إن تاريخ البشرية عصور وأحقاب. وكل عصر أو حقبة تحكمه روح يصطلح هيجل على تسميتها بروح العصر. و روح العصر ليست أكثر من تلك السنن أو الضوابط التي تتحكم في سير النشاط العام للإنسان في مرحلة زمانية ما و في بيئة مكانية ما. تتميز السنن التاريخية بالثبات النسبي خلال كل العصر أو الحقبة التاريخية المعنية. و من السنن التاريخية التي تحكم عصرنا اليوم في نهاية الألفية الثانية و بداية الألفية الثالثة سنة التدين و سنة الديموقراطية: الصحوة الدينية و الصحوة الديموقراطية. الصحوة الدينية 1. فالصحوة الدينية عالمية و تمس كل الديانات السماوية الكبرى كالإسلام و المسيحية، و الديانات الوثنية الحية كالبودية و الهندوسية.فالصحوة الدينية أو عودة البشرية الحثيثة إلى الدين هي تعبير عن رفض لطبيعة الثقافة و الحضارة القائدة اليوم للعالم. ثقافة و حضارة الحداثة، التي يغلب عليها اليوم الاهتمام بسلطان الشهوة المادية و طغيان عقائد الإلحاد و نكران الغيب بما في ذلك نفي وجود الله سبحانه و تعالى و عالم الآخرة و غيرهما. لقد اهتمت حضارة الحداثة بتحقيق الحاجات المادية للإنسان الغربي في المأكل و المشرب و المسكن و في كل مناشط الحياة. لكن رغم هذا الرفاه المادي عند ساكنة الغرب التي تمثل 20% من سكان العالم فإنها تبدو غير سعيدة و لا تشعر بالطمأنينة و السكينة، أي لا تشعر بجمال الحياة الدنيا. فتعمل على التخلص منها بطرق متعددة. كتعاطي آفات: الانتحار و الجريمة و المخدرات ، و إتيان السلوك غير الطبيعي كزواج الرجل بالرجل و المرأة بالمرأة. فالدخل القومي الأمريكي اليوم يقارب 18 آلاف مليار دولار، و مع ذلك فعدد المنتحرين يومياً بهذا البلد يقدر بثمانين (80) فرداً. و تعشش في هذا البلد كل أنواع الإجرام الأسود. و أعلى دخل فردي في عالم الغرب يوجد بالدول الإسكندينافية، و فيها أيضاً تسجل أعلى نسب الانتحار. فالرفاه المادي لحضارة الحداثة بتحقيق الحاجات المادية واكبه تعميم مجاعة روحية، بإهمال حاجات و أشواق الإنسان الروحية للإهمالها الدين. لقد رسخت فيه الإيمان بأن ما بعد الموت الآدمي عدم مطلق، و أن لا حياة أو دار بعد دار الدنيا ، فترتسم صورة سوداء في وجدان إنسان الحداثة، تكون نتيجتها الإحساس بالعبث و الإحباط و اليأس و الملل فالشقاء فالانتحار فالجريمة. بعكس الدين و الدين الإسلامي بالخصوص الذي يبشرنا بدار الآخرة كحياة أبدية إما في الجنة أو في جهنم. و من هنا نفهم سر عودة البشرية من جديد إلى التدين و الاعتقاد الديني. فهي تبحث عن تحقيق حاجاتها المادية و لكن أيضاً حريصة على تحقيق أشواقها الروحية التي حرمتها منهه حضارة الحداثة اليوم. فنكران الغيب مجاعة روحية و جريمة كبرى في حق البشرية ا ليوم. لأن غاية حقوق الإنسان اليوم و بالأمس و غداً هي سعادة البشر، و هذا ما لم يحققه الرفاه المادي لحضارة الحداثة اليوم ل20% من سكان العالم، ناهيك عن تعميم حضارة الحداثة للفقر أو المجاعة المادية على 80% من سكان كوكبنا الأرضي و المجاعة الروحية. و من هنا نفهم سر البعد الكوني للصحوة الدينية. لكن من هو الدين القادر في الألفية الثالثة على تحقيق أشواق الناس الروحية بدون إهمال لحاجاتهم المادية ؟ إنه الدين الإسلامي بامتياز، فهو العقيدة الوحيدة التي وافقت بين الشأن الديني و الدنيوي معاً بلا إفراط و تفريط. من هنا أيضاً نفهم سر انجذاب الناس في دار الإسلام و في الغرب الحديث للدين الإسلامي و اعتبار الإسلام الديانة الأكثر تطوراً اليوم. و الجديد في بداية الألفية الثالثة أن الصحوة الإسلامية بدأت تنتقل من الدرجة الأولى في سلمها إلى الدرجة الثانية. تنتقل من مستوى الالتزام الشعائري الفردي بالفرائض الخمس و غيرها، إلى المستوى السياسي بالرغبة في الالتزام الجماعي بالإسلام عقيدة و شريعة كمرجعية عليا لإدارة الدولة و الأمة و إنجاز العمران في الأرض. و التعبير السياسي على هذا الانتقال بالصحوة من المستوى الأول إلى المستوى الثاني هو ميلاد الحركات و الأحزاب السياسية الإسلامية في بلاد المسلمين و خارجها، و بداية الدخول في ممارسة الشأن السياسي العام كما سنرى لاحقاً. الصحوة الديموقراطية 2. أما الصحوة الديموقراطية كسنة تاريخية جديدة فهي أيضاً رسالة احتجاج على حكم الاستبداد في بلاد العرب المسلمين و خارجها. و رغبة عميقة عند الأمم في الانعتاق السياسي و التمسك بحقها في السيادة على صنع القرار السياسي العام ببلادها. سبحان الله فقد تزامن ميلاد الصحوتين الدينية و الديمقراطية.إذ انبعثتا معاً في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي. و الموقف الدولي و المحلي و الإسلامي من الديموقراطية في بلاد المسلمين يمكن إدراكه من خلال تتبعه في خمس خطابات حول الديمقراطية اليوم: * خطاب القادة الغربيين المنافق:فهم مع الديموقراطية في بلاد المسلمين بألسنتهم و ضدها بقلوبهم و أفعالهم. ففرنسا هي مهد الثورة الديمقراطية في القرن الثامن عشر، وهي نفسها مجهضة الثورة الديمقراطية السلمية في الجزائر في نهاية القرن العشرين حينما تمخضت الانتخابات على فوز ساحق للتيار الإسلامي في شخص جبهة لانقاد الجزائرية.و الغرب شجع بقوة انتصار الديمقراطية في المعسكر الشيوعي المنهار، و لم يفعل الأمر نفسه داخل الجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفياتي. شجع الأولى لأنها تدخل في اعتقاده في النادي الغربي المسيحي و ترك الثانية فريسة للاستبداد لأنها تدخل في النادي الإسلامي. و لأن الديمقراطية فيها قد تفضي إلى وصول التيارات الإسلامية إلى السلطة عبر الطريق الديموقراطي. و رفض الغرب إضفاء الشرعية على الانتخابات الديموقراطية النزيهة بفلسطين رغم كونها تعبير حقيقي عن إرادة الشعب الفلسطيني، لا لشيء إلا لأنها تتعارض مع إرادة إسرائيل و الغرب في المنطقة. فسقط قناع الغرب المنافق حول الديموقراطية. لكن ربيع الثورات الديمقراطية في عالمنا العربي فرض على القوى الغربية بداية التكيف لربما الاستراتيجي مع إرادة شعوبنا. وهذا أمر في غاية الأهمية. * خطاب حكامنا المستبدين الصادق: فهم صادقون في رفضهم للديموقراطية لساناً و قلباً. و يتذرعون بألف وسيلة من تأجيل الإصلاح الديموقراطي في بلدانهم كزعمهم بضرورة التريث و التدرج و انتظار نضج الشعوب و ضرورات الوضع الاستثنائي... و غيرها من الذرائع الفارغة التي غايتها احتكار السلطة و التفرد بصنع القرار الوطني في بلدانهم. و هو تعبير عن عدم بلوغ دولنا و حكامنا سن الرشد السياسي و التاريخي * خطاب العلمانيين ببلادنا المنافق: فهم مع الديموقراطية حينما تأتي برجالاتهم لكرسي السلطة العامة و يقاومونها بشراسة إن كانت ستأتي برجالات الحركة الإسلامية أي بالقوة الظلامية حسب زعمهم الباطل. * خطاب الإسلاميين التكفيريين المراهق: هذا الرهط من الإسلاميين يعلن البراءة من الديمقراطية باعتبارها مادة و وسيلة كفر. و يعتبر كل ما يأتي من ناحيتها كفر: فالحزب كفر و النقابة كفر و البرلمان كفر و كل مؤسسات المجتمع المدني الواردة من الغرب كفر. و هذا التيار،في اعتقادي، داخل الصحوة الإسلامية المباركة هو تيار المراهقة الفكرية و السياسية و التاريخية بامتياز، و يمثل خطر كبير على زخم الصحوة الإسلامية نسأل الله له السداد و الرشد. فهذه الرؤية قد تمثل ليس خطئاً فادحا فقط. بل خطئاً قاتلاً إن هيمن هذا التيار على المجتمع الإسلامي. فهؤلاء لا يدركون كوننا أمة ملزمة بالتعارف أو بالحوار الحضاري مع باقي الأمم ، بتبادل المعرفة و العون في كل ما فيه مصلحة امتنا الإسلامية. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقام حواراً حضارياً مع أمة تعبد النار و هم الفرس ، بتبنيه لنظام الدواوين الفارسي و باللغة الفارسية لتنظيم شؤون الدولة الإسلامية الفتية . و لم يعتبر ذلك كفراً أو خروج عن الملة. و لم يتبرأ منه أحد من علماء الإسلام. فالديموقراطية كآلية للتداول السلطة بالطرق السلمية منتج حضاري غربي دو قيمة إنسانية و مفيد لنهضة امتنا الإسلامية. * خطاب الإسلاميين الوسطيين: هذا التيار يؤمن بالإسلام كحل لمعضلات العصر، و لكن يؤمن بصدق بان الطريق للنهضة يمر أيضاً عبر التبني لكل الإنتاج الحضاري و الثقافي الغربي ذو القيمة الإنسانية، و في مقدمته الديموقراطية كوسيلة لتداول السلطة و الثروة سلمياً وإعادة الاعتبار لعزة النفس و الكرامة الآدميتين في دار العروبة و الإسلام. و قد أكدت التجارب السياسية للتيار الإسلامي في العقد الأخير من القرن العشرين و بداية العقد الأول من القرن الواحد و العشرين أن التيار الإسلامي الديموقراطي هو التيار الأكثر رشداً و الأكثر نفعاً للبلاد. كما هو شان حزب العدالة و التنمية بتركيا و نظيره بالمغرب و تيار الإخوان المسلمين بمصر و الجبهة الإسلامية بالأردن ، و بباكستان ، و تجربة الإسلاميين بالبحرين ، و أخيراً و ليس آخراً تجربة حماس بفلسطين المحتلة. لقد أكدت هذه التجارب الأولية للتيارات الإسلامية الديموقراطية أنه كلما توسع الهامش الديموقراطي في بلاد المسلمين توسعت حظوظ الصحوة الإسلامية في الوصول إلى السلطة. و كلما توسعت النزاهة و الاحتكام إلى إرادة الشعب بدون تزوير كلما كان المستفيد السياسي الأول من ذلك التيارات الوطنية و الإسلامية المشاركة في العمل السياسي الرسمي و القانوني. واليوم والحمد لله بدأنا نعيش مرحلة الانتقال من الكفاف الديمقراطي إلى الاكتفاء الذاتي الديمقراطي في وطننا العربي. إنه ربيع الديمقراطية وخريف الاستبداد السياسي حلا بين ظهرانينا.لقد حطت رحالها في تونس ومصر وهي تحط رحالها في ليبيا و اليمن وسوريا و الغرب. و البقية تأتي إن شاء الله. لكن المثير للانتباه هو أن الثورة الديمقراطية في المغرب ستأخذ مساراً هادئاً . وهذا إن تم سيكون من عبقرية المغاربة بدون شك. لن أتكلم عن مفاصل الإصلاح الديمقراطي في الوطن العربي عموماً و الوطن المغربي بالخصوص، لكن يهمني الحديث عن فلسفة الإصلاح الديمقراطي عموماً و في المغرب بالخصوص. رأساً أقول أن الفلسفة السياسية للإصلاح ببلادنا هي تسوية تاريخية بين الإسلام وفلسفة الحداثة في البعد السياسي. بالدمج الإيجابي بين مبادئ الحكم و حقوق الإنسان في الإسلام ومبادئ الحكم وحقوق الإنسان في البناء الديمقراطي من جهة.وهذا أمر واجب في كل الأقطار العربية والإسلامية، وتسوية تاريخية بين الإسلام و الديمقراطية و النظام الملكي من جهة ثانية.وهذا يخص الإصلاح الديمقراطي في الأنظمة الملكية وعلى رأسها المملكة المغربية. مبادئ البناء الديمقراطي يتأسس البناء الديمقراطي الحديث على المبادئ التالية: * مبدأ القانونية : أي أن شأن الدولة و الأمة يدار وفق قانون مكتوب أو عرفي يدعى الدستور أو القانون الأساسي للمجتمع. وهذا مبدأ مارسه الإسلام كشريعة وتجربة تاريخية منذ عصر النبوة كما تجسد ذلك في وثيقة الصحيفة بعد الهجرة. وثيقة قانونية مكتوبة تعرف الأمة و حقوق وواجبات الأمة الجديدة في المدينةالمنورة. بل إن الدولة الإسلامية منذ العهد النبوي حتى سقوط الخلافة العثمانية في القرن العشرين حكمت وفق الشريع الإسلامية كدستور للمسلين. * مبدأ فصل السلط المتوازن هو المكون الثاني في النظام الديمقراطي. وفي تجربة الإسلام التاريخية كانت سلطة القضاء الإسلامي مستقلة عن السلطة التنفيذية. وكانت سلطة الفتوى مستقلة عن السلطة التنفيذية للحاكم.و هي بمثابة السلطة التشريعية في البناء الديمقراطي اليوم. * مبدأ التعددية الفكرية والسياسية و التنظيمية هو المكون الديمقراطي الثالث. وكما نعلم فالتعددية المذهبية و الفقهية والفكرية أمر واقع في التجربة التاريخية للحضارة الإسلامية.لكن جوهر التعددية هو الحق في المعارضة والحق في الاختلاف. و عنوان ذلك في الإسلام هو فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. * مبدأ السلطة للشعب أو الأمة هو المكون الرابع في البناء الديمقراطي. وهو الحق في الاستخلاف في الأرض في الدين الإسلامي.وهو حق سياسي أصيل للأمة المسلمة و ليس لفرد بعينه: قال تعالى:[ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(30)] البقرة. [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165)] الأنعام فالعمل السياسي الإسلامي اليوم مطالب بإعادة الاعتبار لحق الاستخلاف في دستورنا الديمقراطي، باسترجاع الأمة لحقها المهدور هذا. فالأمة المسلمة هي خليفة الله في الأرض ، أما اعتبار الخليفة أو السلطان هو خليفة الله في الأرض فهذه بدعة سياسية كبيرة ،لا علاقة لها بالسياسة الشرعية في الإسلام .فالأمة المسلمة هي التي تفوض سلطة الخلافة بالنيابة عن مالك الملك . فالعمل الإسلامي ملزم بالنضال من أجل استرجاع الأمة لملكية أو لرقبة سلطة الدولة ، واسرجاع الحق في تفويض هذه السلطة بإرادتها و بشروطها لأولي الأمر . فهي التي تختارهم و تراقب عملهم و تحاسبهم و تقاضيهم و تقيلهم إن اقتضى الأمر ذلك . لكل هذه المقومات يمكن الدمج الإيجابي بين مبادئ الحكم في الإسلام ومبادئ الحكم الديمقراطي.كما يمكن الدمج الإيجابي بين الإسلام و الديمقراطية ونظام الحكم الملكي بالمغرب.سيفضي لا محالة إلى بناء حكم سياسي مغربي راشد. فعند وفاة رسول الله (ص)، لم يعين آنذاك حاكماً سياسياً للأمة الإسلامية الجديدة.أي لم يعين حلفاً له في الحكم. و في ذلك حكمة سياسية كبيرة و منطقة عفو ورحمة سياسية لنا . كما أن في سكوت القرآن الكريم عن تحديد شكل الحكم السياسي لأمة الوسط ، أهو جمهوري أم ملكي أم غيرهما، أيضاً حكمة ربانية عظيمة للغاية . إنها رحمة من رب العالمين بالأمة المستخلفة في الأرض ، وعلم رباني مكين بأن البيئات التاريخية و الاجتماعية و الجغرافية لدار الإسلام،ما بين المحيط الأطلسي غرباً و المحيط الهادي شرقاً و بحر قزوين شمالاً و البحيرات العظمى بإفريقيا جنوبا، و باقي الكرة الأرضية استقبالاً إن شاء الله تعالى، ستختلف و تتنوع اليوم و غداً. مما يستلزم اختلاف و تنوع أشكال النظم السياسية الإسلامية بدون اختلاف في المضمون الإسلامي لهذه الإمارات أو الدول. فالله تعالى يخبرنا في كتابه العزيز أنه جعل أحد رسله و هو داود عليه السلام نبياً و رسولاً و خليفةً و ملكاً قال تعالى: [وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ...(251) البقرة و قال تعالى:[ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)] ص. و هكذا يجمع داود عليه السلام بإذن الله العليم الحكيم بين الرسالة و النبوة و الخلافة و الملكية .مما يدل على أن الشكل الملكي للدولة الإسلامية مباح و لا يتعارض مع الخلافة كمنهاج و مضمون إسلامي.فالخلافة الراشدة منهاج إسلامي أكثر منها رجالاً عاشوا في مرحلة تاريخة محددة أو شكلاً سياسياً للدولة الإسلامية. كما أن تنوع أساليب اختيار الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم يدل على المرونة التي منحها الإسلام للمسلمين لاختيار شكل الحكم السياسي الملائم لبيئتهم . فسيدنا أبو بكر رضي الله عنه اختير بالشورى المباشرة ، و سيدنا عمر رضوان الله عليه اختير بالتعيين من طرف أبي بكر بعد استشارة مجتمع الصحابة ، و سيدنا عثمان رضي الله عنه اختير بواسطة لجنة الترشيح المعينة من طرف سيدنا عمر، و معاوية بن أبي سفيان بعيد الخلافة الراشدة عين ابنه ملكاً . ثم تليها بيعة المسلمين. وكل هذا تم في بحر أربعة (4) عقود من الزمان على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، و في بيئة جغرافية و اجتماعية و تاريخية واحدة. فماذا يمكننا القول عن بيئات تبعد عن الأصل بمائة و أربعون (140)عقداً من الزمان و آلاف الكيلومترات ؟ و لكن ما لا يجب أن نختلف فيه هو مضمون الحكم الإسلامي . أي الغاية من بناء الخلافة كما أسلفنا في معالم طريق العمل الإسلامي.و التي تصب كلها في غايتي عبادة الله تعالى في الدنيا و الفوز بالجنة في الآخرة.ومن هما أهمية اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في الدساتير العربية و الإسلامية في زمن الربيع الديمقراطي الجاري اليوم. في هذه الحالة يعود السلطان ( الحكم السياسي) قالباً ،قد يكون ملكياً و قد يكون جمهورياً، لا يهم الشكل بل المهم هو أن نملأ ذلك القالب الملكي بشرع الله والشرعة الإنسانية عبر الآلية الديمقراطية. و هذه معركة الحركة الإسلامية الراشدة و الحركة الوطنية بالمغرب وخارجه. ما يهمنا في هذا السياق حتى نحدد طريقة للتعامل مع الملكية كشكل للنظام السياسي ببلادنا هو الدراية بحقوق الإنسان السياسية كما جاءت في الإسلام . وكما جاءت في النظام الديمقراطي في صرح الفلسفة .فكل هذه الحقوق السياسية التي جاءت بها الإسلام كفرائض تؤكد على أن الحكم لله و الخلافة أو السلطة للأمة.كل هذه الحقوق تعطي للأمة الحق في اختيار أولي الأمر أو انتخابهم، و مراقبتهم و محاسبتهم وإقالتهم و مقاضاتهم إن أذنبوا أو أخطئوا.و أولي الأمر اليوم هم قادة السلطات الأربع : السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية و السلطة القضائية و السلطة الدينية و هي السلطة الرابعة ،وهي غير موجودة في النظام الديمقراطي العلماني بالغرب.و التي تستدعي مؤسسة إمارة المؤمنين. سلطة حامي المقدسات أو المحرمات من العبث . فالسؤال عندنا في المملكة المغربية لتوضيح ما أعلاه ، هل يمكن لنا اختيار الملك و مراقبته و محاسبته و إقالته أو مقاضاته إن أخطأ أو أذنب ؟ الجواب بالطبع لا. لأن انتقال السلطة يتم بالوراثة.و هذا جزء من فقه الواقع علينا احتسابه في صياغة مشروع العمل الاسلامي حتى لا نزيغ عن مبدأ الواقعية السياسة اللازمة لنجاح المشروع الإسلامي على المدى المتوسط و البعيد. ما العمل ؟ هل نوقف العمل بمبدأ الاستخلاف والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفرائض سياسية شرعية و ليست حقوق فقط ؟ بالطبع غير جائز شرعاً ، وإلا تكون الحركة أو الحزب الإسلامي قد زاغت عن فقه النص و تفقد صفتها الإسلامية. إلا أن حل هذه المعادلة السياسية ليس صعباً إذا توفرت الطاقة السياسية المبدعة،و الصفاء الدهني و الإخلاص في العقيدة،و توفرت العزيمة السياسية القوية.و الشجاعة الأدبية في اتخاذ الموقف الجاد و الحازم في مثل هذه الأمور المصيرية. حل يسمح بمرور الحرارة السياسية بين فقه الواقع وفقه النص الديني. وفي تقديري أن الخطاب الملكي ليوم 9مارس 2011 قد وضع معالم خريطة الطريق لتحقيق التفاعل الإيجابي بين فقه النص وفقه الواقع. بكل وضوح سياسي ،فلتفادي مراقبة الملك و محاسبته و إقالته و مقاضاته علينا بنضال صبور من أجل تفويت السلطات الثلاث لأولي الأمر. بتفويت صلاحيات السلطة الحكومية للوزير الأول و صلاحيات السلطة التشريعية للبرلمان و صلاحيات الأحكام القضائية للقضاء المستقل . عندها يمكننا تطبيق مبدأ الديموقراطية و الاستخلاف والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، التي تعطي للأمة حق انتخاب أولي الأمر هؤلاء، و مراقبتهم و محاسبتهم و إقالتهم و مقاضاتهم إن أذنبوا أو أخطئوا . وهذا الشكل من الحكم السياسي هو ما اصطلح عليه بالنظام النيابي أو البرلماني في الغرب ،و في التجربة التاريخية الإسلامية قريب منه( نظام التفويض)، حيث تكون سلطة القرار السياسي بيد الوزير الأول ، وتكون لرئيس الدولة ملكاً أو رئيساً السلطة الرمزية على السيادة . إلا أن الملك في المجتمع المغربي المسلم تكون له في تقديري سلطة حقيقية عليا وهي ( سلطة حماية المقدس).يعني سلطة حراسة مقدسات البلاد في عرف المجتمع و التدخل لحمايتها وهي: الإسلام ووحدة الوطن و النظام الملكي والاختيار الديمقراطي..بهذا فقط يمكننا التوفيق الحي بين فقه الشرع و فقه الواقع المغربي. والديمقراطية كمنتوج حضاري غربي جائز الارتواء منه. فالاقتباس من تجارب الشعوب مباح في الإسلام ، إن لم يكن واجب كما جاء في الكتاب العزيز. قال تعالى :[ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) ] الحجرات. و التعارف يعني تبادل المعرفة و الخبرة الحضارية النافعة للأمة في كل مجالات الحياة و منها الخبرة السياسية و التنظيمية و الإدارية.ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تم اقتباس نظام الدواوين من الفرس عبدة النار وبلغته الفارسية . إذ لم يتم تعريب نظام الدواوين إلا في عهد عبد الملك بن مروان الأموي. بعض من ثمار ربيع الديمقراطية حلت الثورة الديمقراطية في وطننا العربي في مرحلة تاريخية تتوفر فيها عدة فرص لنهضتنا وفيها عدة تهديدات تواجه إمكانية النهضة.فالمرحلة التاريخية الحاكمة للألفية الثالثة وفرت لنا أربع فرص للنهوض الحضاري و أربع تهديدات للنهضة. فمن الفرص التي أسلفنا الحديث عنها بداية هجرة البشرية نحو الله، أو الصحوة الدينية العالمية. وبداية هجرة البشرية نحو الحرية السياسية، أو الصحوة الديمقراطية العالمية.وبداية هجرة الحضارة المادية من الغرب نحو الشرق من جديد. فالصين ستصبح القوة الاقتصادية رقم واحد سنة 2030 و ستصبح الهند القوة رقم ثلاثة.وبداية هجرة الدولة القطرية نحو الدولة العابرة للأقطار.أي ميلاد عصر دولة التكتلات الجهوية العملاقة. والنموذج المثالي هو ميلاد الاتحاد الأوروبي. و الصين و الهند هي دول تكتلات بشرية عملاقة. أما التهديدات التي تواجه إمكانية نهوض أمتنا العربية والإسلامية فهي:غزاة من الخارج وطغاة في الداخل ، وغلاة علمانيون وإسلاميون في الداخل و الخارج، و شتات الأمة. فنحن أأكثر من مليار ونصف من السكان لكننا أشتات. في تقديري أن نجاح الثورات الديمقراطية اليوم سيساعد على توسع عمودي و أفقي للفرص الأربعة من جهة .وسيساعد من جهة ثانية على بداية انحسار التهديدات الأربع.فسوف لن يعود بإمكان الغزاة أو القوة الغربية الاستعمارية التحكم وتنفيذ مخططاتها في بلاد العرب و المسلمين بسهولة. و البرهان في التحول الإيجابي في علاقة مصر بالشعب الفلسطيني.وسوف ينحسر الطغاة لصالح فرصة بداية الهجرة نحو الحرية السياسية.كما ستتراجع قوة التشدد الإسلامي و العلماني معاً لصالح التيارات الوسطية الإسلامية و العلمانية. كما أن سيطرة شعوبنا على إرادتها السياسية سيسمح بتقرير مصيرها بنفسها. ومصيرها الانتقال من دول الشتات السياسي ، الدول القطرية،إلى ميلاد الدولة العابرة للأقطار أو دول التكتلات الجهوية في الغرب و الشرق الإسلامييْن . كما إن دخول الوطن العربي إلى نادي الدول الديمقراطية سيزيد من توسع الصحوة الإسلامية و انتقالها من بعد الشعائري إلى بعد السياسي. وبالتركيب التاريخي بين الإسلام و الديمقراطية و التفكير في بناء الدولة العابرة للأقطار نكون فعلاً بدأنا في الانتقال من عصر الصحوة إلى عصر النهضة. من عصر بناء الإيمان إلى عصر بناء العمران. فالإسلام دين تحرر وعزة، والثورة الديمقراطية وسيلة للتوزيع العادل للسلطة و الثروة و العزة. و دولة التكتل تجميع لكل أشكال الطاقة في الأمة. والتركيب بين هذه الأثافي الثلاث هو الثمرة الحيوية المنظورة إن شاء الله لربيع الديمقراطية في وطننا العربي العظيم.