أكد الدكتور امحمد جبرون، الباحث المغربي في الفكر السياسي الإسلامي، بأن الديمقراطية تعد من القضايا الخلافية الأساسية بين الإسلاميين وغيرهم في العالم العربي، فقد اتهمت الحركة الإسلامية من طرف العديدين، وخاصة الليبراليين بسوء نيتها اتجاه الديمقراطية، وإيمانها التكتيكي بها، وحشروا لهذه الغاية حزمة من الأدلة والشواهد التي تؤيد حكمهم، كما بذل الإسلاميون قصارى جهدهم لإثبات جدارتهم بوصف الديمقراطية، وقدموا بين يدي هذا الإدعاء مجموعة من الحجج النظرية والعملية". واعتبر جبرون، في دراسته التي قدمها أمام جمع من الباحثين والأكاديميين والقيادات الإسلامية البارزة قبل أسابيع قليلة بالدوحة في مؤتمر "الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي..تجارب واتجاهات" بأن كل طرف من الأطراف المتصارعة ممسك بطرف من الحقيقة، فالإسلاميون صادقون في ادعائهم الديمقراطية بالنظر إلى محتواها الأداتي والشكلي، والليبراليون صادقون في اتهاماتهم بالنظر إلى المقتضيات الفلسفية للديمقراطية. الديمقراطية الأداتية وأفاد جبرون، في دراسته التي توصلت هسبريس بنسخة منها، بأن هذا النقص في القناعة الديمقراطية للإسلاميين يعد "معقولا" بالنظر إلى مستوى النضج الديمقراطي للشعوب العربية، ونسبية وجود "مجتمع سياسي" عربي في ظل الاستبداد، وهو ما جعل الديمقراطية للكثير منهم مشروعا غير مكتمل، يتحين الفرص التاريخية للاكتمال. وتطرق المحور الأول من دراسة جبرون الموسومة بعنوان "الإسلاميون في طور تحول، من الديمقراطية الأداتية إلى الديمقراطية الفلسفية/ حالة العدالة والتنمية المغربي"، إلى قضية الديمقراطية الأداتية عند الإسلاميين، حيث اعتبر أن الديمقراطية في الفكر الحركي الإسلامي هي مجموعة من الإجراءات، والتقنيات، والأدوات المجردة من مصاحباتها الفلسفية، والتي تضبط عمليات اختيار القادة والمسؤولين، والنواب البرلمانيون، والرؤساء...، وتؤطر عمليات اتخاذ القرار، وتداول الرأي في التنظيمات والمؤسسات والدولة. وأردف الباحث بأن الديمقراطية بهذا التوصيف والتحديد هي مجرد تحديث لمفهوم الشورى الإسلامي، الذي بقي تاريخيا في إطار المبادئ العامة، ولم يتعداه إلى النظم والإجراءات، وهو ما سماه جبرون الديمقراطية الأداتية، نظرا لغلبة الجوانب التقنية والأداتية عليها، وطرحها العمد للمتعلقات الفلسفية. ولفت جبرون إلى كون التحفظ والتردد الذي أبدته الحركة الإسلامية اتجاه الديمقراطية بمعناها العام يرجع إلى بعض مقتضياتها الفلسفية، خاصة ما تعلق بمبادئ: الحرية، ووضعية القوانين، والمساواة، مشيرا إلى أن هذه المبادئ أثارت ولا زالت كثيرا من التحديات للحركة الإسلامية، خاصة بعد التطورات القيمية والسياسية والثقافية التي شهدها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين بحكم الاحتكاك بالغرب، والانفتاح الثقافي، والتعطش للحداثة. ضرورات التحول وفي محور ثان من دراسته عرج جبرون على ما شهدته البلدان العربية من تحولات وأحداث سميت بالربيع العربي، فكان شعار "الشعب يريد" وحدة موقف منحاز للتنوع والاختلاف وليس العكس، فالذين ثاروا في الشوارع والحارات ضد الاستبداد، ونادوا بسقوط أنظمته، فعلوا ذلك من أجل خصوصياتهم "الضيقة"، المادية، والفكرية، والسياسية، الشيء الذي يعكس المدلول الديمقراطي للربيع العربي. وشدد الباحث على أن الإسلاميين، شأنهم شأن غيرهم من التيارات، مجبرون على التحول والقيام بجهد من أجل الملاءمة بين منطلقاتهم الدينية ومفاهيمهم الإصلاحية من جهة، وشرعية النظام السياسي الذي أقرته الثورة من جهة ثانية، لافتا إلى أن أي تردد أو تأخر في هذه الملاءمة من شأنه تفويت فرصة سانحة للانتقال التاريخي الحاسم نحو الحداثة السياسية. وأوضح جبرون، في دراسته ذاتها، بأن الموقع السياسي للحركة الإسلامية اليوم، والمنزلة التي أنزلتها إياها الإرادة الشعبية، وضعت الكثير من تصوراتها ومواقفها موضع تساؤل، فالقناعات والرؤى التي صيغت أيام الاستبداد لم تعد قادرة على توجيه الممارسة في زمان الثورة، كما أن هذه الأخيرة طرحت على أنظار الإسلاميين مجموعة من الأسئلة والتحديات الجديدة. وخلص الباحث في هذا المحور من دراسته إلى كون مكانة الإسلاميين في المستقبل، وبلوغ مشروعهم الإصلاحي مداه، ترتبط أشد ما يكون الارتباط بقدرتهم على دمقرطة فكرهم السياسي، وإعادة تأسيس مفاهيم الحرية، والمساواة، والسيادة الشعبية في خطابهم، بما يسهل عليهم عملية الاندماج في الحداثة السياسية وتسهيلها. وفي انتظار حصول ذلك على مستوى الفكر والنظرية، يضيف جبرون، ينخرط الإسلاميون عمليا في أكثر من بلد في عمليات البناء الديمقراطي، وفق المبادئ التي صاغها "الربيع العربي"، ولا يستطيعون التملص من ذلك، بحكم المواقع التي بوأهم إياها الحراك الشعبي، ومساهمتهم الفاعلة في المنجز الثوري. الديمقراطية الفلسفية وانتقل جبرون في دراسته إلى موضوع تحول الإسلاميين من الديمقراطية الأداتية إلى الديمقراطية الفلسفية، حيث أوضح بأن الممارسة السياسية للإسلاميين اليوم، واختياراتهم العملية فيما يتعلق بالديمقراطية سابقة ومتقدمة عن ممارستهم النظرية وخطابهم الثقافي. وزاد جبرون بأنه من السهل على المتتبع العام قبل الباحث الوقوف على مفارقات الخطاب والممارسة حول الديمقراطية لدى الإسلاميين في "فصل الربيع"، وتأويل ذلك تأويلا سلبيا، ومن ثم يحتاج الأمر إلى بعض الوقت حتى يتخلص الخطاب الإسلامي من مفارقاته حول الديمقراطية. ولفت المحلل إلى أن الحراك الثوري الذي تعيشه عدد من البلدان العربية طائفة من القضايا ذات الصلة بالديمقراطية، تتعلق أساسا بالنظام الديمقراطي ومستلزماته، والحريات، والتعددية السياسية، ودولة القانون، والشريعة والتشريع...، الشيء الذي تسبب في جملة من التوترات السياسية، كشفت عن صعوبات العراك الديمقراطي. واستطرد الباحث بأن الديمقراطية الأداتية ساهمت كقناعة لدى الإسلاميين في تجاوز جزء مهم من هذه الصعوبات، وخاصة تلك المتعلقة بمبدأ التداول السلمي على السلطة، والانتخاب، والتعددية السياسية، والاحتكام للإرادة الشعبية...، غير أنها تعاني مع صعوبات أخرى، وخاصة تلك المتصلة بالديمقراطية الفلسفية، وتحديدا قضايا: الحرية، والشريعة والقانون الوضعي، والمساواة.