الرباط: وزير الخارجية اليمني يجدد التأكيد على موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمملكة    الدورة ال28 لكأس للا مريم للغولف: مشاركة وازنة للاعبات المغربيات إلى جانب نخبة من النجمات العالميات    حماس تعلن أسماء ثلاثة رهائن إسرائيليين ستفرج عنهم السبت    الرئيس الانتقالي في سوريا: نعمل على وحدة البلاد وتحقيق السلم الأهلي    أسعار النفط ترتفع إلى أزيد من 76 دولارا للبرميل    توقعات بتصدير المغرب 90 ألف طن من الأفوكادو في 2025    حصيلة النشاط القضائي بالقنيطرة‬    انخفاض بنسبة 0.2% في أسعار إنتاج الصناعات التحويلية بالمغرب    حماس تفرج السبت عن ثلاثة رهائن    "مجموعة العمل من أجل فلسطين" تحتج أمام البرلمان وفاء للشهيد محمد الضيف    إيطاليا تحظر الوصول إلى تطبيق "ديب سيك" الصيني    أداء إيجابي في بورصة الدار البيضاء    يوروبا ليغ: الكعبي يقود أولمبياكس لدور الثمن والنصيري يساهم في عبور فنربخشة للملحق    توقيف شخص بطنجة مبحوث عنه وطنيا متورط في قضايا سرقة واعتداء    إعادة فتح معبري سبتة ومليلية.. ضغط إسباني وتريث مغربي    استئناف النقل البحري بين طنجة وطريفة بعد توقف بسبب الرياح العاتية    حكم بالسجن على عميد شرطة بتهمة التزوير وتعنيف معتقل    التمرينات الرياضية قبل سن ال50 تعزز صحة الدماغ وتقلل من الزهايمر    المحكمة التجارية تجدد الإذن باستمرار نشاط "سامير"    وزير الخارجية اليمني يؤكد دعم بلاده الكامل لمغربية الصحراء خلال لقائه مع رئيس الحكوم    التعاون السعودي يعلن ضم اللاعب الصابيري خلال فترة الانتقالات الشتوية الحالية    إلموندو الإسبانية تكتب: المغرب يحظى بمكانة خاصة لدى إدارة ترامب وواشنطن تعتبره حليفًا أكثر أهمية    الفلاحون في جهة طنجة تطوان الحسيمة يستبشرون بالتساقطات المطرية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    اللجنة التأديبية الفرنسية تقرر إيقاف بنعطية 6 أشهر    كيوسك الجمعة | 97 % من الأطفال المغاربة يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي تعزز وعي الجيل المتصل في مجال الأمن الرقمي    ارتفاع أسعار الذهب    "كاف" يعلن عن تمديد فترة تسجيل اللاعبين المشاركين في دوري الأبطال وكأس الكونفدرالية    الدولي المغربي حكيم زياش ينضم رسميا للدحيل القطري    سانتو دومينغو.. تسليط الضوء على التقدم الذي أحرزه المغرب في مجال التعليم    أجواء ممطرة في توقعات طقس الجمعة    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    العثور على الصندوقين الأسودين للطائرة التي تحطمت في واشنطن    وتتواصل بلا هوادة الحرب التي تشنها جهوية الدرك بالجديدة على مروجي '"الماحيا"    نتائج الخبرة العلمية تكشف قدرة خلية "الأشقاء الثلاثة" على تصنيع متفجرات خطيرة (فيديو)    الجيش الملكي يخسر بثنائية بركانية    النقابة الوطنية للصحافة ومهن الإعلام بإقليم العرائش تكرم منجزات شخصيات السنة    من المدن إلى المطبخ .. "أكاديمية المملكة" تستعرض مداخل تاريخ المغرب    «استمزاج للرأي محدود جدا » عن التاكسيات!    زياش إلى الدحيل القطري    إطلاق النسخة الأولى من مهرجان "ألوان الشرق" في تاوريرت    برقية تعزية ومواساة من الملك إلى خادم الحرمين الشريفين إثر وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود    الملك يهنئ العاهل فيليبي السادس    وفاة الكاتب الصحفي والروائي المصري محمد جبريل    مع الشّاعر "أدونيس" فى ذكرىَ ميلاده الخامسة والتسعين    جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام 2025 تكرّم جهود بارزة في نشر المعرفة الإسلامية    الطيب حمضي ل"رسالة 24″: تفشي الحصبة لن يؤدي إلى حجر صحي أو إغلاق المدارس    أمراض معدية تستنفر التعليم والصحة    المؤسسة الوطنية للمتاحف وصندوق الإيداع والتدبير يوقعان اتفاقيتين استراتيجيتين لتعزيز المشهد الثقافي بالدار البيضاء    المَطْرْقة.. وباء بوحمرون / الحوز / المراحيض العمومية (فيديو)    علاج غريب وغير متوقع لمرض "ألزهايمر"    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذه هي عقلانية ابن رشد الفيلسوف..
نشر في هسبريس يوم 30 - 10 - 2012


تقديم:
كثيرون هم العَلْمَانيون (بفتح العين) الذين كتبوا عن عقلانية ابن رشد الفيلسوف، وأوهموا قراءهم؛ ممن لم يطلع على فكر فيلسوف قرطبة في مصادره الأصلية، أنه الفيلسوف العقلاني الذي أعطى الأولوية المنهجية والأسبقية المعرفية للعقل على حساب النقل / الشرع، وانتهى إلى أن كل قضية لم يشهد لها العقل بالاعتبار؛ فلا اعتبار لها ولا حجية فيها.!
وهذا يعني أن "العقل" وحده هو الحكم الفصل الذي لا معقب لحكمه في مختلف قضايا الوجود والمعرفة والقيم والتشريع... إلخ وكل ما سواه تبع له وخاضع لمقرراته قبولا ورفضا. بما في ذلك الوحي الإلهي.!
فهذا مجمل ما يمكن الخروج به من قراءة مجمل الكتابات العلمانية التي تناولت فكر ابن رشد، زاعمة أنه "قمة الفكر العقلاني المادي الذي تلاشت معه الثنائية بين العالم والإله."1 وهو الفيلسوف "الذي كرس نضاله من أجل تنصيب العقل أساسا ومرجعا في كل العقليات والشرعيات؛ انطلاقا من دفاعه العنيد عن السببية."2 إلى غير ذلك من الدعاوى الإيديولوجية التحريفية لتراث ابن رشد.
فإلى أي حد يمكن التسليم بهذه الدعاوى الإسقاطية العلمانية على عقلانية أبي الوليد، وعلاقته المعرفية بالوحي؟
ذلك ما نبسطه في الفقرات الآتية تاركين الإفصاح عن الحكم فيه لقاضي قرطبة بما معه من علم في فقه الشريعة، ومعرفة بالحكمة الفلسفية تحديدا، بعيدا عن أي تأويل أو قراءة تجزيئية مبيتة.
فهذا هو القصد مجملا من هذه الورقة؛ وفيما يلي بيانه مفصلا في النقط الآتية:
1- ماهية الفلسفة وتأصيل النظر العقلي:
مما لا خلاف فيه أن ماهية الفلسفة تختلف باختلاف الفلاسفة؛ ولذلك يقال: إن للفلسفة من التعاريف بعدد ما هنالك من الفلاسفة؛ فكل يعرفها بحسب مرجعيته العقدية أو خلفيته الفكرية. وما يهمنا هنا هو تعريف ابن رشد. فما هي "الفلسفة" في نظر هذا الحكيم؟
إذا راجعنا مصنفات الرجل وجدناه يصدر في تعريفه ل"فعل الفلسفة" عن مرجعيته الإيمانية الإسلامية؛ بناء على منهجه الفقهي الأصولي بشكل واضح؛ فبعدما افتتح كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، بحمده لله بجميع محامده، وصلاته على نبيه محمد؛ صلى الله عليه وآله وسلم، أفصح عن غرضه من الكتاب، وهو الفحص عن حكم الشرع في "الفلسفة وعلوم المنطق"، ليبدأ مباشرة بتعريف "فعل الفلسفة" قائلا: "فعل الفلسفة؛ ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع."3
وهذا يعني أن الفلسفة فعل عقلي كباقي الأفعال الإنسانية التكليفية؛ مهمته الانطلاق من البحث في الخلق بما هو مصنوعات كونية للدلالة على الخالق بما هو صانع حكيم؛ وبتعبير ابن رشد: " فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم؛ كانت المعرفة بالصانع أتم."4 وهذا مما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب؛ صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون.﴾ (سورة النحل: 88)
وهذا عين المنهج القرآني في الاستدلال على وجود الباري تعالى وما يتصف به من صفات الجلال والجمال والكمال؛ أعني المنهج المفعم بما لا حصر له من آيات الأنفس، وشواهد الآفاق القاطعة بما له سبحانه من مطلق الحكمة ونفاذ المشيئة؛ كما هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق؛ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.﴾ (سورة فصلت:53)
2- حدود المدارك العقلية
ومهما كانت إشادة ابن رشد بقدرة العقل على المعرفة؛ فإنه لم يَدَّعِ قط أن مداركه مطلقة، لا تتقيد بأي قيد ولا شرط، ولم يتجاوز به الحدود المرسومة له، بل الثابت عنه هو التنصيص على قصور العقل والتأكيد على محدوديته سواء في مجال العلوم الإلهية، أم في العلوم الطبيعية. وفيما يلي تفصيل هذه الجملة.
أ‌- عجز العقل عن الخوض في العلوم الإلهية.
فأما العلوم الإلهية؛ فهي كل ما يتعلق بالمعارف الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، أو من ارتضى من رسول؛ كما في قوله: ﴿قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله.﴾ (النمل:65) وقوله: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول...﴾ (الجن:26-27)
فقد أقر أبو الوليد بأن كل من خاض في هذه المعارف؛ لم يسلم من الخطأ، ولذلك لا أحد من العقلاء قال فيها قولا يعتمد عليه، اللهم إلا من كان مؤيدا بالوحي الإلهي، وهم الأنبياء عليهم السلام على حد قوله: «إنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يُعْصَم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء.»5
وهذا الملحظ الرشدي عام ينطبق على كافة الناس؛ بما فيهم الفلاسفة؛ فكل من خاض منهم في علوم الغيب بعقله؛ كان فيها في غاية الضعف أيضا؛ كما قال ابن رشد الحفيد معلنا موافقته الإمامَ الغزالي في حكمه على المعارف الفلسفية في مجال العلوم الإلهية: «ولذلك يظن أن الفلاسفة في غاية الضعف في هذه العلوم، ولذلك يحق ما يقوله أبو حامد في غير ما موضع من كتبه: إن علومهم الإلهية هي ظنية.»6
وبهذا يتبين مدى احترام فيلسوف الغرب الإسلامي لاختصاص العقل، ومدى حرصه على توضيح مجالات اشتغاله، إذ وقف به عند حدوده الإدراكية المعقولة التي لا خلاف فيها بين جميع العقلاء بلا إفراط ولا تفريط، ولم يطلق له العنان ليخوض فيما ليس من اختصاصه، أو يحشر نفسه فيما لا يقوى عليه، بدعوى أن المعارف العقلية لا حدود لها، ولا تعترف بأي قيد من القيود.
وبالجملة؛ فإن ما قرره ابن رشد بشأن محدودية المدارك العقلية، ينسجم تمام الانسجام مع ما هو معلوم من العقل والشرع بالضرورة، وهو أنه لا يعلم الغيب ولا يحيط تمام الإحاطة بعالم الشهادة إلا من أحاط بكل شيء علما، وهو ليس إلا الله القائل: ﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.﴾ (الأنعام:59)
ب‌- قصور العقل عن معرفة العلوم الطبيعية.
وإذا كان العقل عاجزا عن الإحاطة المعرفية بالعلوم الإلهية؛ فإنه قاصر عن الإلمام الكلي بالعلوم الطبيعية ذات العلاقة بالموجودات الكونية أيضا. وفي هذا يقول ابن رشد: «وأما الترتيب الذي في العقل الذي فينا، فإنما هو تابع لما يدركه من ترتيب الموجودات ونظامها، ولذلك كان ناقصا جدا؛ لأن كثيرا من الترتيب والنظام الذي في الموجودات لا يدركه العقل الذي فينا.»7
وهذا يعني أن ما قعده ابن رشد فيما سلف حول حدود العقل البشري في مجالي العلوم الغيبية والطبيعية؛ هو ما قرره بشأن العلاقة القائمة بين العقل والوحي؛ فكما نص على نقصانه في النظر والبحث في العلوم الإلهية والقوانين الكونية الطبيعية. فقد نص أيضا على نقصانه العلمي بالقياس إلى علم الشرع، ولذلك ما فتئ يعترف بما في طبعه من قصور، ويسلم بما حده الشرع له؛ متى عجز عن إدراك ما نص عليه في جميع القضايا.
وفي هذا يقول فيلسوف قرطبة: «والفلسفة تبحث عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته؛ استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة. وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني، وأن مدركه الشرع فقط.»8 وهو في هذا يوافق أبا حامد الغزالي على قوله بضرورة الرجوع إلى الشرع في كل ما عجزت العقول عن إدراكه، ويعتبره محقا في قوله، ويتعقبه بمزيد من التوضيح لأسباب القصور العقلي قائلا: "قلت: (ابن رشد) قوله: (الغزالي) إن كل ما قصرت عن إدراكه العقول الإنسانية؛ فواجب أن نرجع فيه إلى الشرع.
حق؛ وذلك أن العلم المتلقى من قبل الوحي؛ إنما جاء متمما لعلوم العقل؛ أعني: أن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى للإنسان من قبل الوحي. والعجز عن المدارك الضروري علمها في حياة الإنسان ووجوده؛ منها ما هو عجز بإطلاق؛ أي ليس في طبيعة العقل أن يدركه بما هو عقل، ومنها ما هو عجز بحسب طبيعة صنف من الناس، وهذا العجز؛ إما أن يكون في أصل الفطرة، وإما أن يكون لأمر عارض من خارج، من عدم تعلم، وعلم الوحي رحمة لجميع هذه الأصناف."9
فهذه النصوص السالفة الذكر من أهم المرتكزات المعرفية التي اعتمدها ابن رشد في حديثه عن علاقة العقل بالوحي، وعليها أسس مذهبه الذي يتلخص في قاعدة: "إعطاء الأولوية المنهجية والأسبقية المعرفية للوحي الإلهي على العقل البشري." وذلك في كل ما ليس من مدارك العقول واختصاصاتها. مثل: الإقرار بوجود الله تعالى، وبالنبوات، واليوم الآخر، ومبادئ القيم الأخلاقية، وأصول التشريع، ووجوب التطبيق العملي لما جاء به الأنبياء من قوانين وتشريعات... وهو ما سيتضح أكثر فيما يلي:
3- مبادئ الشريعة؛ مسلمات لا ينكرها -عند ابن رشد- إلا كافر أو زنديق.
فأما مبادئ الشريعة؛ فهي مجموع المسلمات التي لا يجوز إخضاعها للمناقشات العقلية، ولا للأبحاث النظرية إطلاقا؛ كما هو نهج الحكماء من الفلاسفة؛ وفيه يقول ابن رشد: "فإن الحكماء من الفلاسفة؛ ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشريعة. وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد، وكذلك الفاحص عنها والمشكك فيها يحتاج إلى عقوبة عندهم؛ مثل من يفحص عن سائر مبادئ الشرائع العامة؛ مثل: هل الله تعالى موجود؟ وهل السعادة موجودة؟ وهل الفضائل موجودة؟ وأنه لا يشك في وجودها."10
وبعبارة أخرى؛ إن كل ما له علاقة بمبادئ الشريعة وأصولها لا يسمح بالخوض فيها بتاتا؛ لا بالإثبات ولا بالإبطال في نظر ابن رشد؛ ولذلك قال مترجما عن الفلاسفة أيضا: "لا ينبغي أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة. مثل: هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد؟ وأكثر من ذلك هل هو موجود أو ليس بموجود؟ وكذلك يرون في سائر مبادئه مثل القول في السعادة الأخيرة وفي كيفيتها؛ لأن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت."11
وتأسيسا على ما سلف؛ فإن كل من تجرأ على المجادلة في المبادئ الشرعية، ولم ينضبط بما قرره العقل الفلسفي ذاته فيها من ضرورة التسليم بها؛ فهو كافر أو زنديق12 يستحق عقوبة الإعدام بإجماع الأنبياء والفلاسفة، على حد ما قضى به ابن رشد قائلا: "من صرح بشك في المبادئ الشرعية التي نشأ عليها، أو بتأويل أنه مناقض للأنبياء صلوات الله عليهم، وصاد عن سبيلهم؛ فإنه أحق الناس بأن ينطلق عليه اسم الكفر، ويوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر."13
وهذا يعني أن المشكك في مبادئ الشريعة لا يمكن أن يكون إلا أحد اثنين: إما كافر أو زنديق؛ لا هم له إلا إبطال ما جاءت به الشريعة من مبادئ وفضائل لصرف الناس إلى مهاوي الرذيلة، ومواطن اللهو والعبث والانحراف والفساد؛ وهو ما يفضي في المحصلة النهائية إلى إبطال الوجود الإنساني أصلا.
وهذا هو الشغل الشاغل لسفراء التغريب والعلمنة ببلاد العروبة والإسلام منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، وما تصريحاتهم ومناداتهم العلنية بإقصاء الإسلام بما هو عقيدة وشريعة وقيم ونظام حياة عامة، ومطالبتهم المتكررة بدسترة الفواحش، وشرعنة الرذائل إلا دليل على صحة ما انتهى إليه ابن رشد مرة أخرى؛ إذ قال: "والذين شكوا في هذه الأشياء وتعرضوا لذلك وأفصحوا به؛ إنما هم الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات. هذا مما لا يشك أحد فيه، ومن قدر عليه من هؤلاء؛ فلا شك أن أصحاب الشرائع والحكماء بأجمعهم يقتلونه، ومن لم يقدر عليه؛ فإن أتم الأقاويل التي يحتج بها عليه هي الأدلة التي تضمنها الكتاب العزيز."14
ذلك ما أفتى به فقيه قرطبة، وقضى به قاضيها الفيلسوف، للمرة الثالثة؛ إذ قال: "الاعتراض على معجزة إبراهيم عليه السلام؛ فشيء لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام؛ فإن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشرائع، وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد، وذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادءها، ولا يعرض لها لا بنفي ولا إبطال؛ كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك؛ لأن المشي على الفضائل الشرعية هو ضروري عندهم، ليس في وجود الإنسان بما هو إنسان؛ بل بما هو إنسان عالم؛ ولذلك يجب على كل إنسان أن يسلم مبادئ الشريعة وأن يقلد فيها ولابد الواضع لها؛ فإن جحدها والمناظرة فيها مبطل لوجود الإنسان؛ ولذلك وجب قتل الزنادقة. فالذي يجب أن يقال فيها: إن مبادءها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية؛ فلابد أن يعترف بها مع جهل أسبابها؛ ولذلك لا نجد أحدا من القدماء تكلم في المعجزات، مع انتشارها وظهورها في العالم؛ لأنها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل. ولا فيما يقال منها بعد الموت.
فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية، كان فاضلا بإطلاق. فإن تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من العلماء الراسخين في العلم، فعرض له تأويل في مبدأ من مبادئها، ففرضه أن لا يصرح بذلك التأويل، وأن يقول كما قال الله سبحانه: ﴿والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب.﴾ (آل عمران:7) هذه هي حدود الشرائع وحدود العلماء...
وإذا كانت الصنائع البرهانية في مبادئها المصادرات والأصول؛ فكم بالحري يجب أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل، وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلم أنه يمكن أن تكون ههنا شريعة بالعقل فقط؛ فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي... »15
والغريب في الأمر أن كل ما قام به زنادقة الأمس، وما يقوم به زنادقة اليوم من العلمانيين من تشكيك في قضايا الشريعة وأحكامها وقيمها ورموزها هو بخلاف ما درج عليه الفلاسفة من تعظيم لها وإيمان بها؛ كما قال ابن رشد: "إن الفلاسفة هم أشد الناس تعظيما لها وإيمانا بها."16
و هذا التعظيم ليس من قبيل المجاملة؛ وإنما هو تعظيم حقيقي نابع من قناعة الفلاسفة بما لمبادئ الشريعة من أدوار في حمل الناس على الاستقامة وحسن السير إلى الله لتحصيل السعادة. وبتعبير فيلسوفنا: "والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان، والفضائل النظرية والصنائع العملية. وذلك أنهم يرون أن الإنسان لا حياة له في هذه الدار، ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية، وأنه ولا واحد من هذين يتم ولا يبلغ إليه إلا بالفضائل الخلقية، وأن الفضائل الخلقية لا تتمكن إلا بمعرفة الله وتعظيمه بالعبادة المشروعة لهم في ملة ملة، مثل القرابين والصلوات والأدعية، وما يشبه ذلك من الأقاويل التي تقال في الثناء على الله تعالى وعلى الملائكة والنبيئين."17
وخلاصة القول: إن ما قرره ابن رشد في موضوع العقل وعلاقته بالشرع؛ لم يكن من قبيل الترف الفكري؛ وإنما كان بدافع تحصين العقل والمجتمع الإسلاميين من مختلف أنواع الاختراق الفكري التي طالما كان الزنادقة وراءها يومئذ. كما هم اليوم وراء معظم المآسي التي تعاني منها أمتنا على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولا أدل على صحة هذا الملحظ مما قرره أبو الوليد آنفا بشأن الفلسفة والعقل وعلاقته بالعلوم الطبيعية والعلوم الشرعية وحكمه الصارم على الزنادقة بالكفر والعقوبة الشديدة إلى حد الإعدام بإجماع الفلاسفة. وهو حكم لا نجد له مثيلا حتى عند من يصنفون في القراءات العَلْمَانية العربية المعاصرة ضمن «أعداء العقل» كالغزالي وابن تيمية والشاطبي وغيرهم من رواد الفكر الإسلامي الأصيل.
والسؤال هنا: ما رأي العلمانيين فيما نص عليه ابن رشد أعلاه؟ وما قولهم في هذه الفتاوى الفلسفية التي أصدرها في حق أسلافهم؟ ولماذا هم مصرون على تغليط القراء وإيهامهم بنسبة ابن رشد إلى العقلانية المجردة المقطوعة صلتها بالمرجعية الشرعية؛ بينما هو على العكس من ذلك تماما؟ ولماذا هم متشبثون بقراءة التراث قراءة انتقائية تعسفية تُقَوِّلُهُ ما ليس فيه، ولا يمت إلى حقيقته بصلة؟
وختاما؛ هذا قول ابن رشد في العقلانية؛ فماذا أنتم قائلون أيها العَلمانيون؟!
ورجائي أن تجيبوا بكل موضوعية وشجاعة أدبية على ما قرره ابن رشد في علاقة العقل بالشرع من جهة، وعلى ما قضى به في حق أسلافكم من جهة، وليس لي من شرط إلا شرط واحد وهو: إذا كنتم ناقلين فالصحة، وإذا كنتم مدعين فالدليل.
الهوامش:
1 طيب تيزيني؛ مشروع رؤية جديدة للفكر العربي الوسيط، دار دمشق، ط 5، 1981، ص 355
2 محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1991م، ص 203
3 ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق، محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 1986م، ص 22
4 ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ص 22
5 ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق: سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، د.ت، 2/547.
6 تهافت التهافت، 1/348، 402
7 تهافت التهافت، 1/358 و2/527، 629
8 تهافت التهافت، 2/758
9 تهافت التهافت، 2/758
10 تهافت التهافت، 2/773، 774
11 تهافت التهافت، 2/865، 866
12 قال ابن تيمية:" الزنديق في عرف الفقهاء: هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان؛ كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة." مجموع الفتاوى،تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، ط3، 1426 ه/2005م، 7/471.
13 تهافت التهافت، 2/867، 868
14 تهافت التهافت، 2/791 - 796، و 869 - 871
15 تهافت التهافت، 2/790- 792 – 869 – 871.
16 تهافت التهافت، 2/758
17 تهافت التهافت، 2/885، 886
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.