1- مركزية "روح التاريخ" و هامشية "الحشود" عادة ما يبرر المثقف الرسمي رفضه للمد الثوري العربي؛ بكونه يخدم أجندة محافظة و رجعية؛ تمثلها حركات الإسلام السياسي؛ التي تجني ثمار الثورة؛ في الأخير؛ و لذلك؛ فإن دعم الأنظمة الاستبدادية الفاسدة؛ في اعتباره؛ أفضل من دعم هذه الثورات الرجعية و المحافظة ! يؤكد المثقف الرسمي؛ أن الأولوية يجب أن تعطى لبناء ثقافة ديمقراطية و ذلك؛ لأن الديمقراطية قبل أن تكون ممارسة هي ثقافة يجب أن تخترق الحشود الشعبية. لكن؛ لا يحدثنا عن الوسائل الكفيلة بنشر الثقافة الديمقراطية؛ هل هي علم لدني يمثله أنبياء يمتلكون قوة خارقة؛ يجب أن ننتظر لتعمنا بركاتهم في يوم ما ؟ أم إن الثقافة الديمقراطية؛ تتشكل في وعي الأفراد و الجماعات من خلال الممارسة الديمقراطية؛ التي من بين ركائزها الأساسية؛ التعددية السياسية؛ و التداول السلمي على السلطة الذي توفره الانتخابات كآلية ديمقراطية؛ و كذلك الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية ؟ و نحن نتساءل؛ هل يمكن توفر هذه الأسس؛ في ظل ممارسة استبدادية؛ تقوم على أساس الحزب الوحيد و الطائفة الواحدة و الزعيم الأوحد ؟ عن أي ثقافة ديمقراطية نتحدث؛ في واقع يطبعه التسلط و الاستبداد؛ حيث تتحول المدرسة و المسجد و الجامعة و الحزب و الجمعية ... إلى أدوات لإعادة إنتاج النسق الاستبدادي الفاسد ؟ إن المد الثوري العربي لا يمثل الاستثناء في تاريخ الثورات عبر العالم؛ فالفرنسيون لم ينتظروا رواد الفكر السياسي و الفلسفي ليغيروا واقع الاستبداد و الفساد؛ رغم فعالية هذا الفكر؛ و لكن الشعب الفرنسي؛ بجميع فئاته؛ هو الذي صنع أحداث الثورة الفرنسية؛ و هو الذي رعاها حتى نضجت و نجحت في ترسيخ مبادئ الديمقراطية؛ و رغم أن الثورة خلقت نقيضها في مرحلة ما؛ عبر وصول (نابليون بونابرت) إلى الحكم؛ و استعادة التقاليد الاستبدادية القديمة؛ فإن الشعب الفرنسي ظل يناضل؛ من أجل ترسيخ المبادئ الحقيقية للديمقراطية . لقد كان دور الفئات الشعبية واضحا في إنجاح الثورة؛ و بعد ذلك ساعدت الممارسة الثورية على ترسيخ مبادئ الديمقراطية. و لذلك؛ فإن أهم حدث يسجله التاريخ؛ هو بروز الإرادة الشعبية كمحدد أساسي لشرعية السلطة و هذا ما تبلور؛ بشكل أوضح؛ بعد النجاح في تجاوز التناقضات التي أنتجتها الثورة . لكن؛ المثقف الرسمي في العالم العربي؛ لا يهمه كل هذا التاريخ؛ بل يتعامل مع الحدث الثوري كشيء طارئ من شانه أن يقلب التوازنات السائدة؛ التي يستفيد منها و يحقق انسجامه الفكري في ظلها. لذلك؛ فهو لا يعترف أولا بقدرة الممارسة الثورية على ترسيخ مبادئ الديمقراطية؛ كما لا يعترف ثانيا بدور الإرادة الشعبية؛ في تحقيق التحول نحو الديمقراطية. في حوار مع المفكر المغربي (عبد الله العروي)؛ يؤكد أن شباب 20 فبراير؛ ليسوا هم الذين سطروا الدستور الجديد للمملكة؛ باعتباره الوثيقة الوحيدة التي سيتدارسها المؤرخون مستقبلا؛ و يستدل على ذلك؛ بأن مؤرخي الثورة الفرنسية يؤكدون على دور الحشود، ودور التجمعات في الأحياء... لكنهم يتوقفون؛ بشكل أكبر؛ عند الدستور لأنه ترك كما كبيرا من الوثائق، بينما تكلمت الحشود وكلامها ذهب في مهب رياح التاريخ". Abdallah Laroui-Entretien- Zamane –NO :18-Avril 2012 و نحن نتساءل؛ من دفع إلى كتابة هذا الدستور؛ و من خلاله تغيير التاريخ السياسي الفرنسي؟ هل كانت إرادة ملكية للتنازل عن السلطات المطلقة التي كانت تتمتع بها؟ أم هو نتيجة الضغط الشعبي؛ الذي استطاع قلب التوازنات الاجتماعة و السياسية و الاقتصادية السائدة؛ و بذلك تمكن من تنزيل النظريات الفلسفية و السياسية من أبراجها العاجية إلى حيز الممارسة الواقعية؛ هذه النظريات التي جسدتها مبادئ الثورة الفرنسية (الحرية؛ الأخوة؛ المساواة) ؟ فهل؛ حقيقة؛ تكلمت (الحشود) و كلامها ذهب في مهب رياح التاريخ؛ أم إنها النخبوية المفرطة للمفكر/المؤرخ الذي يقبض على جهاز التحكم عن بعد؛ و يمارس استيهاماته مغمض العينين؛ فيرى فيما يراه النائم؛ أنه يحرك التاريخ و أحداثه كما يشاء ! إن هذه النخبوية المفرطة و هذا التعالي عن الواقع الاجتماعي و السياسي؛ هو الذي دفع الفيلسوف الألماني الكبير (هيجل) إلى الاعتقاد؛ في وجود قوة روحية مطلقة محركة للتاريخ؛ هذه القوة التي تلبست في جسد آدمي؛ ليس سوى المستبد نابليون بونبارت. فحينما كان (بونبارت) يقود جنوده لاحتلال ألمانيا؛ كان (هيجل) منشغلا بالبحث عن روح التاريخ؛ و أخيرا عثر عليها؛ حينما رأى (بونبارت) ممتطيا صهوة فرسه؛ و لذلك؛ صاح مندهشا و منبهرا : ( اليوم شاهدت روح التاريخ على ظهر الحصان) ! إذا حدث هذا في أوربا و في ألمانيا؛ بالضبط؛ فإن التاريخ السياسي في العالم العربي تسيره الأرواح؛ منذ القديم؛ هذه الأرواح التي تلبست في أجساد آدمية؛ فاقت نابليون في تطبيق دروس ميكيافليي. و قد كان لمثقف النظام دور كبير في رفع هذه الأرواح إلى مرتبة القداسة؛ حيث لا تغيير إلا ما تريده و تفعله؛ أما الإرادة الشعبية فهي لا تعدو أن تكون (حشودا) و (عامة) و (رعاعا)؛ ميزتها الأساسية هي السلبية و الخنوع؛ فقد تمكن منها "براد يغم الطاعة" (8) الطاهر لبيب- هل الديمقراطية مطلب اجتماعي؟ علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي – ضمن أعمال ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية – منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – 1992 – بيروت – ص: 339. و في علاقة بهذا التقابل بين الزعيم السياسي (روح التاريخ)؛ و بين الحشود (حطام التاريخ ) فإن عبد الله العروي؛ في حواره؛ لا يعترف بقدرة الإرادة الشعبية على التغيير؛ و في مقابل ذلك يتعامل باندهاش كبير مع أي تمويه سياسي يمارسه النظام؛ فهو يتفاجأ بكل ما يحدث في المغرب؛ و هذا ما جعله يندهش في كل مرة؛ كلما حاول فهم (النظام). و تتلاشى حجب العقلانية فجاة؛ ليربط مفكرنا الحداثي بين النظام وبين الزعيم (الأوحد)؛ فسر هذا الاندهاش؛ في نظره؛ يعود إلى أن (الحسن الثاني) كان يتصرف بناء على حدسه ! و لذلك؛ يؤكد مفكرنا العقلاني؛ ليس هناك واحد من أفعال الحسن الثاني لم يثر اندهاشه؛ بسبب أنه لم يكن متوقعا ! Abdallah Laroui-Entretien- Zaman –NO :18-Avril 2012 إنه موقف هيجلي مصغر؛ حقيقة؛ مع فارق كبير في مفهوم السلطة خلال المرحلتين؛ حيث كانت خلال القرن الثامن عشر تصارع للقطيعة مع المفهوم المطلق للحكم؛ لكن العقل السياسي الحديث نجح؛ إلى حد بعيد؛ في القطيعة مع هذا المفهوم؛ في صراعه ضد الأنظمة التسلطية المطلقة؛ طوال مرحلة القرن العشرين؛ و المسيرة مستمرة خلال هذا القرن؛ للقضاء على كل معالم المفهوم القديم للسلطة و الحكم . إذا كان مفكرنا العقلاني/الحداثي يدرك كل هذا؛ على مستوى التنظير؛ فإن الموقف السياسي يخونه؛ حينما يروج للسلطة كإرادة مطلقة؛ تمارس تسلطها ضدا على الإرادة الشعبية (الحشود)؛ التي هي؛ في حقيقة الأمر؛ المصدر الحقيقي للشرعية السياسية في المفهوم الديمقراطي الحديث. و هكذا؛ تتشقق القشرة الحداثية الرقيقة؛ لتكشف عن موقف سياسي رجعي؛ ينزل بالمفكر العقلاني من أبراجه العالية؛ ليتفاجأ و يندهش و ينبهر؛ لكل خطوة يقدم عليها الزعيم الأوحد و الحاكم بأمره؛ باعتباره يمثل روح التاريخ؛ و يتصرف بناء على حدسه الذي لا يخطئ؛ أما الحشود فهي تتكلم؛ لكن كلامها يذهب في مهب رياح التاريخ. إن من أهم ملامح الديمقراطية؛ هو ربط ممارسة السلطة بالإرادة الشعبية؛ حيث يكون ل (الحشود) دور فاعل في اختيار ممثليهم بشكل دوري يتحكم فيه التداول السلمي على الحكم؛ من خلال التنافس السياسي و الحزبي؛ الذي يبوئ الأفضل و الأصلح؛ في علاقة بالمشاريع السياسية المقترحة. و ما دامت نخبتنا الثقافية تروج لصورة سلبية عن الفئات الشعبية لتغذية نرجسيتها النخبوية؛ فإن الحاكم بأمره هو الذي سيمثل دائما روح التاريخ؛ و بذلك سيرفض أي تعددية سياسية و أي تداول سلمي على السلطة؛ و بالتالي؛ أي تنازل عن كرسي الحكم إلا عبر موته. و لعل؛ مشهدنا السياسي الراهن؛ في العالم العربي؛ ليمثل هذه الصورة بامتياز؛ لأن الحاكم العربي مقتنع تمام الاقتناع؛ أنه يمثل روح التاريخ؛ أما الشعب فهو لا يعدو أن يكون؛ جرذانا و مراهقين و مخربين و إرهابيين... و لذلك فهو يشكل خطرا مدمرا على روح التاريخ هاته؛ حيث يتلاشى الوطن بتلاشي الحاكم بأمره و تقوم ساعة التاريخ و يأذن بنهايته ! إنها كوابيس حقيقية؛ تسكن مخيلة الحاكم و تحوله إلى نصف إله؛ يحكم الأرض و يتحكم في أقدار البشر؛ و أي أذى يصيبه فهو يدمر الحرث و النسل. لكن؛ ما يجب أن نقر به؛ حقيقة؛ هو أن الحاكم ليس وحده المسؤول عن هذه الصورة الكاريكاتورية لمفهوم السلطة و الحكم؛ و هي صورة تنتمي إلى عصور الظلام الأولى؛ حيث كانت الملوك تمثل سلطة السماء على الأرض و لكن؛ المسؤولية الكبرى يتحملها المثقف الذي قدم خدماته الرمزية؛ عبر العصور؛ للحاكم و باعه الأوهام لتأمين رصيده في السلطة و المال. و هكذا؛ فإن النفسية الاستبدادية المتأصلة في الذات العربية الحاكمة؛ تنتسب تاريخيا إلى عصور الاستبداد التي أصل لها بعض الفقهاء؛ الذين عاشوا وقفا على بلاط الملوك و الأمراء؛ في حين انصرف بقية المثقفين و الساسة إلى مملكة الشعر؛ و الذي كان معظمه يصب في تعظيم المستبدين و تطويع الشعوب لهم". ألبرت حوراني- الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939 – تر: كريم عزقول- دار النهار- بيروت ط:4 1976- ص: 16 2- الثقافي في خدمة السياسي .. تكريس النسق الرجعي إن نموذج تبعية الثقافي للسياسي لا ينطبق على العصور القديمة؛ فقط؛ بل إن هذه العلاقة هي التي تحكم علاقة المثقف بالحاكم؛ في العالم العربي؛ إلى حدود اليوم؛ و ذلك رغم التطور الذي عرفته النظرية السياسية؛ و رغم الاستقلالية التي أصبحت تميز المثقفين عبر العالم . و لعل هذا ما يؤكده الأستاذ سعيد يقطين؛ في حديثه عن العلاقة بين الثقافي و السياسي؛ حيث يؤكد أن وجه العلاقة الذي كان يتحكم في الوعي والممارسة؛ على هذا المستوى؛ وخلال كل تاريخنا الثقافي الحديث؛ كان هو التبعية وليس الارتباط. و يرجع ذلك؛ في اعتباره؛ إلى كون المسألة الثقافية في العالم العربي مغيبة أو موجهة لأغراض سياسية ما؛ ولكن لم يتم التعامل معها قط باعتبارها قضية إنسانية . د. سعيد يقطين – الأدب و المؤسسة : نحو ممارسة أدبية جديدة – منشورات الزمن – الكتاب 12 – مارس 2000- ص: 8-51 إن هذه التبعية تزداد خطورتها؛ حينما تكون نسقية؛ يخفي ظاهرها الحداثي و المتحرر باطنها الرجعي و المتخلف. و إن كنا نلمح هذا بجلاء على مستوى الممارسة و الخطاب السياسيين؛ فإن الذي لم نعره كبير اهتمام؛ هو المجال الثقافي (إبداعا و فكرا) حيث يخفي الخطاب الحداثي؛ ظاهريا؛ نسقا رجعيا و متخلفا؛ على مستوى الباطن. و لنكون أكثر وضوحا؛ فإننا نقصد بهذا الكلام؛ أن الازدواجية التي يعاني منها الخطاب و الممارسة السياسيين في العالم العربي؛ بين مؤسسات و خطابات حديثة؛ و بين ممارسة غارقة في التقليدانية و الرجعية؛ هذه الازدواجية هي في حقيقتها ازدواجية تم تكريسها ثقافيا؛ قبل أن تنعكس على المستوى السياسي؛ أي إن المثقف العربي؛ يتحمل مسؤولية تاريخية؛ في تكريس النسق الاستبدادي التسلطي ثقافيا. فقد كان؛ على امتداد قرون من التاريخ العربي؛ أبا شرعيا للمستبد السياسي؛ فهو الذي وضعه نطفة في رحم الواقع السياسي العربي؛ و هو الذي أشرف على عملية الولادة و التنشئة. حينما سئل الناقد الثقافي(عبد الله الغذامي) عن رأيه في الموقف الرجعي للشاعر أدو نيس؛ في علاقة بالثورات العربية؛ لم يتردد في الإجابة؛ بأنه لم يفاجأ بهذا الموقف؛ لأنه سبق له أن أكد ذلك؛ عبر التحليل العلمي؛ في علاقة بإبداع أدو نيس الشعري؛ الذي قال عنه في كتابه (النقد الثقافي): " كل دعاوى أدونيس في الحداثة خطاب لفظي لا يؤدي إلا إلى مزيد من النسقية و الرجعية " عبد الله الغذامي- النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية- المركز الثقافي العربي- ط: 3 – 2005- ص:8 إن الفرد؛ المبدع و المفكر؛ قبل أن يكون مبدعا لفكر أو فن؛ فهو يمرر موقفا يتسلل عبر شقوق اللغة و الأفكار؛ و هذا الموقف هو تعبير عن نسق ثقافي؛ قبل أن يكون موقفا شخصيا. لذلك؛ نجد المثقف العربي يعيش سكيزوفرينيا قاتلة؛ في ممارسته الفكرية و الإبداعية؛ فهو بقدر ما يسعى إلى إثبات تطلعاته الحداثية؛ على مستوى التفكير والإبداع؛ يكون في نفس الآن مدافعا شرسا عن النسق الثقافي الذي يبلوره؛ و هو نسق رجعي لا يمت بصلة إلى تطلعاته الفكرية و الإبداعية؛ ذات الطابع الحداثي . و في حديثنا عن الشاعر أدونيس دائما؛ فإن عبد الله الغذامي يؤكد أنه رجعي الحقيقة؛ و إن بدا حداثيا و ثوريا؛ فقد ظل ينتج النسق الفحولي و يعيد إنتاجه في شعره و في مقولاته؛ بدءا من الأنا الفحولية و ما تتضمنه من تعالي الذات و مطلقيتها؛ إلى إلغاء الآخر و المختلف" عبد الله الغذامي- النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق الثقافية العربية- المركز الثقافي العربي- ط: 3 – 2005-ص: 271 إن الاستبداد الشرقي؛ هو في جوهره تجسيد للأنا الفحولية؛ فالحاكم بأمره يجب أن يثبت فحولته الجنسية أولا؛ قبل أن تنعكس هذه الفحولة على المستوى السياسي؛ حيث يتحول الشعب كله إلى أبناء (غير شرعيين) للحاكم؛ و هذا ما يؤسس في نفس الآن للعلاقة الباترياركية بين الحاكم و الشعب. إن خطورة الفعل الثقافي (إبداعا وفكرا) تتجلى في تأسيس هذا النسق الفحولي/الباترياركي ثقافيا؛ كمدخل رئيس لشرعنته على المستوى السياسي؛ فيما بعد؛ بحيث يتم تهييء الشعب ثقافيا للدخول ضمن هذا النسق؛ بل و تزكيته باعتباره خصوصية حضارية ! و هكذا؛ يصبح الاستبداد و التسلط قدرا مقدرا على الشعوب العربية؛ و أي تحرك لتغيير الواقع السائد هو تجرؤ على الزعيم؛ الذي لا يتصور أن الوطن كله قادر على إنجاب شبيهه؛ القادر على قيادة الوطن و تسيير شؤون الشعب ! لقد مارس المثقف العربي (الرسمي) عنفا رمزيا خطيرا على الشعوب العربية؛ على امتداد قرون؛ و ذلك؛ حينما شرعن الاستبداد و دافع عن المستبدين؛ باسم الدين تارة؛ و باسم منطق الفكر و الإبداع و السياسة تارة أخرى؛ كما عانت الشعوب العربية أكثر من الفعل الثقافي الرسمي؛ حينما حضرت في الذاكرة الثقافية الرسمية؛ باعتبارها؛ عامة و غوغاء و حشودا و رعية ... و من خلال هذا التقابل؛ المقصود؛ بين الزعيم (المستبد) باعتباره روح التاريخ و محرك الدولة؛ و بين الشعب باعتباره عامة و غوغاء؛ كان المثقف الرسمي يخطط لوأد أي فعل ديمقراطي؛ و ذلك عبر اعتماد آليات الفكر و الإبداع الحديث التي نجحت؛ لعقود؛ في إخفاء النسق الرجعي. إن أهم إنجاز حققه الربيع الديمقراطي العربي اليوم؛ يتجلى في انكشاف الطابع الرسمي/السلطوي؛ للكثير من رموز الحداثة في الفكر و الإبداع أمام الرأي العام العربي؛ هؤلاء الذين صاغوا النسق الاستبدادي؛ فكرا و إبداعا؛ في غفلة من الذائقة النقدية؛ التي تم تخديرها عبر القراءة البنيوية السطحية؛ التي تكشف فنية الأسلوب و شكل الصياغة؛ بهدف إخفاء الموقف الرجعي؛ الذي يتسلل عبر شقوق اللغة و الفكر. إن الواجب العلمي و الفكري يفرض على الجيل الثوري الجديد؛ يفرض عليه مسؤولية كبرى في محاربة كل بؤر الاستبداد و التسلط في الفكر و الإبداع و الممارسة؛ و لا يمكن أن تنجح هذه المهمة؛ إلا عبر المزاوجة بين الدرس السياسي من جهة؛ والدرس الفكري و النقدي من جهة أخرى . على مستوى الدرس السياسي؛ يجب الحفر في النظرية السياسية الحديثة؛ التي نجحت في تحقيق القطيعة مع الفكر و الممارسة السياسيين؛ بطابعهما القروسطوي القديم؛ و هذا من شأنه التأسيس لممارسة سياسية حديثة؛ تقوم على أساس رد الاعتبار للإرادة الشعبية؛ التي تم تهميشها لقرون؛ بادعاء أن (الدهماء) تشكل خطرا على الدولة. و لذلك؛ فإن (النخبة) السياسية و الثقافية؛ هي المؤهلة؛ وحدها؛ لاحتكار ممارسة الحكم و تسيير شؤون الدولة. على مستوى الدرس الفكري و النقدي؛ يجب الحفر و التنقيب في تراثنا الفكري و الإبداعي؛ و تشجيع المواقف التقدمية في هذا التراث؛ و هي كثيرة؛ من محنة ابن حنبل إلى نكبة ابن رشد إلى محنة الفقيه جسوس ... و في المقابل؛ يجب فضح المواقف الرجعية؛ من فقهاء الاستبداد إلى شعراء و مفكري البلاطات السلطانية؛ و أسماؤهم لا تعد و لا تحصى. و في هذا الإطار؛ يجب الاهتمام بالنقد الثقافي؛ الذي يعتبر وسيلة فعالة للكشف عن الأنساق الرجعية الثاوية خلف جمالية الأسلوب و رصانة البناء. إنها مسؤولية عظيمة؛ تنتظر الفكر التقدمي العربي؛ بجميع اتجاهاته الفكرية و الإيديولوجية؛ لأن التقدمية إيمان بالتطور و التقدم إلى الأمام عبر مراكمة الإنجازات؛ و ليست إيديولوجية تقتصر على نخبة دون غيرها؛ فكل من يمتلك وعي التقدم و التطور؛ هو تقدمي؛ و يجب أن يساهم؛ من منظوره الخاص؛ في إثراء هذا الحراك العربي التاريخي . كاتب و باحث أكاديمي