1) لا خلاف بين الإسلاميين على اختلاف مشاربهم وتعدد اجتهاداتهم أن الشريعة التي أنزلها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع والانقياد، وذلك لترادف النصوص القطعية الدالة على ذلك الوجوب، مثل قوله تعالى:(ثمّ جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا)، وقوله سبحانه:(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه من أولياء، قليلا ما تذكرون)، وقوله عز وجل:(الذين إن مكنّاهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور)، والآيات في هذا المعنى كثيرة واضحة الدلالة. لكنهم اختلفوا في الوسيلة الموصلة لتطبيق أحكام الشريعة بعد تعطيل العديد منها على يد الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين في القرن الماضي، ونشوء تيارات وأحزاب ليبرالية واشتراكية علمانية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة والتزام المواثيق الدولية التي تنص عليها الاتفاقات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإن كانت مخالفة لأحكام الشريعة القطعية. 2) يعتقد السلفيون (أو جزء عريض منهم) أن الدولة التي لا تحتكم في دستورها لمقتضيات الشريعة فاقدة للشرعية السياسية وإن جاء هذا الدستور برغبة شعبية ليس فيها تزوير، كما أن الحاكم عندهم فاقد للشرعية السياسية والدينية معا إذا لم يحكم بالشريعة، وإن جاء لسدة الحكم باختيار الناس الحر، فمدار الشرعية السياسية عندهم على التزام الدولة والحاكم بتطبيق الشريعة، بحسب الاستطاعة طبعا، وليس مدار الشرعية السياسية عندهم على اختيار الأغلبية كما يقرره النظام الديمقراطي. يقول الأستاذ أحمد سالم:"والسلفية ترى أن الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة فاقد للشرعية السياسية الدينية وإن أتى به لسدة الحكم اختيار الناس، ولا يثبتون فيما نطق به الوحي سياسة تصح بلا شرع يحكمها"(1).ويقول أيضا منتقدا الإسلاميين المنخرطين في اللعبة الديمقراطية:"فالذي أفقد المستبد شرعيته السياسية عندهم (يعني عند الإسلاميين المتنورين) ليس مخالفته للشريعة، وإنما تضييعه لحقوق وحريات شعبه. كما أن الذي أكسب تنحية الشريعة الشرعية السياسية عندهم، هو أنها جاءت بالاختيار الشعبي، بما يدل على أن منوط الشرعية السياسية عندهم هو اختيار الشعب، ولذلك فطاعة النظام والقانون الذي أتى به اختيار الشعب طاعة ملزمة عندهم؛ لأنها هي الطرف الثاني من التعاقد الشعبي، ما يفرغ مضمون الشرعية السياسية عندهم من شرط التزام الشريعة، ويجعل أساس نظام الحكم الذي يصح عندهم أساسا مدنيا لا سلطة للشرع عليه، وهو نفس التصور العلماني لنظام الحكم ومصدر الشرعية السياسية"(1). قلت: وهذا بالطبع سيقودهم لشرعنة العنف والإكراه من أجل إقامة الشريعة التي لم تأت بها صناديق الاقتراع واختيار الأغلبية، يقول بهذا الصدد :"الذي نراه نصا وإجماعا أن إقامة كتاب الله في الناس واجب شرعي، وأن هذه الإقامة تكون بالنصح والبيان، وتكون أيضا بالجهاد والسنان، وأن استعمال القوة واجب ضد من امتنع عن تحكيم الشريعة، سواء كان حاكما فردا أو أغلبية تصويتية، بشرط توافر القدرة وأمن المفسدة الغالبة، فإن أي سلطة حاكمة شرط مسالمتها هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما أقام فيكم كتاب الله)؛ وقد اتفق الفقهاء على أن من منع شريعة من شرائع الله يقاتل لمنعه لها، قال مالك:(الأمر عندنا فيمن منع فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقا عليهم جهاده حتى يأخذوها منه)..."(1). 3) هم إذن يجعلون أصل الشرعية السياسية هو نفس أصل الشرعية الدينية للسلطة الحاكمة، وهو إقامة كتاب الله،بغض النظر عن الاختيار الشعبي، ويستدلون لذلك بأقوال أئمة عاشوا في ظل الدولة الإسلامية التي لم تعرف مرجعية لسن القوانين غير المرجعية الإسلامية، ويذهلون عن المتغيرات الهائلة التي عرفتها البلاد الإسلامية، خصوصا بعد سقوط الخلافة الإسلامية مطلع القرن الماضي ودخول الاستعمار الغربي أرض المسلمين وحصول متغيرات هائلة في بنية الدولة واختراق تيارات لائكية بمرجعيات اشتراكية أو ليبرالية وغيرها النسيج المجتمعي، ونفور الناس من الدولة الدينية سيئة الذكر في أوروبا/القرون الوسطى أو في أفغانستان/طالبان،ولا يفحصون جيدا ما يتيحه النظام الديمقراطي من وسائل سلمية لمساءلة الحاكم أو معارضته وحتى إمكانية إسقاطه، فيحشرون أنفسهم في زاوية ضيقة مع خصوم الديمقراطية، وشرعنة العنف باسم الدين واستبداد الأقلية كما يفعل تنظيم القاعدة ومن يدور في فلكه من التنظيمات الإرهابية التي جرّت على الأمّة المفاسد والأتعاب الكبيرة. 4) في حين يفرّق الإسلاميون الديمقراطيون بين الشرعيتين، فالشرعية السياسية عندهم هي الشرعية الشعبية، أي ما تقرّره الأغلبية، سواء عند وضع الدستور أو اختيار الحزب أو الحاكم الذي يسوسهم، أو عند سنّ قوانين لا تخالف الدستور باعتباره القانون الأسمى، أما الشرعية الدينية للدولة أو السلطة الحاكمة فمناطها التزام الشريعة في الدستور أولا ثم على مستويات التنزيل الديمقراطي لمقتضياتها، وينزعون الشرعية الدينية عن السلطة الحاكمة ذات الشرعية السياسية متى تحللت من شروط تطبيق الشريعة، ويعارضونها ويسعون إلى إسقاطها بالطرق السلمية الديمقراطية من خلال تقديم ملتمس الرقابة في البرلمان أو حشد رأي عام يناصر الشريعة والتعبئة لإسقاط الحكومة بواسطة صناديق الاقتراع أو بالنزول إلى الشارع والمطالبة بإدخال تعديلات على الدستور تتضمّن التنصيص على إسلامية الدولة وعلو مرجعية الشريعة، مع التزام عدم الدعوة للخروج على القوانين الجاري بها العمل أو استعمال العنف وديكتاتورية الأقلية، كما ينزعون الشرعية السياسية عن أي سلطة تأتي من خلال الانقلابات العسكرية ولو جاءت بحاكم مستبد على ظهر دبابة يزعم أنه سيطبق الشريعة، كما هو الحال في سودان/النميري أو سودان/عمر البشير، ويعتبرون الاستبداد باسم الشرعية الدينية أخطر أنواع الاستبداد، وأن الرقابة الشعبية التي تتيحها آليات الديمقراطية ضرورية اكبح جماح الدولة. 5) والإسلاميون الديمقراطيون يعتبرون الأمة آثمة عند الله في مجموعها إذا رضيت بدستور لا ينص على إسلامية الدولة أو على علو مرجعية الشريعة، لكن هذا لا يخول لهم إذا كانوا أقلية أن يستعملوا العنف ضد الدولة أو يسقطوا عنها الشرعية السياسية تبعا لسقوط الشرعية الدينية عنها، وهذا حال الأقليات المسلمة في دول الغرب الديمقراطية، فلا يجوز بحال لهذه الأقليات أن تخرج عن النظام العام في تلك الدول بدعوى أنها كافرة أو لا تطبق الشريعة، علما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(والله لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا نصراني أو يهودي ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار) (صححه الألباني). 6) لكن المؤمنين في الدولة التي لا تلتزم أحكام الشريعة، ليس لهم أن يخالفوا هم أحكام الشريعة ما لم يكرهوا على ذلك وما لم يخلوا بالنظام العام، فإذا كانت قوانين الدولة اللائكية تجيز العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج على سبيل المثال أو تبيح التعامل بالربا أو تسوي بين الجنسين في الإرث أو تجرم تعدد الزوجات أو غير ذلك مما يخالف النصوص القطعية، فإن الأقلية المسلمة في هذه المجتمعات لا يجوز لها شرعنة الزنا في ما بين أفرادها أو التعامل بالربا إلا لضرورة شرعية فلا يجوز لها مخالفة شرع الله، لكن تقييد المباح من أجل احترام النظام العام جائز كما نصّ على ذلك الفقهاء، كما أن تولي الولايات من قضاء وغيره أو المشاركة السياسية في مثل هذه الظروف يخضع للاجتهاد ولفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد. 7) التيار الإسلامي الذي يؤمن بالتدافع السلمي والتداول على السلطة بحسب ما يختاره الشعب، يؤمن بأن تطبيق الشريعة يمرّ عبر سن قوانين في المجلس التشريعي تقدمها الأغلبية التي صوّت عليها الشعب أو بضغط من المعارضة التي تمثل الأقلية أو بتشكيل لوبي ضاغط من داخل المجتمع المدني يطالب بتطبيق الشريعة، وغيرها من الوسائل السلمية التي تتيحها الديمقراطية بآلياتها المتطورة، وفي حال عجز هذه الوسائل عن تحقيق المراد بحيث تمّ رفض التنصيص على ذلك في الدستور أو بسبب وجود لوبي قوي، من رجال الأعمال أو الإعلام أو الجيش أو الجمعيات النسوية أو الفنانين والمثقفين، أو لوبي عرقي علماني قوي أو لوبي ديني مخالف مثل الكنائس في مصر يخشى على مصالحه من تطبيق الشريعة أو يرى ذلك تخلفا وعودة إلى الوراء أو لسبب آخر، فإن التيار الإسلامي الديمقراطي يعتبر في مثل هذه الحال موازين القوى في غير صالحه، حتى وإن كان في السلطة ويملك الأغلبية في المجلس التشريعي، فيعمل إذ داك على تشكيل رأي عام مدني يطالب بتطبيق الشريعة ويعمل مع باقي الفرقاء على تنزيل ما يمكن تنزيله، مصداقا لقوله تعالى:(فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله سبحانه:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" وقوله : "ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه"، والتيار الإسلامي الديمقراطي يرفض العنف والإكراه على تطبيق الشريعة لأن ذلك يؤدي إلى الفتنة وضياع الحقوق والاحتراب بين فصائل الأمة. 8) ثم إن الإسلاميين الديمقراطيين يعتبرون النقاش حول تنحية الشريعة من الدستور نقاش نظري غير واقعي في ظل الصحوة الدينية الكبيرة التي تعرفها البلاد الإسلامية، وصعود نجم الإسلاميين مع مجيء الربيع العربي، فكأنما نزكي تهمة انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية بعد ركوبهم إياها للوصول إلى الحكم،كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بعصمة هذه الأمة في مجموعها، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وروي عنه من طرق متعددة قوله:( إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا،وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذّ شذّ في النار). 9) إن التفريق بين الشرعيتين الدينية والسياسية للحكومة المنتخبة ديمقراطيا ليس مرده تأثر التيار الإسلامي الديمقراطي بالعلمانية كما يزعم الأستاذ أحمد سالم في مقاله بمجلة البيان "المضمون العلماني في الاتجاه التنويري" (عدد:303)، لكن هذا التمييز موجود في ثقافتنا الإسلامية، فتأمل المقولة المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية :"إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة أو مسلمة"، فهناك نوع اعتبار شرعي للنظام الذي يقيم العدل بين أفراده وإن لم يكن بغطاء ديني، ويدل عليه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رأى ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانة من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم (لو خرجتم الى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وكفى بها من تزكية وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه)، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة الشرعية السياسية بسبب إقامته العدل، وإن لم يكن يحكم بشريعته صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الشرائع التي قبلها، كما أن يوسف النبي عليه السلام تولى تلك الولايه لملك مصر في ظل النظام الجاري به العمل آنذاك، وأقام ما استطاع من العدل، ولم يكن بمقدوره منع كل المظالم التي تجري على عادة الملوك وإن كانت محرمة في شريعة الأنبياء. 10) والعكس أيضا صحيح، فكم من نبي ملك الشرعية الدينية بالوحي الإلهي، لكن قومه لم يستجيبوا له ولم يمنحوه الشرعية السياسية لتنزيل أحكام الشريعة عليهم، وهذا حال أغلب من قصّ علينا القرآن أحوالهم من الأنبياء مع أقوامهم، فإنما استجابت لهم القلة التي نجّاها الله وأهلك المسرفين، ولم يأمر تلك القلة المؤمنة بمقاتلة الأغلبية الفاسقة وحملها كرها على اعتناق الدين الجديد والتحاكم إلى شريعة النبي، بل إن نبي الله "شامويل" عليه السلام لمّا أخبر قومه من بني إسرائيل بأن الله بعث لهم طالوت ملكاً، أخذوا يجادلونه فيه (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال؟)، فلكي يمنحوه الشرعية السياسية عليهم آتاه الله آية ملكه، فضلا عن البسطة في العلم وفي الجسم :(وقال لهم نبيئهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة)، فلمّا رأوا المعجزة،عندها فقط منحوه الشرعية السياسية وجاهدوا معه جالوت وجنوده. ورسول الله صلى الله عليه وسلم، كان وأصحابه مستضعفون في مكة قبل فتحها وقبل الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن الشرعية السياسية ليحكم بينهم بما أراه الله، فلمّا رفضت قريش إعطاءه إياها، ذهب إلى الطائف بحثا عن تلك الشرعية السياسية، فرفضوه وأغروا به سفهاءهم، فكان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، ويقول:(من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي، فإن قريشا منعتني ؟) حتى لقيه الأنصار فبايعوه، ثم هاجر وأصحابه إلى المدينة بعد أن لم يبق فيها بيت إلا دخله الإسلام، وهنا ستتنزّل أحكام الشريعة على قوم ارتضوا الإسلام دينا والقرآن دستورا ومحمدا صلى الله عليه وسلم نبيا. وبعد فتح مكة وانتشار الإسلام، كان النبي وخلفاؤه من بعده إذا بلغهم أن قبيلة ارتدّت عن الإسلام أرسلوا سرية وأمروا قائدها بالتحري والتثبت من إقامتهم شعيرة الأذان، فإذا سمعوا الأذان رجعوا ولم يغيروا عليهم، فكأن الأذان هو الفيصل بين الإسلام والردة فتأمّل. فمن عرف تاريخ سلخ هذه الأمة عن دينها ومكر الليل والنهار من القوى الخارجية المعادية، وكيف تمّ استنبات النبتة الخبيثة "العلمانية" في بيئتها والتمكين لدعاتها وهم أقلية من السلطة ووسائل العنف وسلطة الإعلام والثقافة ووضع برامج التعليم المخالفة لقيمها ومبادئها، لم يسعه إلا أن يرفق بهذه الأمة فيحسن إلى محسنها ويرفق بمسيئها ويعارض بالوسائل السلمية خصوم عقيدتها والمعادين لقيمها من بني جلدتها. 11) وأخيرا نطرح سؤالين على الذين يرفضون التحاكم إلى الاختيار الشعبي إلا إذا كان في صالحهم، ويسقطون الشرعية السياسية عن الحاكم وإن جاء بأغلبية الأصوات لأنه يحكم في ظل دستور لا ينص على إسلامية الدولة أو يفصل بين الدين والسياسة كحال تركيا مع حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان الإسلامي هناك : كيف يتمّ عندكم اختيار الحاكم الذي يطبق الشريعة؟ الأحزاب الإسلامية ذات المشارب المتنوّعة من سلفية وجهادية وإخوانية وصوفية وشيعية وغيرها والتي تدعو لتطبيق الشريعة هل يسلم بعضها لبعض؟ وكيف النجاة من الاقتتال عند التنازع؟