كثيرا ما يَنْبَرِي بعضُ أصحاب الأهواء (والأغراض) للتّقوُّل على "العربيّة" فتجدهم يَصفونها بكل النُّعوت القادحة والمُهينة التي يُرادُ بها الانتقاص من قَدْرها وإظهارها بأنّها لُغةٌ مَعيبةٌ ومُعقَّدةٌ بما يجعلها، بالتالي، مُكلِّفةً وغير مُفيدة. ولأنّها كذلك في زعمهم، فهي لا تُستعمَل إلّا بكَأْدٍ وكَدٍّ شديدَيْن؛ مِمّا يدل، في نظرهم، على أنّها سائرةٌ حَتْمًا إلى الِاندثار. فما حقيقةُ ما تُتَّهم به "العربيّة" من طرف خُصومها؟ ولِمصلحةِ من يَسعى العاملون على تهوين «العربيّة الفُصحى» طلبًا لإماتتها؟ يُلاحَظ أنّ خُصوم "العربيّة" يُفضِّلون أن يُرْسلوا حولها كلاما عامّا تبدو من خلاله لُغةً "عتيقةً" و"مُعقّدةً". فهي عندهم ليست أكثر من لُغة "مَدْرسيّة" لا تُتداوَل في الحياة العامّة ولا تكاد تُستعملُ إلّا في "مكتوبات" تُقرأ في الإعلام "الرسميّ" أو الخُطب "الدِّينيّة". إنّها، بإيجاز، لُغةٌ للخاصّة وليست للعامّة، ولُغةٌ للأدب والعبادة وليست للتفكير الفلسفيّ والعلميّ. وهكذا ف"العربيّة"، وَفْق ما يُروِّجُه عنها خصومها، لُغةٌ نَشازٌ بامتياز! وإنّ ما يُستغرَب له أنّ الذين يَلُوكون كل ذلك الكلام عن "العربيّة" لا يُكلِّفون أنفسهم عناءَ الاعتماد على أسانيد المُتخصِّصين من نُحاةٍ ولُغويِّين ولسانيِّين (وهم بالعشرات كما هو مُثْبَتٌ، مثلا، في «الموسوعة العالميّة للُّغة واللِّسانيّات العربيّة» الصادرة بالإنجليزيّة في خمسة مجلدات كُبرى عن دار "بريل" [2001-2008]!)، بل تراهم يُطْلِقون أحكامَهم المُرسَلة كأنّها القول الفصل بشأن هذه اللُّغة المُبْتلاة بإهمال مُستعملِيها وظُلْم شانِئيها. والحالُ أنّ كلامَ خُصوم "العربيّة" لا يَصحّ إلّا بشرطين: أوّلُهما أن يكون مُستنِدًا إلى بُحوث علميّة تُوصِّف وتُفسِّر بِنْيات 0شتغال «اللِّسان العربيّ» بما هو لسانٌ قائمٌ بذاته ؛ وثانيهما أن يكون كلاما يُميِّز بين المُشكلات "اللُّغويّة" (في علاقتها بالشروط البنيويّة المُحدِّدة داخليّا لاستعمال اللُّغة تَفْصيلًا وتَأْليفا) والمُشكلات "التّداوُليّة" (في علاقتها بالشروط الموضوعيّة المُحدِّدة لكيفيّة 0ستعمال اللُّغة أداء كلاميًّا وإنجازًا خِطابيّا). فأمّا الشرط الأوّل، فمَدارُه على تعيين السِّمات الصوتيّة والصرفيّة والتّركيبيّة والمُعجميّة التي تجعل "العربيّة" – كما يَدّعي خُصومها- لُغةً مُتميِّزةً حصرا بكونها "عَتيقةً" و"مُعقَّدةً" بحيث لا يُمكن 0ستعمالها إلّا كتابيّا وفي حدود ضيِّقة بعيدًا عن المَجالات الحيويّة والعُموميّة في الحياة المُعاصرة بشتّى مَناحيها. وأمّا الشرط الثاني، فغَرضُه تِبْيانُ المَوانع "التّداوُليّة" الخاصة ب"العربيّة" بما هي لُغةٌ غير قادرة واقعيّا – حسب ظنّ مُتّهِميها- على الاستجابة لمُختلِف الحاجات التّبْليغيّة والتّدْليليّة والتّوجيهيّة لمُستعملِيها. وما يَجدُر تأكيدُه، بخصوص ذَيْنِك الشرطين، أنّ "العربيّة" - بما هي لُغةٌ- إمّا أن تكون نَسقا لُغويّا مُكتملا كأيِّ نسق لُغويّ آخر، وهو ما يَنْفي عنها أن تكون وحدها مُمثِّلةً للشُّذُوذ والالتباس اللَّذين لا يخلو منهما في الواقع لسان بشريٌّ ؛ وإمّا أن تكون ثمّةَ أسبابٌ تداوُليّةٌ وموضوعيّةٌ هي التي تقف وراء مجموع المُشكلات المُتعلِّقة باكتسابها و0ستعمالها، وهو ما يُوجب على مُستعملِيها أن يَجتهدوا للنُّهوض به على غرار ما يفعله أصحابُ اللُّغات الأخرى. فهل هُناك، حقًّا، نَقائص بنيويّة تَخُص "العربيّة" وتفرض عليها ألّا تُكتسب (وتُستعمل) إلا بتَكْلُفةٍ باهظةٍ بخلاف غيرها من اللُّغات أمْ أنّ ما يَعُدُّه خُصومُها كذلك ليس سوى تلك الحُدُود المُلازِمة عُموما للُّغة الطبيعيّة بما هي نظام "0عتباطيّ" و"نِسْبيّ" يُوضَع 0تِّفاقًا ولا يُصنَّع بِناءً عقليّا مُصفًّى ومُنسَّقًا؟ إنّ الذين يَحرِصون على إظهار "العربيّة" كما لو كانت في جوهرها بِدْعًا من اللُّغات إنّما يُريدون أن يجعلوها تبدو كأنّها لا تَصلُح للتّداوُل والتّواصُل في الحياة المعاصرة و، من ثَمّ، لا يُجْدِي معها أيُّ إصلاح أو تطوير. ولا يَخفى أنّهم إنّما يَسعون - بوعي أو من دونه- إلى تأكيدِ أنّها ليست سوى نتاج "مَنْقوص" لشعب "مَغْمور"! ذلك بأنّ قولَهم بأنّ "العربيّة" لُغةٌ "عتيقةٌ" و"مُعقّدةٌ" يُراد به لا فقط تحميلُها كل الرُّكام الذي أثَّله النُّحاة واللُّغويُّون في تأمُّلاتهم المُتكلَّفة، وإنّما أيضا إثبات أنّها لُغةٌ خاصةٌ ب«أعراب البادية» كمُجتمع مُغْلَق ومحدود، مجتمع قائم على "المُحافَظة" و"التّقليد" بعيدا عن مراكز "الحضارة" التي كانت ولا تزال مُحيطةً به. ولذا ف"العربيّة"، في نظرهم، ما هي إلّا تعبيرٌ عن تلك البيئة "الأعرابيّة" المُتخلِّفة والبدائيّة! وإنْ يَكُنْ ثمّةَ وصفٌ لمثل ذلك التّوجُّه في وَصْمِ "العربيّة"، فَلَنْ يكون سوى أنّه توجُّه "عُنْصريٌّ" يَتنكّر في لَبُوسِ "العِلْم" لتبرير نُزُوع "فِكْرَوِيّ" لا يُضْمَر على هذا النّحو إلّا من شدّة سُخْفه. ولأنّ الأمر يَتعلّق بنُزوع "فِكْرَوِيّ" يُحرِّك مُعتقدِين ويُعبِّئ أتباعًا، فإنّ أصحابه يَنْسون حقيقةَ أنّ الألسن جميعا أنساقٌ "صُوريّةٌ" لا تُوصف أو تُعلَّل، من الناحية العلميّة، إلّا بما هي كذلك. أمّا ربطُها بتاريخ مُعيَّن بصفته يَحمل سماتٍ 0جتماعيّة وثقافيّة مُحدَّدة، فأمرٌ يَتجاوز بها ما هو "لُغويّ" ويَنْقُلها إلى مجال "التّداوُل" حيث يَمتنع أن يكون أيُّ لسان "خالِصًا" و"بريئًا" بِما هو مُمارَسة عَمَليّةٌ تبقى مُحدَّدةً بالضرورة في 0رتباطها بأحوالِ وسياقاتِ المُتكلِّمين والمُستعملِين. وإذَا كان لا يَصِحّ عِلْميًّا أن يُفاضَل بين الألسن بما هي أنساق "رمزيّةٌ" (لكونها تَتكافأ أو تَتساوى جميعا من هذه الناحية في إطار ما يُمكن للُّغةِ الطبيعيّة أن تُؤدِّيَه من وظائف تَبْليغيّة وتدليليّة وتوجيهيّة)، فإنّ مَجال المُفاضَلة بينها ينحصر في المُستوى "التّداوُليّ" الذي يَجعلُها تَتباينُ من جهةِ توفُّر الشُّرُوط الموضوعيّة المُحدِّدة خارجيّا لاكتسابها و0ستعمالها بهذا القدر أو ذاك من التّمكُّن والإجادة. وإلّا، فما هو ذاك "اللِّسان" الذي كان منذ البدء - وبَقي دوما- نتاجَ "العقل" و"الحضارة" و"التّقدُّم" كما يَتوهّم الخُصوم الذين يُريدون من "العربيّة" أن تكون، من هذه الناحية، 0ستثناءً يُؤكِّد قاعدتَهم الفاسدة؟ هل يَملك هؤلاء أن يُثْبِتوا أنّ كل الألسن الأُخرى تشتغل "ذاتيّا" من دون مُستعملِيها الذين لا يَتأتّى لهم ذلك إلّا بقدر ما يَتفانَوْنَ في توفير كل الشُّروط المُناسبة لجعلها ناجعةً تداوُليّا ومُتجدِّدة وظيفيًّا؟ ومن أجل ذلك، فإنّ الحقيقةَ الأُخرى التي يَتناساها خُصوم "العربيّة" هي النّاس لا يَشتركون تداوُليّا في "اللُّغة" كما يَشتركون في شيءٍ قد قُسِمَ بينهم بالتّساوي (إنْ كان هناك بالفعل شيء مُشترَكٌ بينهم على هذا النّحو حتّى لو كان ذلك "العقل" نفسُه المُتوهَّم كاستعداد طبيعيّ مُعْطًى إلى الجميع بالسويّة!)، وإنّما يَكتسبونها ويَستعملونها في ظل شُروطٍ مُتفاوِتةٍ ومُتغيِّرةٍ تفرض عليهم أن يَتنازعوا باستمرار حول "مشروعيّة" ما يَأْتُونه من كلام. ووحده من يَجهل (أو يَتجاهل) واقعَ المُمارسة اللُّغويّة كواقع تَفاوُتيٍّ وتَنازُعيٍّ يُمْكِنه أن يَنظُر إلى 0هتمامه بهذه "اللُّغة" أو تلك كما لو كان 0هتماما "مُعْرِضًا" تماما عن كل الأغراض وخالِصًا من كل الشّوائب. ومن هُنا، فإنّ من يُريد جعل "العربيّة" لُغةً «مَوْصُومةً» بلا نظير لا يفعل شيئا سوى فَضْح توجُّهه "المُغْرِض" في 0نشداده المُزدوج إلى صيرورته الخاصة وإلى مَصلحته الشخصيّة اللّتين تُحدِّدان كلتاهُما مُمارَستَه اللُّغويّة بصفتها مُلاحَقةً لرهانات مُعيَّنةٍ دون غيرها! ومن أدرك حقيقةَ 0شتغال "اللُّغة" تداوُليّا، فلن يَصعُب عليه أن يَرى أنّ ما تُتّهم به "العربيّة" من قُصور يَجد أسبابَه في مجموع الشروط المُحدِّدة واقعيّا لاكتسابها و0ستعمالها بما هي لُغة كأيِّ لُغةٍ أُخرى في عالَم البشر. ولعلّه يَكفي، بهذا الصدد، أنْ يُشار إلى أنّ المجتمعات "العربيّة" - منذ أنْ شَرعت في الخروج من عصر الانحطاط وظهرت فيها بوادر النّهضة (في نهاية ق 19 وبداية ق 20)- قد أنتجتْ مئات من الأُدباء والعُلماء والمفكرين الذين 0ستطاعوا أن يُجيدوا «اللِّسان العربيّ» إلى الحدّ مَكَّنَهم من إنتاج روائع عدّة أُضيفت إلى رصيده البَيانيّ والثقافيّ المعروف. ومُنذئذٍ، تطوَّرت "العربيّة" وتجدَّدتْ بما جعلَها لُغةً "حديثةً" على الرّغم من عدم 0كتمال المشروع النّهضويّ الذي دخلتْ فيه المُجتمعاتُ المَعْنيّةُ باستعمالها. ونجد، في هذا الإطار، أنّ خرِّيج الثانويّ في مُعظم البلدان "العربيّة" كان يَستطيع – منذ عقود- أن يستعمل «اللِّسان العربيّ» ليُعبِّر به عن أغراضه شفويّا وكتابيّا بشكل قويم جدًّا. ولم يَبدأ التّراجُع إلّا في نهاية الثمانينيّات من القرن الماضي بفعل فشل سياسة «التّعريب الأعجم» التي تَلاعبتْ بها أنظمةُ الحُكم الاستبداديّ سواء أتّخذت مشروعيّتَها من فِكْرَى «اليمين المُتأسْلِم» أمْ من فِكْرَى «اليَسار المُتَعلْمِن». ليست المُشكلةُ، إذًا، في "العربيّة" بما هي لُغةٌ، بل المُشكلةُ في مُستعملِيها الذين يَتحدّدُون بالضرورة في علاقتهم بالعاملين على تعليمها وتدبير شُرُوط 0كتسابها. وبما أنّ الظروف المُحيطة ب"العربيّة" هي نفسُها ظروف المجتمعات "العربيّة" في تخلُّفها و0ضطرابها، فإنّ الذين يُريدون أن تكون "العربيّة" مُنْقطعةً عن حاضر النّاس ومُعقَّدةً إلى حدِّ الإعنات تجدهم يُحمِّلُونها ما حقُّه أن يُحمَّل للشروط الموضوعيّة المُتعلِّقة باكتسابها و0ستعمالها. ولهذا، فإنّ ما يُلْصَق ب"العربيّة" من تعقُّد وتخلُّف ليس سوى تَجَلٍّ 0ستعماليٍّ لِمَا هو قائمٌ خارجها كما يُلْمَس، مثلا، في كون نظريّة «النّحو العربيّ» تُعَدّ مُوغِلَةً في التّجريد ومُتشدِّدةً في التّعليل إلى حدِّ أنّ بعض اللِّسانيين الغربيِّين (مثل "تشومسكي") لم يجدوا بُدًّا من إبداء إعجابهم أمام ذلك البناء المنطقيّ المُذْهل. لكنَّ "النّحو"، بما هو توصيفٌ وتعليلٌ لكيفيّة 0شتغال لسان ما، لا يُمثِّل أبدًا بِناءً تامًّا ونهائيًّا إلّا عند الذين يَنْسون أنّه 0جتهادٌ مُحدَّدٌ تاريخيّا ومنهجيّا. غير أنّ ما يُزْعج خصوم "العربيّة"، في الواقع، هو أنّها لُغةٌ لا تَنْفكّ عن ثلاثة أُمور: كونُها أعرقَ وأوثقَ من غيرها، وكونُها لُغةَ "القُرآن" (كتاب مليار ونصف من المُسلِمين)، وكونُها تُمثِّل «المُشتَرَك اللُّغويّ» بين مجموع الشعوب التي سُمِّيتْ لأجل ذلك "عربيّةً". وليس عجبًا أن يَنْصبّ التّشكيكُ على هذه الأمور الثلاثة جميعا. ف"العربيّة" بالنِّسبة للخصوم لُغةٌ «حديثة جدًّا» لا تكاد تتجاوز في عَراقتها القرن الخامس الميلاديّ، فهي عندهم ليست أعرق ولا أوثق من غيرها ؛ بل إنّهم يُنْكرون حتّى كون "العربيّة" لُغةً 0حتفظت مُنْذئذٍ ببِنياتها الأصليّة بما يَجعلُها «اللِّسان المعياريّ الوحيد» الذي لم ينْقطع 0ستعمالُه منذ نحو خمسة عشر قرنا! وهي أيضا ليست لديهم سوى لُغةِ قبيلةِ "قُريش" التي كانت مُتداولةً في المَجال الحجازيّ، وبالتالي ليست ذلك «المُشترَك اللُّغويّ» المزعوم بين قبائل العرب قبل قيام الإسلام، ولا هي بالأحرى ذلك «المُشترَك اللُّغويّ» الذي تَمتدّ جُذورُه بعيدًا لتَشمل حضارات بلاد الرّافدين والشام ومصر. وأكثر من هذا، فهي ليست حتّى «عربيّة أصيلة» لأنّها - في ظنِّهم- مَسكونةٌ بعشرات الألفاظ "الدّخيلة" المنقولة من لُغاتِ الأعاجم المُحيطة بها ؛ وهو ما يُؤكد، في زعمهم، أنّ "القُرآن" نفسَه ليس «بِلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ» (يَذهب السُّخْف ببعضهم إلى حدّ إرسال القول بأنّ لفظ "قُرآن" فارسيّ أو هنديّ مثل عشرات الألفاظ الأُخرى!). لكنّ خُصوم "العربيّة" لا يستطيعون – في غَمْرة تهجُّمهم عليها- أن يَنْفُوا بأدلّة علميّة صريحة كونَها أوثقَ صلةً بلُغات الحضارات المُؤسِّسة تاريخيّا في الشرق الأوسط (لفظ "لسان"، مثلا، هو عينُه "لِشانُوم" في "الآكاديّة" التي كانت مُستعملةً قبل أربعةِ آلاف سنة من ميلاد المَسيح)، وكونَها لُغةَ كتابٍ عُرِف منذ أربعة عشر قرنا بأنّه الكتاب المُؤسِّس والمُقدَّس في "الإسلام"، كما أنّهم لا يَملكون أن يُنْكروا أنّها لُغةٌ مُعترَفٌ بها من قِبَل كُبرى المُنظَّمات العالَميّة، ولُغةٌ رسميّة في أربعةٍ وعشرين دولةً هي التي تُشكِّل ما يُعرَف بالعالَم العربيّ. والفاضح في إصرار خُصوم "العربيّة" على نفي تلك الوقائع أنّهم لا يَكادون يَعمَلُون إلّا على تأكيد ما يُزْعجهم فيها بصفتها كذلك. وبالتالي، فإنّ عراقةَ "العربيّة" وتمكُّنَها ليسا مجرد "وَهْم" كما يَدّعي خصومها، بل تلك حقيقةٌ قائمةٌ يُكلِّفُهم نفيُها أن يَجْهَدُوا باستمرار لإثبات نقيضها باطلا مُتوقِّحًا! وبِما أنّ خُصوم "العربيّة" يَحرصون على جعلها لُغةً "أَعْرابيّةً"، فإنّه يَسهُل عليهم أن يُنَصِّبُوها لُغةً "ماضويّةً" و"رَجْعيّةً" قائمةً بالتّحديد ضدّ "الحداثة". فهي لُغةٌ تَخدُم، في ظنّهم، «الظّلاميّة المُحافظة» ولا تُساعد على تَبَلْوُر «العقلانيّة التنويريّة» بصفتها – في زعمهم- مُتعارضةً مع "الدِّين" ومُرتبطةً ب"العلم" في تَضادّه مع "الإيمان". لكنْ من الغريب جدّا أنّ واقع التّداوُل بالعالم "العربيّ" يَشهد على أنّ مُعظَم ما يُعَدّ ذا قيمة أو مُرتبطا بقيم "الحَداثة" لدى خُصوم "العربيّة" تجده مَصُوغا في هذه اللُّغة التي لا يَتوانَوْن في وَصْمها وتبخيسها: إذْ تُرجمتْ إليها آلافُ الأعمال العالَميّة في الأدب (من هُوميروس إلى آخر الحاصلين على «نُوبل للآداب») والفلسفة (من "أفلاطون" و"أرسطو" إلى "هيدغر" و"دريدا" و"رُورتي") والعُلوم بتَرسانتها المُصطلحيّة (من المنطق وعلم الحساب إلى عُلوم الذّرة والحاسُوب). فما الذي يَغيظُ، إذًا، خُصومَها عليها؟ أليس هو كونُها لُغةً تَتحدّى عواديَ الزّمن على الرغم من تفريط أهلِها وكَيْد أعدائها؟! وإنّ المرء ليَعجب، بَعْدُ، كيف أنّ مُناهضي "العربيّة" لمّا 0ستيأسوا من ضَرْبها في "المشرق" 0نتلقوا إلى "المغرب" حيث صارُوا يُردِّدُون أنّها، بشمال أفريقيا، ليست سوى لُغةٍ وافدةٍ أو مُستوطِنَةٍ. وإنّهم ليَغفُلون (أو يَتغافلون) عن أنّ وُجودَها بهذه المنطقة قائمٌ منذ أكثر من عشرة قُرُون بِما يُؤكِّد أنّها اللُّغة "الأساسيّة" في الحضارة «الإسلاميّة/العربيّة» (هي اللُّغة "الأساسيّة" لأنّ كل النُّصوص "المُؤسِّسة" والكُبرى، في هذه الحضارة، مكتوبة بها). فهي ليست دَخيلةً بالقدر الذي يَظنُّون، لأنّ الثابت أنّها أُختٌ شقيقةٌ للُغةِ المصريِّين القُدامى، كما أنّها شقيقةُ لُغةِ "الكنعانيِّين" الذين سمّاهم الإغريق "فينقيِّين" والذين 0ستوطنوا بمُعظم سواحل البحر الأبيض المتوسط (خصوصا بشمال أفريقيا حيث بَنَوْا «قَرْت حَدَثْ» التي صارت «قَرْطاج» والتي هي نفسُها «القَرْيَة الحديثة» بالنِّسبة إلى «القرية العتيقة»!) قبل ألفيْ سنة من مَجيء "العرب" فاتحين باسم "الإسلام". وحتّى لو وضعنا كل هذا بين قوسين (كما يَشتهي خُصوم "العربيّة")، فإنّ وُجودها في هذه المنطقة ليس كما يُريدون تصويرَه. فليست "العربيّة" لُغةَ غُزاةٍ أو لُغةً فُرِضتْ بتعريبٍ قَسْريٍّ باسم «القوميّة العربيّة»، بل هي لُغةُ كتاب المُسلِمين وحضارتهم التي سادتْ في العالَم الوسيط والتي تَلْمذ لها الأُروبيّون أنفسُهم خلال عصر نهضتهم (بالخصوص من خلال إشعاع الحضارة الإسلاميّة/العربيّة بالأندلس). وعموما، فإنّ وُجود "العربيّة" بشمال أفريقيا لا يُضاهِي فقط وُجود "الإنجليزيّة" بأمريكا الشماليّة (إلى جانب "الفرنسيّة" في كندا) أو "الإسبانيّة" و"البُرتغاليّة" بأمريكا الوُسطى والجنوبيّة، بل يَفُوقُها جميعا لأنّها اللُّغة الأساسيّة في الحضارة «الإسلاميّة/العربيّة» التي كان الانتماءُ إليها - ولا يزال منذ نحو 0ثْنَيْ عشر قرنا- مُهيمِنًا على شُعوب هذه المنطقة. ولا يَخفى أنّ تجذُّر "العربيّة" هذا في شمال أفريقيا لا يَدعُ لغيرها من خيار إلّا المُناوَرة من الهامش طلبًا لتهوينها وتبخيسها بما يُيَسِّر التّمْكين للُّغات المُنافِسة لها. ولعلّ أشدّ ما يَبتهج له خُصوم "العربيّة" هو قولُهم أنّها ليست مُستعملةً في الحياة اليوميّة. ذلك بأنّهم يَفترضون أنّ "الفُصحى" يجب، عموما، أن تُستعمَل من قِبَل الإنسان العاديّ. وبِما أنّ «العربيّة الفُصحى» ليستْ كذلك في زعمهم، فهي لُغةٌ غير قابلة للاستعمال في الواقع الفعليّ الذي يَدّعون أنّه لا يَعرف سوى "العاميّات" على 0ختلافها في المجتمعات "العربيّة" (لا يخفى أنّهم لا يُفضِّلُون "العاميّات" على "الفُصحى" إلّا إمعانًا منهم في ضربها وإضعافها، وليس لأنّها مُنْقطعةٌ عنها كُليّا كما يُشيعون!). وما يَجدُر الانتباه إليه، بهذا الخُصوص، هو أنّ أصحاب هذا الاتِّهام يُمارسون تضليلا مُضاعَفا حول الفَرْق بين «اللِّسان المعياريّ» (أو الفُصحى) و"العاميّة". إذْ في عالم الألسن البشريّة ليس هُناك لسان معياريّ (أو "فُصحى") من دون عاميّات: لا في فرنسا، ولا في بريطانيا، ولا في أمريكا، ولا في ألمانيا، ولا في إسبانيا، ولا في الصين. وكل ما في الأمر أنّ البلدان التي تَقِلّ فيها الأميّة وتكون فيها المدرسة ساهرةً على ترسيخ «اللِّسان المِعْياريّ» يُلاحَظ أنّ «المشروعيّة اللُّغويّة» لا تكاد تَتحدّد إلّا بالنسبة إليه بما هو رأسمال ثقافيّ (ورمزيّ) ذُو 0متياز، مِمّا يجعل المُتكلِّمين يجتهدون في الاقتراب من لُغة المدرسة تلك. وأكثر من هذا، فإنّ «اللِّسان المعياريّ» لا يكون أبدًا هو اللّسان الوحيد المُهيمن في واقع التّداوُل، وإنّما تكون فيه مُستويات 0ستعماليّة مُتبايِنة باختلاف المَجالات والفئات. ولذا، فإنّ من يَدّعي أنّ "العربيّة" غير مُستعملَة في الواقع اليوميّ يَتجاهل حقيقةَ التّنوُّع الكبير في أيِّ 0ستعمال لُغويّ (حتّى لو كان في إطار لسان معياريّ ما)، كما يَتغافل عن آفات الأُميّة ومُشكلات «التّعليم اللُّغويّ» في مُجتمعات تَفتقد سياسة للتّخطيط والتدبير اللُغويّين بسبب 0فتقادها لغيرها من السياسات في المَجالات الأخرى. ولا بد، هُنا، من تأكيد أنّ «التّعليم اللُّغويّ» قد صار (حتّى في المجتمعات المتقدمة) يُواجه صعوبات كبرى بفعل تنامي مُشكلات «التّعدُّد اللُّغويّ والثقافيّ» (وهو ما يُؤكِّد سُخْف من يُريد حصر مُشكلات «التّعْليم اللُّغويّ» في "العربيّة" لجعلها تبدو كما لو كانت "مُعقّدةً" فقط بما هي لُغة!). ولكون خُصوم "العربيّة" لا يَرْضون بأقلّ من إماتتها وإقبارها، فإنّهم يَحرصون على عَرْض (وفرض) أنفسهم بصفتهم يُدافعون عن «قضيّة الشّعب» مُمثّلَةً في حقّه المُتعلِّق باكتساب و0ستعمال اللُّغة (أو اللُّغات) التي تُلبِّي حاجاته. لكنّهم، كما لا يَستطيعون نفيَ كون "العربيّة" تَدخُل ضمن حاجات شعبٍ دينُه "الإسلام" وكتابُه "القُرآن" و0نتماؤُه الأساسيّ «إسلاميّ/عربيّ»، فإنّهم لا يَملكون أن يُخْفُوا مَصالحهم الخاصّة إلّا بالظهور بمَظهر المُدافع عن لُغةٍ يُسمُّونها «لُغة الهُويّة» (كأنّها لُغةُ «الذّات/الأنا» بلا آخَر يُغايرها ويُباينها عَمَليّا وتاريخيّا حتّى لو كانت مُرتبطةً به نَسَبيّا، وكأنّ تحدُّدَها بالنِّسبة إلى "اللُّغة" عموما لا يكون إلّا أُحاديّا!) أو عن «لُغات الانفتاح» (التي يُراد لها أن تكون "المَرْجع" في كل «مشروعيّة لُغويّة»!). وبِما أنّ الأغراض التي يَرمي إليها خُصوم "العربيّة" تكشف عن توجُّههم "الفِكْرويّ" المُناهض لها باعتبارها "الوسيط" المُعبِّر عن «الانتماء الإسلاميّ-العربيّ»، فإنّهم لا يُصرُّون على تبخيسها إلّا بافتراض أنّهم يَمْلكون حقًّا "البديل" المُناسب للُغةٍ لم تَعُدْ (بل، كما يَتراءى لهم، لم تَكُنْ قَطّ) صالحةً للاستعمال. فما هي "اللُّغة" (أو اللُّغات) التي تَستجيب - من دون تكاليف باهظة زمنيّا و0سترتيجيّا- لحاجاتِ سُكّان شمال أفريقيا بصفتهم "مُسلِمين" في أكثريّتهم و"مُتَعربِّين" في لسانهم وثقافتهم؟ هل يُتصوَّر أنّ هُناك لُغةً ما غير "العربيّة" قادرة، في المدى المتوسط أو البعيد، على تحقيق أهمّ الحاجات التعليميّة والتّواصُليّة بمُجتمعات هذه المنطقة؟ يبدو أنّ خصوم "العربيّة" قد حَسَمُوا أمرَهم بشأن ذلك إلى الحدّ الذي صاروا يُريدون أيَّ لُغةٍ تُمكِّنُهم من الانفكاك عن كل ما هو «إسلاميّ-عربيّ»، لأنّهم في الواقع لا يَتحركّون إلّا بعَدائهم السّافر أو المُتنكِّر له. ويبقى من حقِّهم أن يَحلُموا بما يَشاؤُون، لكنْ ليس من حقّهم أبدًا أن يَسعوا لعرض (وفَرْض) أحلامهم - ولو بمُمارَسة التّضليل- على كل من سواهم، كما لو كانت الأحلام الوحيدة الضّامنة للحياة السعيدة إنْ عاجلا أو آجلا! وفيما وراء ذلك، فإنّ مُستقبل "العربيّة" - في كل المجتمعات المَعْنيّة باكتسابها و0ستعمالها- يَبقى رهينًا بالقيام بعدَّة إصلاحات أهمّها ثلاثة أساسيّة: إصلاح إملائها وكتابتها معياريّا بإدخال "الصوائت" كجزء لا يتجزّأ من ألفبائها ؛ إصلاح نَحْوِها بجعله مُيسِّرا لتعلُّمها وإتقانها ؛ إصلاح شُروط تَلقِّيها وتعلُّمها وَفْق أحدث المُستجدّات (يُمكن الرجوع إلى مَقال «العربيّة أمام خطر الإماتة: عشر حاجات مُستعجَلات!»). وكل هذه الإصلاحات يجب أن تَصُبّ في 0تِّجاه تمكين "العربيّة" من أن تصير لُغةَ تداوُلٍ وإنجازٍ في مُختلف ميادين الحياة العمليّة حيث تعيش اللُّغة وتُواجِه فعليّا مُشكلات الاستعمال. وإنّه ليَنبغي أن يكون بيِّنًا أنّ العمل لصالح "العربيّة" لا معنى له ولا فائدة منه إذَا لم يُنْجَزْ برُوح واقعيّةٍ تَستحضر إمكانات «اللِّسان العربيّ» التي ترتبط بمدى الوعي بحُدوده الخاصة بما هو لسانٌ طبيعيٌّ لا يُكتسَب ويُستعمَل إلّا بالنسبة إلى شُرُوط تداوُليّة مُحدَّدة (ومُحدِّدة)، شروط تقبل التّطوير والتحسين بقدر ما يُمكن أن يَأتيه مُستعمِلُو هذا اللِّسان من جُهود نظريّة وعمليّة مُناسبة لحاجاتهم في التّفكير والتّعبير به، تماما كما يفعل كل أصحاب الألسن المُهيمنة عالميّا. [email protected]