتصاد و التعليم العالي ، وجزء كبير من الإعلام المكتوب والسمعي البصري. إجمالا يمكن القول أن الوضع اللغوي في المغرب يعيش وفق قانون الغاب ، حيث اللغة القوية المسنودة اقتصاديا و تربويا وإعلاميا تفترس اللغات الضعيفة. لذلك يعرف هذا الوضع اللغوي اختلالا خطير، ينذر بالوصول إلى درجة الحديث عن "الافتراس اللغوي" الذي يصل في حدوده القصوى إلى الإبادة اللغوية linguicide، التي عادة ما تتلوها الإبادة العرقية الجماعية génocide(6). وهذا ما يطرح ضرورة التدخل العاجل من خلال امتلاك رؤية واضحة ، تستهدف الحفاظ على التنوع اللغوي بالمغرب ، باعتباره ثروة يجب استثمارها ، وليس مشكلة يجب حلها ، بما يمكن من الدفع بعجلة التنمية الى الإمام ، و بوضع سياسة لغوية عادلة وشاملة مندمجة ، يعتبر دسترة وتقنين وتنظيم هذا الوضع اللغوي والثقافي محورا من المحاور الرئيسية لتلك السياسة. وفق ما تنص عليه المواثيق الدولية المؤطرة للحقوق اللغوية والثقافية. الحقوق والأوضاع القانونية للغات: الحقوق الغوية من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز المساس بها . وعلى رأسها حق إعطاء القيمة والاعتبارية للغة الأم في سائر مجالات الحياة، وحق الطفل في تعلم لغته الأم وإتقانها (7)، باعتبارها ثروة وحصن لحماية الهوية والثقافة. و وسيلة للإبداع و قناة للتواصل و نشر قيمها الأخلاقية والإبداعية، ونقل تراثها الخاص ، أفقيا بين أبناء نفس المرحلة ، وعموديا بين الأجيال السابقة واللاحقة. تندرج الحقوق اللغوية في إطار الجيل الثالث من حقوق الإنسان ، فإلى جانب العهد الدولي الخاص للحقوق الثقافية يمكن اعتبار إعلان برشلونة العالمي للحقوق اللغوية الذي صدر في 1996 من الوثائق الأساسية والهامة التي تنص على ضرورة الحفاظ على اللغة وتطويرها وتنميتها و استعمالها في كافة مناحي الحياة ، حيث عمل على تحديد كافة المجالات التي يجب أن تستعمل فيها اللغات، كالتعليم و الإدارة والإعلام و الاقتصاد ، مع الإشارة إلى أن أفضل وسيلة للحفاظ على لغة ما وتطويرها وتنميتها هي إدماجها في التعليم، كمادة للتعلم ، و أداة للتعليم. يعتبر تنظيم الأوضاع القانونية للغات وتقنينها ودسترتها ، إحدى المحاور الأساسية في وضع سياسة لغوية في كل دولة تسعى إلى النهوض بلغاتها وحمايتها من التراجع و الاندثار، حفاظا على هويتها ، و صيانة لثقافتها، وضمانا للتنوع و التميز والإبداع، لما في ذلك من أهمية قصوى في التنمية بصفة عامة. في هذا الإطار تعمل مختلف الدول على تحديد الأوضاع القانونية للغاتها الوطنية ، وفقا لمصالحها الوطنية ، وانسجاما مع خصوصياتها البشرية و الهوياتية، و مسايرة لمقتضيات المواثيق الدولية ذات العلاقة بالحقوق اللغوية والثقافية. و يمكن اعتبار دسترة اللغات حجر الأساس في الاعتراف القانوني بها ، والمؤشر الأساسي في منحها المكانة اللائقة بها. وعموما يتم دسترة اللغات في معظم بلدان ودول العالم وفق سلم دستوري من درجتين ( الرسمية أو الوطنية ) ، تفرضهما الوضعية الذاتية لكل لغة من اللغات المراد دسترتها، من حيث قابلية إدماجها المباشر في مجالات الحياة( دواليب الدولة - الإدارة – التعليم – الإعلام - الاقتصاد ..) أو عدم قابلتها لذلك ، مما تحتاج معه إلى برامج و مخططات للنهوض بها ، و جهود علمية في مجال تهيئتها وتقعيدها، وإيجاد جميع الوسائل الإدارية و الإمكانيات المالية الكفيلة بوضعها في الدرجة الأولى في سلم الدسترة. إذن هناك على العموم درجتين أساسيتين في دسترة اللغات ، إذا ما استثنينا وضعية التعدد اللغوي الاستراتيجي و وضعية عدم التمييز بين اللغات (8) ، إذ لم نعتبرهما درجة في سلم دسترة اللغات، على اعتبار أنهما لا يقومان على التمييز بين اللغات، وفق مستوى تأهيلها الذاتي ، - الدرجة الأولى في الدسترة: هي وضعية اللغة الرسمية التي تكسبها اللغة في دستور دولة من الدول أو في إقليم من أقاليمها، إذا كان يتمتع بحكم ذاتي، هذه الوضعية تفرض على الدولة المعنية اعتماد هذه اللغة وسيلة للتواصل والتخاطب في جميع أنشطتها الرسمية ( الخطابات – الاجتماعات – المراسلات – الوثائق) ، ومؤسساتها العمومية ( التعليم – الإدارة – الإعلام – الاقتصاد ..)، ولا يقبل قانونيا استعمال غير تلك اللغة أو اللغات الرسمية، على اعتبار أنه بالإمكان ترسيم أكثر من لغة ( الهند 23 لغة رسمية – جنوب إفريقيا 11 لغة رسمية). و تمنح هذه الوضعية الرسمية للغة الحق للناطقين بها ، في انتزاع حق استعمال لغتهم الرسمية في المجالات المشار إليها بقوة القانون . - الدرجة الثانية في الدسترة: هي وضعية اللغة الوطنية، وهي الوضعية التي تكون في الدولة غير ملزمة قانونية باستعمال اللغة الوطنية في الأنشطة الرسمية والمؤسسات العمومية، وتكون ملزمة فقط بحماية اللغة أو اللغات ، و تطويرها وتهيئتها من خلال إقامة المؤسسات العلمية الخاصة بذلك ، و إدماجها في قطاعي التعليم والإعلام ، لدورهما في التربية والتثقيف ، وعلاقتهما بتشكيل الهوية . وبذلك تعتبر الدرجة الثانية من سلم الدسترة ، مجرد مرحلة مؤقتة وانتقالية ، تتم فيها إعداد لغة أو لغات ما من أجل المرور إلى الدرجة الأولى، التي هي الوضع الطبيعي والسليم الذي يجب أن تحتله كل لغة شعب أو قومية أو أمة. وهذه المرحلة أو الوضعية الدستورية ، قد تطول ، وقد تقصر ، حسب الجهود العلمية والتربوية والإدارية التي تبذلها المؤسسات المسؤولة عن مهمة تهيئة اللغة وتأهيلها. وهذا التدرج أو التدريج و التراتبية في الدسترة للغات بالعديد من الدول الديمقراطية - التي تحترم دساتيرها و قوانينها ، وحيث الدساتير تستجيب للطموحات الحقيقية والحاجيات الواقعية للغالبية الساحقة للشعوب ، وليس لنخب فئوية أو لوبيات مصلحية - يخضع للمؤهلات الذاتية( المعيرة أو التقعيد ) والشروط الموضوعية ( التوفر على المستلزمات الإدارية و التربوية و الإعلامية) لكل لغة إلى جانب الوسائل البشرية والمالية ، وليس للاعتبارات الاديولوجية أو العنصرية أو السياسية. لذلك يبقى وضع التراتبية مؤقتا ، ومرتبطا بمدى إرادة و قدرة الدولة والمجتمع في تأهيل اللغات الوطنية لترتقي بها إلى درجة الترسيم دستوريا. لذلك يتم التنصيص في دساتير بعض الدول على الانتقال بلغة ما من الدرجة الثانية (الوطنية) إلى الدرجة الأولى ( الرسمية) دون الحاجة إلى القيام بتعديل دستوري و ما يحتاجه من استفتاء. دسترة الأمازيغية : من خلال ما تقدم في تناولنا للوضع اللغوي بالمغرب و للحقوق والأوضاع القانونية للغات، يطرح دسترة الأمازيغية العديد من الإشكالات، منها ما هو ذو بعد علمي واقعي ، ومنها ما هو ذو بعد سياسي إيديولوجي، حيث غالبا ما يطغى البعد الأخير على الثاني ، وحيث يتطاول أهل الإيديولوجيا على أهل العلم و الخبرة(9) . لذلك يمكن إجمال أسئلة المهتمين بهذه القضية في سؤالين أساسيين : - أية أمازيغية ندستر ؟ اللغات الأمازيغية الثلاث ( تاشلحيت – تزايانيت – تريفيت ) باعتبارها اللغات الأم ، أم اللغة الأمازيغية ، التي يقوم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بإعدادها في مختبره( الأمازيغية الممعيرة أو المقعدة ) ؟ - وإذا كانت الحركة الأمازيغية، و من وراءها المعهد الملكي يدفعان بدسترة أمازيغية المعهد في الدرجة الأول من السلم الدستوري لغة رسمية ، فهل هذه اللغة تستجيب حاليا للشروط الذاتية والموضوعية التي أشرنا إليها سلفا ؟ الجواب على التساؤل الأول يقود إلى إشكالات أخرى ذات طبيعة حقوقية ، و أخرى ذات طبيعة علمية لسنية ، فالمواثيق الدولية ذات العلاقة بالحقوق اللغوية ، سواء بالنسبة للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية و العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية ، أو بالنسبة لإعلان الأممالمتحدة المتعلق بحقوق الشعوب الأصلية و إعلان برشلونة للحقوق اللغوية والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، كلها تجمع و تنص على ضرورة الحماية القانونية للغات الأم ومنها الحماية الدستورية. وفي هذا الإطار تدخل اللغات الأمازيغيات الثلاث ( تاشلحيت – تزايانيت – تاريفيت)، على اعتبار أنها اللغات الأم ، التي تعني في أبسط تعريف لها ، اللغة الأولى التي يتعلمها الطفل من أمه . في حين أن الأمازيغية الممعيرة، لا علاقة لها بلغات البيوت الأمازيغية الثلاثة، حيث لا تستطيع الأمهات، اللواتي لا يتقن إلا إحدى الأمازيغيات الثلاثة ، متابعة النشرات الإخبارية والجوية وبعض البرامج التي تبثها القناة الثامنة الأمازيغية، كما أنها ليس اللغة التي يكتب بها الأمازيغ إبداعاتهم ( الفنية - الشعرية – القصصية ..) ولا ينشدون بها أهازيجهم " أمارك " ولا يوقعون بها رقصاتهم " أحواش" أو " أحيدوس". أما على المستوى اللسني ، فاللغات الأمازيغية الثلاثة تتوفر على الشرط الذاتي الذي يجعلها لغات - و ليست لهجات ، أو فروع للغة أمازيغية افتراضية ، يعمل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية على بناءها أو إعادة بناءها – باعتبار كل لغة منها تحقق وظيفة التواصل الجماعي والتام بين الناطقين بها (10)، في حين لا يستطيع الناطقين بلغة منها ( تاريفيت مثلا ) التواصل مع الناطقين بأخرى( تاشلحيت مثلا ) . و ينعدم شرط التواصل الجماعي هذا في الأمازيغية الممعيرة من طرف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لا على المستوى القاعدي في المجتمع ، ولا على مستوى القمة (النخبة)، إذ لا يستطيع التواصل بها حتى الباحثين المختصين و المهتمين بها دراسة وتدريسا، إذ غالبا ما يلجئون إلى الكتابة والتواصل إما بالفرنسية أو العربية أو إحدى الأمازيغيات الثلاثة. ومن المفارقات العجيبة أن أكثر الكتاب دفاعا وتعصبا لها ، وهو أحمد عصيد ، لم يسبق له أن كتب بها كتابا أو مقالا واحدا من كتبه و مقالاته العديدة ، التي كتبها بالعربية. و إذا كان الدفع بحجة المقارنة مع اللغة العربية الفصحى بكونها مدسترة رسمية، رغم عدم كونها " لغة أم " لأي أحد من المغاربة ، فهذا يبدو في ظاهره منطقيا ، إلا أنه يستبطن تناقضا و قفزا على معطيات التاريخ و الواقع التي تجعل من اللغة العربية مند كونها التنويعة اللغوية القريشية ( و هي واحدة فقط من لغات عربية متعددة بشبه الجزيرة العربية ) التي نزل بها القران ، لتتحول بعد عملية تقعيدها ومعيرتها، التي استمرت أكثر من أربعة قرون إلى غاية العصر العباسي لغة سلطة دينية و مدنية ، ولغة تدوين و تواصل رسمي، و لغة إنتاج علمي و إبداع فني و أدبي ، وتشكل مصدرا لاشتقاق و إنتاج العديد من اللهجات المحلية ، على امتداد الجغرافيا التي ، استوطن بها العرب ، في تفاعل مع اللغات المحلية للشعوب القاطنة على طول و عرض هذه الجغرافيا ، ومنها اللهجات ( المصرية – السورية – اللبنانية – الخليجية - الدرجات المغربية و المغاربية) . في حين أن الأمازيغية الممعيرة ليست لغة تاريخية و لا واحدة من التنويعات اللغوية الامازيغية ، وتمت عملية تقعيدها و تهيئتها، و إنما هي تجميع وتركيب للغات أمازيغية ثلاث أو أكثر في لغة واحدة، بما تحمله كل واحدة منها من معجم وقواعد، إلى جانب عملية التطهير التي شملت معجم هذه اللغات ( خاصة المفردات العربية الممزغة) ، إلى جانب إبادة القواعد الخاصة بكل لغة وغير القابلة للتنميط في قواعد اللغة المنتظرة، ثم تعويض أي نقص معجمي من خلال عملية النحت والاستحداث لمفردات جديدة ، في حالة عدم التمكن من الاستعارة من المعجم الطوارقي ( النيجير –مالي –تشاد) أو القبايلي أو الشاوي (بالجزائر). والتناقض يتجلى بين كون العربية الفصحى، بعد تقعيدها خلال مدة طويلة ( أكثر من أربعة قرون) هي منطلق و مصدر لاشتقاق (اللهجات المحلية) والإفراز الطبيعي لها ، من خلال التفاعل مع غيرها من اللغات المحلية ، وهذه العملية تسير من الاعلى (اللغة الفصحى) إلى الأسفل (اللهجات المحلية) ، في حين أن الامازيغية الممعيرة هي منتوج لتجميع ( لهجات محلية ) من خلال عمليات: التجميع والتركيب و النحت والتطهير و التقعيد ، في مختبر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بعملية تسير من الأسفل (اللهجات المحلية) إلى الاعلى (اللغة الممعيرة). فالعملية بالنسبة للغة العربية سارت بشكل طبيعي ، تحكمها القوانين الاجتماعية و الاقتصادية ، واستمرت مدة طويلة، و دسترتها كان طموح ورغبة أمة مغربية ( عرب و أمازيغ) عكس الأمازيغية الممعيرة ، حيث العملية تحكمية و قسرية و متسرعة ، تحكمها الهواجس الإيديولوجية ، و دسترتها سيكون استجابة لمصلحة نخب معينة. تعمل على بناء لغة افتراضية لا علاقة لها بالواقع المعاش للأمازيغ على أنقاض اللغات التاريخية الثلاث(11). بالنسبة للتساؤل الثاني المتعلق بالشروط الذاتية والموضوعية التي تؤهل الأمازيغية الممعيرة لدسترتها لغة رسمية، فيبدو أن هناك نقص كبير في توفر هذه الشروط ، وتقصير كبير في توفيرها، سواء من طرف الدولة أو من طرف المؤسسات المعنية بذلك، إذ سيقف المسئولون عاجزين عن انجاز أو القيام بأي شيئ من المقتضيات الفعلية في الواقع لعملية ترسيمها ، المتمثلة في استعمال الأمازيغية الأنشطة الرسمية ( الخطابات – الاجتماعات – المراسلات – الوثائق) ، والمؤسسات العمومية ( التعليم – الإدارة – الإعلام – الاقتصاد ..). مما ستترتب عن نفس الوضعية المزرية التي تعيشها اللغة العربية المدسترة قي الدرجة الأولى منذ 1962، حيث لا يوازي وضعها الدستوري والقانوني وضعها الواقعي، في الادرة والإعلام و التعليم والاقتصاد ، الذي تحتل فيه اللغة الفرنسية ، التي لا وضعية دستورية لها ، موقع اللغة الأولى. و ستكون النتيجة المنطقية والواقعية هي اللغة الأمازيغية رسمية في الوثيقة الدستورية و وطنية في الواقع. ومن خلال ما سبق يتبن بأن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، ومن وراءه الحركة الأمازيغية في تسرعهما بدسترة الامازيغية لغة رسمية، شبيه بتسرعه بتهيئة لغة أمازيغية رابعة ( ممعيرة) في المغرب إلى جانب اللغات الأمازيغية الثلاث ، وفرضها على المغاربة و الأمازيغ ، فبدل الاتجاه إلى تقعيد و تهيئة اللغات الثلاثة باعتبارها اللغات الأم، انسجاما مع المواثيق الدولية ، المشار إليها سلفا ، و العمل على إدماجها في التعليم ، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهود علمية جبارة وموارد بشرية ومالية مهمة، والى عقود من الزمن،حيث سيحتاج الأمر إلى جيل أو جيلين ، مما لا تستطيع معه النخبة الأمازيغية الانتظار، و ترك أجيال المستقبل لتجني ثمار هذا العمل، لأنها تريد أن تستفيد من ذلك العمل لنفسها أولا ، مادامت هي المؤسسة لبدايته. و هذا ما ستكون له نتائج وخيمة مستقبلا. وختاما ، إذا كانت دسترة اللغة مرحلة مهمة في هيكلة الوضع اللغوي، وبداية لوضع سياسة لغوية عادلة و راشدة تثمن الرأسمال الرمزي للمغاربة ، وتعيد الاعتبار لهويتهم، ومدخلا لتخطيط لغوي يروم النهوض برصيد اللغات الوطنية باعتبارها ثروة يجب استثمارها في تنمية الإبداع الثقافي والإنتاج العلمي، ولحماية هوية أجيال المستقبل وصيانتها، أمام الزحف العولمي للتنميط الثقافي و القيمي، فان الاستعجال و التسرع باتحاد قرارات فوقية تستجيب بشكل مؤقت لمصالح نخب معينة، ستكون له انعكاسات خطيرة على مستقبل المغرب الثقافي، و أول ما سيترتب عن هذا التسرع هو المفارقة بين ما هو مسطر في الدستور و القوانين ، وما هو معمول به في الواقع . وهذا هو شأن كل الدول الفاشلة التي لا تحترم دساتيرها وقوانينها ، ومن خلالها لا تحترم إرادة شعوبها ، باعتبار الدساتير والقوانين هي أسمى ما يعبر عن إرادة الأمم وسيادتها. الإحالات: (1)- من المراجع المهمة في هذا الصدد : ميلود الدوري – الحركة اللغوية بالمغرب الأقصى( بين الفتح الاسلامي والغزو الكولونيالي) – الجزء تفاعل الألسن –مطبعة أنفو برانت – الطبعة الاولى 2001 (2)- انظر دورية ليوطي في كتاب عبد العالي الودغيري – الفرنكوفونية و السياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب – كتاب العلم –السلسلة الجديدة 7 صفحة 85 (3) – عبد السلام الشدادي في حوار مع مجلة المدرسة الغربية التي يصدرها المجلس الأعلى للتعليم – العدد 3 – مارس 2011- الصفحة 50 (4) جيمس- و- طوليفصون – السياسة اللغوية : خلفيتها و مقاصدها – ترجمة: د. محمد الخطابي تقديم : د. عبد الغني أبو العزم – مؤسسة الغني – مطبعة المعارف الجديدةالرباط – الطبعة الأولى 2007 – ص25 (5) – مبارك حانون- الوضع اللغوي بالمغرب في أفق العولمة- http://www.aljabriabed.net/n24_09hanun1.htm (6)- عبد الهادي بوطالب – الحقوق اللغوية : حق اللغة في الوجود، والبقاء والتطور والنماء والوحدة – دار الكتاب –الطبعة الأولى 1422-2003 – الصفحة 37 (7) جيمس- و- طوليفصون – السياسة اللغوية : خلفيتها و مقاصدها – ترجمة: د. محمد الخطابي تقديم : د. عبد الغني أبو العزم – مؤسسة الغني – مطبعة المعارف الجديدةالرباط – الطبعة الأولى 2007 - ص (8) - عبد الهادي بوطالب – الحقوق اللغوية المرجع السابق –ص 35 (9) – انظرنموذج أحمد عصيد في رده على محمد الأوراغي وعبد القادر الفاسي الفهري في http://wششww.hespress.com/?browser=view&EgyxpID=31394 - نموذج ثاني : عبد المجيد جحفة في : "أمازيغية" الحقد والكوطا في نفس الموقعhttp://www.lakome.com/opinion/49-authors/4492-qq--.html (10) –– الأمازيغية والتعديل الدستوري في المغرب – جريدة المساء –عدد1422 يوم 20/04/2011 الصفحة 9 (11)-- محمد الكوخي: هل كانت هناك أمازيغية واحدة في التاريخ القديم ؟- http://www.lakome.com/opinion/49-authors/4661-2011-05-11-18-47-56.html