بعد ربيع المغرب الناعم، يأتي المفكرون والمتخصصون ليتأملوا المشهد، بهدوء ودقة، مجهرية التفاصيل الصغرى وآفاق المستقبل بناء على ما أفرزته الأحداث والتطورات. في هذا الإطار، تأتي قراءة المفكر الكبير محمد سبيلا التي خص بها«المساء» مشكورا. تشكل الأحداث السياسية الكبيرة التي عاشها المغرب منذ السنة الماضية تحولا تاريخيا حقيقيا ومنعطفا حاسما في الحياة السياسية المغربية. فقد عاش المغرب، في هذه الفترة، تحولات «الربيع العربي» بطريقته الخاصة، أي بطريقة سلمية وتوافقية ومتأنية جنّبت المشهد السياسيَّ المغربي الكثير من الهزات العنيفة التي ضربت مناطق مختلفة من العالم العربي. محورا هذه التحولات هو الدستور الجديد وفوز العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، اللذان يشكلان تحولا مفصليا في تاريخنا السياسي، يفترض أنهما حدثان ديناميان يؤشران، مبدئيا على الأقل، على انتقال المغرب من عهد الديمقراطية المخزنية «المطبوخة» وصناعة المشهد السياسي، إلى عهد التجربة الديمقراطية، التي ترفع الدولة يدها عن هذه الصناعة التي تمرست عليها منذ ستينيات القرن الماضي. إن قرار الدولة الإقلاع عن هذه العادة السيئة يعتبر مكسبا تاريخيا للديمقراطية في بلادنا. ورغم أن الانتصار الانتخابيَّ للعدالة والتنمية، الذي سماه البعض «وليمة انتخابية»، بينما سماه آخرون «غزوة الصناديق»، لا يشّ عما حدث في العديد من الأقطار العربية، حيث أفرزت الانتخابات تيارات الإسلام السياسي، بمختلف أطيافه، المعتدلة والمتشددة، فإنه أثار في بلادنا العديد من التساؤلات والعديد من المواقف المتباينة. إلا أن هذه التحولات لم تكن مُتوقَّعة بهذا الشكل، خاصة أن الرهان الأساسي حول ما حدث ويحدث في العالم العربي ظل هو المراهنة على أن هذه الحيوية التاريخية العربية تسير في خطى التاريخ العالمي، من حيث أنها تحبل بإرهاصات التحديث والدمقرطة والعقلنة والقضاء على الاستبداد السياسي والاجتماعي وتُشكّل لحظة ثانية في مسيرة هذه المجتمعات نحو تعميق الاستقلال الاقتصادي والسياسي عن مراكز النفوذ العالمي. فقد أثارت نتائج الانتخابات العربية والمغربية الأخيرة العديد من التخوفات في الغرب، بسبب الاقتران الذي حدث منذ عقود بين صعود الإسلام السياسي وممارسة العنف وما صاحبه من مظاهر التشدد الديني والفكري والدعوة إلى تطبيق الحدود وتبنى النظرة الأداتية أو الوسائلية الاختزالية للديمقراطية والرغبة في إقامة رقابة أو وصاية أخلاقية على المجتمعات العربية والتضييق على الحريات والحقوق الفردية والفئوية، وخاصة تجاه المرأة.. إلخ. وقد طبعت هذه المخاوف الداخلية والخارجية النقاش الجاري حول هذا الصعود المُدوّي للحركات الإسلامية ووسمته بالعديد من مظاهر التوتر والخلاف في التحليل والتقييم. لذلك، ربما، كان من الضروري استحضار هذا السياق الجدالي في كل من عملية التحليل والتقييم، مع الحرص على التعليق المؤقت للكثير من الأحكام المسبقة أو المتسرعة وتحجيم سوء النية، بُغية بلورة رؤية أكثر شمولية وموضوعية وأقل تحيزا تعتمد الحكم بالنتائج وليس بالمقدمات، وهي بالتأكيد مهمة فكرية صعبة، لأن المجال السياسي هو مجال صراع رؤى وإيديولوجيات وأهواء ومصالح لا تقبل التأجيل. انطلاقا من هذه المحددات، ننطلق من مفهوم الاستحقاق التاريخي، بالمعنى التقني المحدد، استنادا إلى منظورين: -منظور ديمقراطي يحكم على العملية انطلاقا من مدى تمثيليتها ومن مدى التزامها بالمعايير الديمقراطية في كل المراحل، -ومنظور تاريخي يعتبر أننا أمام لحظة تاريخية جديدة أفرزت فيها التجربة أو الدورة التاريخية قوى اجتماعية سياسية وفكرية جديدة. الدورة التاريخية الحالية، سواء نظرنا إليها من حيث أنها دورة نُخب أو دورة إيديولوجيات، هي استمرار وقطيع،ة في نفس الوقت، مع دورات تاريخية سابقة. فالحركة الوطنية اقترنت بنخب وطنية وبوعي وطني تصدى للاستعمار بهدف تحقيق الاستقلال السياسي. وارتبطت الحركة التقدمية بنخب حداثية أو تقدمية أو اشتراكية، انبرت لتحقيق التحرر الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة الوطنية.. وامتدادا لهذا السياق، تندرج الحركة الإسلامية، باعتبارها ذلك الفعل التاريخي الذي أرادته نخب إسلامية جديدة، في أفق تعميق مظاهر التحرر وتحقيق الاستقلال الثقافي وتفعيل النموذج الإسلامي. وإذا كانت تجربة التناوب السياسي السابقة، التي اصطُلِح عليها في الخطاب السياسي المغربي بالتناوب «التوافقي» الذي ارتبط بتحقيق نوع من المصالحة التاريخية بين النظام والمعارضة، من جهة، وبعملية انتقال السلطة بين عهدين، فإن التحولات الحالية هي أقرب ما تكون إلى كونها تتّسم بالعديد من ملامح التداول الديمقراطي، لأن الأولى ترتبط أكثر بتناوب إرادي سياسي مؤقت، في حين ترتبط التجربة الثانية بتداول سياسي فرضته نتائج صناديق الاقتراع، سواء نظرنا إليها على أنها اختيار تكريمي أو إسنادي أو اختيار عقابي. إضافة إلى ذلك، يتعين، إذن، أن ننظر إلى التحولات التي وقعت في المشهد السياسي المغربي ليس فقط من زاوية داخلية أو قطرية ضيّقة، بل أيضا من خلال السياق الإقليمي، المتمثل في موجات الحراك الاجتماعي الجماهيري العربي، وكذا من خلال «رقعة الشطرنج» الدولية، المتحركة.. فقد ظلت الأنظمة الاستبدادية العربية تمارس إرهابا داخليا في المجتمعات العربية، إما بشعارات تحررية وطنية أو قومية أو تحت شعار مقاومة التطرف الإسلامي، وقدّمت نفسها للقوى الدولية على أنها صمّامات الأمان الوحيدة لمقاومة العنف الأصولي. وبعد تفجّر الاحتجاجات الشعبية العربية، كيّفت القوى الغربية موقفها بما يتلاءم مع التطورات وتقبلت الأمر الواقع ورفعت اعتراضاتها على القوى الإسلامية المعتدلة القابلة بالديمقراطية، بعد أن كانت، في مرحلة سابقة، قد أوصت بضرورة التمييز بين الإسلام الصوفي والإسلام الحركي. وفي المقابل، نجد أن الحركات الإسلامية المعتدلة القابلة بالديمقراطية قد طوّرت موقفها عن طريق القبول بالديمقراطية والالتزام بقواعدها وضوابطها والقبول بالاتفاقات والالتزامات والعقود الدولية والإعلان عن نبذ العنف، وخاصة منها ما تعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل والحريات الأساسية، في ما يشبه «إعلان توبة» ديمقراطي.. فيما ظلت قوى إسلامية راديكالية أخرى ترفض النموذج الغربي والثقافة الغربية وتتمسك بتطبيق الحدود وبتطبيق الشريعة وتحريم الربا والاختلاط واستخلاص الضرائب من المُحرَّمات، مما يدل على أن هناك مخاضا حادا داخل هذه الحركات. يتعين أن ننظر إلى هذه التحولات في مواقف حركات الإسلام السياسي من عدة زوايا، فهي، من جهة، دليل على تطور فكري وإيديولوجي في اتجاه القبول بالتحديث السياسي في صيغة الديمقراطية، القائم على التصور التعاقدي للمجتمع وللسياسة، مع ممارسة نوع من الحذر الفكري تجاه ثقافة الحداثة ذاتها، التي هي السند أو القاعدة التحتية للديمقراطية، وهذا رهان فريد في الاختزال الأداتي للديمقراطية إلى مجرد آليات ومؤسسات وقواعد إجرائية وفصلها عن جذورها الثقافية، وهو رهان سيحسمه التاريخ. ومن جهة ثانية، فإن هذه التحولات هي خطوة تمرينية أو اختبارية في المسار الطويل لتأسيس حركات إسلامية حزبية ديمقراطية في اتجاه تأسيس إسلام ديمقراطي متدرج يفصل بين منطق الدعوة ومنطق السياسة، أو بين الدعوى والسياسي، مثلما عبّر عن ذلك رئيس الحكومة الجديد بقوله: «إن مكان الخطاب الديني هو المسجد» ويقبل بما تضمنه الديمقراطية من إلزامات والتزامات حول الحقوق والحريات. كما أن هذه التحولات تتم في إطار المصادقة الضمنية على دفتر تحملات سياسي تتضمن مواده بنودا صريحة تحيل إلى تقسيم السلط، كما ينص على ذلك العقد الدستوري، وبنودا ضمنية تقضي باحترام التوزيع التقليدي للسلطة وتوقير المجالات التقليدية للسلطة الملكية، إلى غيرها من الالتزامات الضمنية، مما يدل على أن هذه التحولات تمت في إطار سلمي وتوافقي يجعل المغرب يقطع مع الصراعات القاتلة التي ألهبت المشهد السياسي المغربي بعد الاستقلال، والتي ضيّعت على المغرب نصف قرن من الفرص الضائعة، وكذا عن العدوى الإقليمية «الحمراء» ل»الربيع العربي».. وتلك ربما لحظة مصالحة ثانية كبرى في تاريخنا السياسي المعاصر، بعد لحظة المصالحة الكبرى، التي مثّلها ما يطلق عليه التناوب التوافقي، وهي بالتأكيد لحظة عقلانية ورشد سياسي يتعين تثمينها واستدماجها في الممارسة السياسية. إلا أن التحدي الأكبر الذي يواجه التجربة الجديدة ليس هو فقط ضخامة المشاكل والملفات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة عبر عقود، بل هو أيضا الضرورات الفكرية، المتمثلة في ضرورة توسيع أفق الانتظار، بالفصل بين الماضي والمستقبل، ومرونة المرجعيات الموجهة للفعل، والمتمثلة في ضرورات الانفتاح وتفعيل آليات التأويل وإذكاء مقولات النسبية والظرفية في الأحكام والتقديرات وتقبل التعددية والاختلاف والحد من الدوغمائية والانغلاق ومن فرض واحدية الرأي والإقصاء والتبديع.. كذا والقطع مع ممارسة العنف باسم المقدس واحترام وتوسيع وتوفير الحريات، الفردية والجماعية، والتمييز بين التدبير الإلهي والمسؤولية الإنسانية وغيرها من المحددات والقيّم التي تدخل، عادة، تحت مسمى النزعة الإنسانية الحديثة.. تلك، ربما، هي الالتزامات العميقة وبعيدة المدى، الدالة على التحول في الرؤية وفي المنظور والعاكسة إرادة الحوار والتصالح مع العصر، لأن تجديد الرؤية هو الضمانة البعيدة المدى لتجديد الممارسة.