من المرتكزات التي تجذرت في البناء الحضاري للمدرسة المغربية تاريخيا أن الشخصيات العظيمة التي أثرت بقوة في مسيرة وحركة المجتمع والتاريخ لا تموت ولن تموت، حتى وإن فارقت أجسادها الحياة بذلك المعنى الحركي، لأن إنجازاتها الاستثنائية تمنحها حياة أزلية وخلودا أبديا يمنحها استمرارية في الوجود، يلازم المعاني الإنسانية بفوائدها وبدلالاتها وبمعانيها التي تمنح الإنسان حياة أخرى، وهذا ما لمسناه في حركة علمائنا كنموذج أغسطين الذي ظل شامخا في الوجود العالمي بما تركه من أعمال إلى الآن، كما لمسنا ذلك أيضا في شخصية القاضي عياض، ومع الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كما ترسخ هذا المعنى في التاريخ المعاصر مع رواد المقاومة مع الشريف سيدي امحمد أمزيان، ومع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومع موحا أوحمو الزاياني، فالتراث المقاوم الحي لهؤلاء وغيرهم من رواد حركات المقاومة والحرية ضد أعداء القيم الإنسانية والكونية والمجتمع، قد خلد مفهوم الحياة الأبدية التي استمرت مع هؤلاء بعقولهم ونفوسهم وإخلاصهم وشهامتهم ووفائهم، وهو ما نجد أن القرآن الكريم نفسه قد حث عليه في موارد كثيرة حينما اعتبر أن الذين يعيشون بحواسهم من أجل إغناء أجساهم فحسب هم ميتون ولذلك وصفهم في كثير من الآيات بأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون، كما وصفهم في موارد أخرى بأن لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، وشبههم بالأنعام ، بل هم أضل، كما أورد في مورد آخر بأن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، فالقرآن الكريم مليء بهذه الدلالات التي تركز على مركزية القيم الإنسانية والكونية النبيلة التي تمنح للإنسان حياة أخرى-مع استثناء الأنبياء والرسل الذين وهبت لهم الإرادة الإلهية مواهب خارقة حسب القرآن الكريم- بهذه الدلالات المليئة بالحياة والحنان والعفاف نعانق الفنان المبدع أحمد الطيب العلج، الذي استطاع بحق أن يجعل من حياته وحركته نبراسا مغربيا يذير طريق كل متذوق، والذي لم يستطع تبدل الزمن، ولا تغير الموديلات ولا تفاوت الأعمار وتعدد الألسنة بين دارجات متعددة من داخل وطن واحد إلى جانب أمازيغيات وجغرافيات متنوعة داخل الفضاء والوطن الواحد، لم يستطع كل هذا أن يغير أو يطمس أو يخفت إشعاع الفنان الكبير أحمد الطيب العلج الذي رسخت مسيرته بحق المعالم الفنية المغربية التي أصبحت تعيش التهديد والوعيد، وحينما نقول المدرسة المغربية، فإننا نتحدث عن ذلك الإنسان المغربي الحقيقي الذي يضع الأمور في نصابها، ولا يعيش الخلط الغريب والعجيب، الذي أصبح يجمع الجهالة الجهلاء والدناءة السياسوية العمياء، والضلالة الأصولية النكراء، لقد كان الإنسان المغربي يمارس حياته الفنية بكل حرية، يرقص رقصاته العادية بكل نشوة وحرارة وافتخار ونخوة في عرس أو في حفل ختان أو ميلاد وسط العائلة بكل اعتزاز، ويغني أغانيه الفسيفسائية المغربية الموزعة بين الأمازيغية وقصائد الشعبي الدارجة من الملحون وأشعار زجلية أخرى موزعة حسب لكنات دارجات مناطق المغرب المزخرفة، وهذا الإنسان المغربي نفسه نجده يلج الجامع بكل تفان وخشوع يصلي صلواته،ويردف صلاتي المغرب والفجر بقراءة الحزب القرآني الجماعي بكل حرارة، وبنغمات مغربية خاصة ومدهشة، وفق قواعد تجعل السامع وكأنه ينصت لشخص واحد، تكتسي هذه القراءة الجماعية القرآنية صبغة الشركي في الشرق المغربي، كما تكتسي هذه القراءات القرآنية الجماعية نغمات الريف وجبالة والأطلس،والملحون بفاس ومكناس وتافيلالت، وأحواش بسوس، كما نجد هذا الإنسان المغربي نفسه إبان حفلاته واحتفالاته يفصل بين ليلة قرآنية يحييها الطلبة بأحزاب القرآن الكريم، وبأمداح قصائد مغربية بالدارجة والفصحى والأمازيعية إلى جانب الهمزية والمنفرجة والفياشية، وبين ليلة أخرى فنية غنائية خالصة تملأها الأغاني والأهازيج والرقصات والموسيقى والغرامات على ألسنة فنانين مغاربة تخرجوا من الزوايا والجوامع ومن الأزقة والدروب والبوادي والمقاهي التقليدية، التي اشتقت ورضعت منها الأغنية المغربية بكل عفوية بدون تصنع أو تكلف أو تصنع، ونذكر منهم الفنان الأمازيغي "موذروس" والفنانة "فاضمة نلعباس" من الريف وغيرهم وغيرهن الكثيرون من كافة مناطق المغرب، ولم يسبق لهؤلاء أن اطلعوا على كراسات التعبئة الأصولية، ولا سمعوا عن شيء اسمه الجماعات الإسلامية..... هذا هو الإنسان المغربي الأصيل الذي يحيي لياليه القرآنية بكل روحانية وخشوع وبمدائحه وحضرته، هو نفسه الذي يحيي لياليه الغنائية ورقصاته وسط العائلة والحومة والقبيلة من نساء ورجال من مختلف الأعمار أطفالا وشيوخا وشبابا وكهولا، وبحضور الجميع بدون عقدة من فلاحين وفقهاء ومعلمين وتجار وصناع تقليديين، من هذه الطينة المغربية الأصيلة تخرج الفنان والمبدع الكبير أحمد الطيب العلج الذي شدت على أياديه وبحرارة كلمات وعبارات الرسالة الملكية التي عكست بحق وبحقيقة الأضواء الكاشفة التي سطعت بها أنوار شمس الفنان المغربي الأصيل أزيد من ثمانين سنة لتشكل بذلك ذاكرة حية ومتحركة في واقعنا تكسر ديناميتها وحركيتها كل الحواجز المصطنعة والمهربة التي أعلنت فشلها أمام أصالة الهوية المغربية الأصيلة، التي كانت وما زالت ترفض كل الأصوات التي حاولت أن تقف من المغربة موقف الأصولية، وموقف الأستاذية المزايدة على عقائد الناس وعلى عباداتهم، والتي حاولت أن تظهر أنها أمام "فن متسخ" جاءت لتطهره، وأنها أمام "فن منحرف" جاءت لتهديه إلى الصراط المستقيم، وتخرجه من الظلمات إلى النور، وتنقذه من "جاهلية القرن العشرين" إلى "طهارة الحركات المتأسلمة الوهابية"، هذه الحركات التي كفرت بالملحون المغربي وبالزجل وبالأغنية المغربية عامة وبالمسرح المغربي، هذا الرأسمال المغربي الجوهري والجواهري الذي استثمره القيدوم أحمد الطيب العلج أحسن استثمار، والذي ظل محافظا على بصماته المغربية، ولم يكن له شبيه في العالم، لأنه كان إبداعا مغربيا خالصا، ولذلك كنت وما زلت أرفض أن يشبهه أحد الفرنسيين ب " موليير المغرب"، فمع احترمنا للشخصيات الفنية العالمية وخصوصية مدارسها، فإننا نعتبر أن العلج المغرب سيظل مغربيا، ولا يمكن أن يشبهه لا موليير ولا المتنبي ولا درويش المغرب، فقد ظل الشاعر الزجال والفنان والمسرحي والغنائي مغربيا، لم يعرف الاصطناع ولا التكلف أو التظاهر، كما فعل الشرقانيون القومجيون في أشعارهم وفي رواياتهم وقصصهم ونصوصهم المسرحية، أو كما فعل بعض الفرنكفونيين الذين استكبروا على الثقافة الشعبية المغربية، أو كما فعل بعض الإسلامويين وما زالوا يفعلون حينما كفروا بالتراث المغربي وبالفنون المغربية الدارجة والأمازيغية والحسانية الصحراوية، وهم يهربون النماذج الأصولية المظلمة والمغلقة التي ترقص على الحبل العالمي للإخوان المسلمين بعناوين " الأدب الإسلامي والأناشيد الإسلامية والفن الإسلامي، والشعر الإسلامي" ، والتي أقل ما يقال عنها أنها نماذج مكفهرة ومزمجرة ومخشوشنة وجافة تبتعد كل البعد عن دلالات ومعاني الفن وفلسفته والحيوية والنشوة التي تسكنه، وهي تمارس الاستكبار والتكبر على المغاربة من رواد المدرسة المغربية لأنها تمنح لنفسها عنوان "المنقذ والمخلص والمطهر"، فقد ظل الطيب العلج مغربيا طيلة حياته، ولم يتلون بألوان اصطناعية، فأصبح بذلك مرآة تعكس التراث المغربي وفنونه وشعبه بإخلاص تام، مع إضفاء بصماته وإبداعاته الخاصة، ولنا أن نتساءل: هل كان إبداع وأدب وزجل وملحون ومسرح الفنان العلج كافرا أو ليس إسلاميا؟ حتى يأتي المتأسلمون ليبشروا بالحديث عن " الأدب الإسلامي" و عن " الفن الإسلامي" و " الأناشيد الإسلامية"؟ وهل يمكن لهؤلاء وعبر جمعياتهم المصطنعة ومنها جمعيتهم الموسومة ب : " الفن لكل المغاربة"، على وزن:" تمازيغت لكل المغاربة"- ليتبين أن هؤلاء سائرون في مشروع بمنشار واحد و بأنياب واحدة- أن يمارسوا الأستاذية والبابوية على فنان مغربي ذو تاريخ عريق في حجم الرائد الكبير أحمد الطيب العلج؟ ومما يبين أن كلمات العزاء التي أطلقها بنكيران في حقه تعد رياء خالصا وقحا هو أن حركة بنكيران – التوحيد والإصلاح- وحزبه وكل جمعياتهم الموازية المتأسلمة والمصطنعة فشلت في ميدان الفن أن تنتج لنا فنانا يسير على نهج أحمد الطيب العلج فبالأحرى أن يكون مثله، لينبعث السؤال: لماذا يا ترى فشلت في ذلك؟ والجواب واضح وهو : أنهم لا يؤمنون بالمدرسة الفنية المغربية، منذ بزوغها وإلى الآن، كما لا يحضون ولا يحثون أتباعهم بالسير على منوالها، بل إنهم يعملون على محاربتها واجتثاثها واستئصالها، ولعل ما يبرهن على قولنا بصورة أوضح تلك الطامة العظمى والداهية الشؤمى التي وقعت الأسبوع الماضي في وجدة، حينما تقدم منظمو حفل تكريمي لبعض رجال التعليم بطلب للقاعدة الأصولية التي سماها مصطفى بنحمزة ب " مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية" والذي أقامه على أراضي حبوس وقفية وبتمويل وكالة تنمية الجهة الشرقية، والجماعة الحضرية لوجدة، فقد تقدم منظمو حفل تكريم لفئة من خيرة رجال التعليم المحالين على التقاعد، وتكريم بعض الأساتذة المكونين الذين أطروا خيرة رجال ونساء التعليم، لكن المفاجأة كانت قد نزلت عليهم كالصاعقة حينما رفض مسيرو المركز الذين عينهم بنحمزة، ضمن الجمعية والإدارة الإخوانية المصطنعة للمركز المزعوم طلب رجال التعليم، وسبب الرفض هو أن رجال التعليم كانوا قد وضعوا في برنامجهم التكريمي مقاطع من الطرب الغرناطي، وهنا نسأل الدكتور بنحمزة وإخوانه وأخواته: متى كان الطرب الغرناطي حراما حتى تمنعون نشاطا لأجله في مركز بني على أراضي الأوقاف؟ ولماذا لم يحرمه علماء القرويين الأجلاء وفقهاء المدرسة المغربية الأندلسية منذ قرون؟ أم أنه هنا يسقط القناع عن القناع لتتعرى معالم الوهابية وأخواتها في مشروع بنحمزة والريسوني وبنكيران؟ كما تبين هذه الفضيحة وغيرها أنهم مازالوا يكفرون بالهوية المغربية، بكل ما تحمله استقلالية هذه الهوية المغربية من خصوصيات موسيقية فنية وأدبية وتاريخية وفقهية وعمرانية وجمالية، كما أنهم لا يؤمنون بفلسفة الفن كإبداع حر ومستقل يحمل فكرا وثقافة ، بل ينظرون إلى الفن- إن سمحوا به تجاوزا واستثناء- على أنه مجرد آلية للتعبئة الإيديولوجية والعقائدية والمذهبية الإخوانية الوهابية، ولا يسمح له خارج التعبئة بأي حرية ولا بأي معنى، إضافة إلى أنهم يقدمون أنفسهم بأنهم مجرد فرع لتنظيم إخواني عالمي يسوق مشروعا مهربا ومستوردا بتفاصيله الشرقية الخالصة ، فلا يجوز لهم أن يغيروا منه أي شيء، لأنهم لا يتمتعون باستقلالية حقيقية من داخل الشخصية المغربية وهويتها الحضارية والثقافية لتكون لهم حرية التصرف. هكذا نقول للمتأسلمين وعلى رأسهم بنكيران في عبارات العزاء التي أطلقها في حق عميد من عمداء، وعماد من أعمدة المدرسة المغربية الفنية الحقيقية ظنا منهم أن أحمد الطيب العلج قد توفي، ليلحق به ما تبقى من عمداء وقيادمة الفن المغربي، حتى يتخلصوا من قوة المدرسة المغربية الفنية فإنهم واهمون، لأننا لا نقبل ولن نقبل عزاءهم هذا ما دمنا نؤمن بأن الفنان أحمد الطيب العلج ما زال حيا وسيظل حيا، بإبداعه وببصماته التأسيسية من داخل الهوية الفنية الراسخة، ببصماتها المتنوعة والمتعددة والحية والمتجددة في رسالتها التاريخية والحاضرة والمستقبلية، وفي جغرافية البلد ومؤسساته، وفي الدين والدنيا، فقد تستطيعون أيها المهربون الدينيون أن تدفنوا أجسادنا وتمنعوا أنشطة فنوننا، لكنكم لن تدفنوا هويتنا وتراثنا وخصوصيتنا ومدرستنا وفنوننا، ولن تبتلعوا دولتنا ولا مؤسساتنا، والله على ما نقول شهيد.