هناك من يعتبر أن الفلسفة عدوة للدين و العلاقة بينهما علاقة تنافر و تضاد، سواء من حيث القيمة أو المقصد. هل يمكن اعتبار فعلا أن الفلسفة نقيضة للدين و التشريع الإسلامي؟ وأن الدين محايد للفلسفة أم أن كل هذه الاعتقادات نتاج لتشدد ديني و سوء للفهم؟ -ما المقصود بفلسفة الدين philosophy religion)): هي دراسة عقلية للمعاني و القضايا التي تطرحها الأسس الدينية و تفسيراتها للظواهر الطبيعية وما وراء الطبيعة مثل الخلق و الموت وجود الخالق. -التفكير الديني: يعتمد الفكر الديني على الإيمان كمنطلق وأساس. يعتمد الخطابة كمنهج، إن التفكير الديني لا يتجه إلى فئة معينة دون أخرى، بل إنه يتوخى إقناع الناس كافة خاصتهم وعامتهم, و لذلك نجده يعتمد في الغالب على الجدل الخطابي، و الأسلوب الجدلي الخطابي في الإقناع، هو نوع من المشادة الكلامية مع الخصم تستهدف إفحامه وإلزامه، وذلك بالعمل على إفساد براهينه أو تحميلها نتائج لم يكن الخصم يقصدها أو يتوقعها، إنه حركة فكرية عقلية ترمي إلى إبراز تناقض دعوى الخصم أكثر مما تهدف إلى إقامة بنيان نظري متماسك الأركان متناسق الأجزاء. بالإ ضافة إلى هذا الجدل الكلامي الذي استهدف الهدم أكثر مما يستهدف البناء يلجأ التفكير الديني في جانبه الإنساني إلى خيال كوسيلة لكسب وجدان الشخص. ولذلك كانت الخطابة, و هي تعتمد الخيال أكثر من العقل, و تتجه إلى إثارة الوجدان وإلهاب العواطف أكثر مما تعمل على استشارة العقل وتنشيط الفكر , وسيلتها في ذلك صور خيالية و تعابير فنية بلاغية، و إمثال حكمية محكمة, فيها بلاغة سحر جمال و فن. إن التفكير الديني من هذه الناحية تفكير عملي، يعتمد الدعاية و التبشير و يحرص على كسب الأنصار أكثر من حرصه على شيء آخر. II- التفكير الفلسفي: هو تفكير (نقدي- تحليلي) ذلك لأن الفيلسوف يبدأ دوما صراحة أوضمنيا, بتحليل المعارف والتصورات و مختلف أشكال الآراء و النظريات السائدة تحليلا نقديا، يستهدف بيان حقيقتها أو زيفها و هو يفعل ذلك لا يشغل نفسه بفحص كل جزيئة على حدة, و إنما يعتمد في الغالب إلى نقد الأسس المعرفية التي تقوم عليها تلك المعارف و التصورات، بالإضافة إلى أنه تفكير نقدي تحليلي فهو كذلك تفكير تأملي تركيبي. و الحق أنه سواء انصرف الفيلسوف إلى البحث في الوجود ( طبيعته وعلله وغايته) كالبحث في الخالق، وأصل الكون و البحث في النفس و طبيعتها ومصيرها وفي مشكلة الثبات و التغير، و السكون و الحركة، الوحدة والكثرة وغير ذلك من القضايا التي تدخل في إطار ما يسمى بمبحث " الانطولوجيا", وسواء انصرف الفيلسوف إلى قضية المعرفة أو قضية الوجود أو إلى ميدان " الإكسيولوجيا" (الأخلاق و علم الجمال و التربية) فإنه يتوق في الغالب إلى الخروج من أبحاثه ببناء تأملي تركيبي, متناسق متماسك يحرص على وضع كل جزء من أجزائه في مكانه المناسب. ومن هنا الخاصية التي يتميز بها التفكير الفلسفي عموما هي طابع الشمول و العمومية. إذا كان التفكير الفلسفي و الديني تربطهما وشائج من القربى عديدة لكونهما يهتمان بوضع إجابات نهائية حول كثير من المسائل و المواضيع الميتافزيقية، كأصل الكون و طبيعة الله وعلاقة الإنسان بالخالق و طبيعة النفس و الغاية من الوجود, ومع ذلك فهما يختلفان في قضايا أساسية تتصل بالموضوع كما تتصل بالمنهج و الهدف. وبما أن التفكير الفلسفي ينطلق من العقل وحده, فنجد التفكير الديني ينطلق من مسلمات أساسية: 1- فكرة "الربوبية" أي الاعتقاد بالله الواحد مطلق الكمال. 2- فكرة "بدئ الخلق" أي الاعتقاد بأن العالم وما فيه من خلق الله 3- فكرة "الوحي" أي الاعتقاد بأن الحقائق التي تقدمها الكتب المقدسة هي حقائق خالدة لا سبيل للشك فيها أو مناقشتها لأنها وحي من عند العليم الخبير. إن اللاهوتي لا يبحث في القضايا الفلسفية الميتافزيقية إلا انطلاقا من المسلمات السابقة، و من اجل إقامة الحجة على صدقها، لذلك نجد التفكير الديني مقيد بهذه المسلمات. III- الفلسفة و الدين: كانت الفلسفة في العصور القديمة نتيجة لتساؤلات متعددة حول طبيعة الحياة و الكون و الإنسان وكان بسبب ذلك تأملات في هذه الأمور التي نمت وتطورت حتى أضحت تشكل ما عرف بالفلسفة, و كذلك فقد مازجت هذه التأملات نظرات دينية لإبراز الحقيقة، وقد دارت تلك التساؤلات عن خالق الكون ومراده وفق نواميس ثابتة وقد اهتمت الفلسفة في أوروبا في عصورها الوسطى اهتماما كبيرا بموضوع إقامة البرهان على وجود الله سبحانه وتعالى. أما الدين فهو في الأصل ما أنزله الله على آدم أبو البشر، ثم دخلت عليه شوائب عدة و خرافات وبدع فاختلف الناس شيعا ومذاهب.و كانوا قبل ذلك أمة واحدة على الدين الحق، فبعث الله الأنبياء و الرسل يردونهم إلى الحق اليقين ويهدونهم إلى الطريق القويم. وكان محمد (صلى الله عله وسلم) خاتمهم قال تعالى: "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" يونس الآية:19, وقال تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" البقرة الآية"213 . ويرى بعض الفلاسفة أن الهدف الرئيسي للفلسفة ليس اكتساب العلم و المعرفة و العمل بهم فقط بل إن مساعدة الناس لكي يتحملوا متاعب الحياة الدنيا و همومها وشقاءها هدف رئيسي مهم من أهداف الفلسفة. و في الواقع لا يستطيع تحقيق هذا الهدف إلا الدين. - إن الفلسفة ليست بشيء غريب عن الشريعة لأنهما معا يختصان بالكونية، فكلاهما يستند إلى مبدإ شمولي هو العقل في الحكمة الفلسفية و الكتاب المنزل في الشريعة. يعتبر بعض المتكلمين و الفقهاء و الفلاسفة أن العلاقة بينهما علاقة تنافر، لكن اعتقاداتهم خاطئة فإن كانت الفلسفة بعيدة كل البعد عن العينية الدينية، فلماذا ذكر في القرآن الكريم مقاطع كثيرة أساسها الاستدلال تستدعي استعمالا ملفتا وكبيرا للعقل, ألا يعتبر العقل أساس كل تفكير في الحقيقة؟ بل في أساس كل ممارسة تتخذ من تلك الحقيقة منطلقا لها. وعليه لايمكن الفصل بين مسألة الحقيقة و بين مسألة العقل, ليس فقط داخل الحكمة الفلسفية بل داخل الشريعة أيضا. فالخطاب الفلسفي ينطلق من العقل، لكنه يخاطب العقل أيضا، وخطاب الشريعة ينطلق من الوحي لكنه يخاطب العقل أيضا. - هناك بعض الأمور الخفية في الدين الإسلامي تتطلب مجهودا عقليا منطقيا، فالفلسفة ليست ذلك الشيء المحايد أو بالأصح على قول المتشذدين "العدوة" فهي كشف للحقائق وسعي وراء الحقيقة بكل أرواحنا. وكذلك الفلاسفة فمنهم أصعب مما نتصور لا تخلو من المجازفة و المخاطرة فهو فيلسوف مطلع على مختلف المعارف الفلسفية البشرية، واقفا على تقدم العلوم و تطورها و على بنية من النتائج العلمية التي تغني المعرفة البشرية باستمرار, فالفلسفة بالنسبة للفيلسوف رفع لستار من أجل حقيقة واضحة معبرة عن روح كل عمر إذ اعتبرها ماركس هي "الخلاصة الروحية لحصرها" فعلى الفيلسوف أن يكون عارفا معرفة حقة ونظرة شاملة عن الدين ليتمكن أفضل تمكن من إبراز الحقيقة الوضاحة. - فالشرع دعا إلى اعتبار الموجودات باحتكام العقل و تطلب معرفتها به, فذلك بين في آيات من كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى:"فاعتبروا يا أولي الأبصار" كما قال تعالى:"أو لو ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض وما خلق الله من شيء" وهنا أفضل دليل يأكل على حث النظر في المخلوقات بالعقل. - تعتبر الحقيقة أساس وحدة الحكمة الفلسفية و الشريعة وذلك نظرا لبعد الحقائق الخفية في كل منهما والتي لا يستوجب علمها إلا بالقياس العقلي أي البرهان وهذا نوع من القياس لا يخالف م ورد في الشرع بل يوضحه كما قال ابن رشد : (فإن الحق لايضاد الحق بل يوافقه ويشهد له). - ويعتبر (ابن رشد) أول من أزاح ذلك الحاجز المتعصب بين الفلسفة و الدين من خلال مؤلفاته التي حاول فيها إبراز تنازلاته الفلسفية للدفاع عن الوحي أحيانا وكذلك تنازلاته الدينية للدفاع عن الفلسفة أحيانا أخرى. فهو يرى من منظوره أن كل من الفلسفة و الدين حق ولا ب أن يشهد أحدهما للآخر وكما يقول"( إن الحكمة الفلسفية صاحبة الشريعة و الأخت الرضيعة... وهما المصطحبتان بالجوهر و الغريزة) والشرائع عنده مأخوذة من الوحي و العقل (فكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها) فهو يعتبر أنه لابد أن يكون كل بني فيلسوف من دون عكس. كما يصفهم بأنهم أولئك الذين قيل فيهم أنهم ورثة الأشياء. وهنا ما يستوجب الإقرار بعملية تأويل النص عند معرضة البرهان الفلسفي، فلقد رأى ابن رشد فيها مشروعا من اختصاص الفلاسفة وذلك لاعتبارهم أصحاب القياس برهاني من بين أشكاله الثلاثة، أحدهما يفيد أهل الكلام وهو الجدل والآخر هو الخطابة التي اعتبرها من شأن الجمهور الغالب. وتظهر تنازلاته الفلسفية للدفاع عن الوحي في كتابه "التهافت تهافت" إذ أقر بدوره في أن هناك أمور في الشريعة يستحيل على البرهان العقلي أن ينالها، فلا طريق لإدراكها سوى الوحي والنبوة كالأدعية و الصلوات وغير ذلك مما لا يعرف إلا بالعينة الدينية. إلا أنه في كتاب "فصل المقال", أعطى القدرة التامة للعقل في معرفة كافة مكونات شرع من الحقائق و التعاليم. وكان مؤلفه "التهافت تهافت" عبارة عن رد فعل على الغزالي الذي يعتبر أول من أعلن كفر الفلاسفة في كتاب له "مقالة الفلاسفة" إذ أعلن فيه كفر الفلاسفة ومن الأسباب التي جعلته يتخذ هذا الموقف هو قول الفلاسفة بقدم العالم وعدم انفكاك عن الخالق إذ أنه مادام وجود الخال وجود غير مبتدأ وغير متناه فهنا أيضا يكون العالم غير مبتدأ و الماضي غير متناه وقد ذهب إلى هذا الرأي (أرسطو) الذي خالف به (أفلاطون) الذي يقول بتناهي الماضي. وهنا بدأ الجدل بين الفلاسفة أنفسهم و المتكلمين من جهة وفقهاء الدين من جهة أخرى. - لقد وقع الفقهاء في خلط بين آراء الفلاسفة وبعضهم قد أنفق رأيه السلبي تجاه الفلاسفة بدون قراءة مسبقة وهذا الحال وقع به (ابن تيمية) عندما قام بتكفير كل من يذهب إلى القياس الأرسطي و السبب برأيه هو أن( أرسطو) كان يعبد الأصنام و في الحقيقة هذا كلام يدل على أن (ابن تيمية) لم يطلع على حياة (أرسطو) ولم مرة واحدة، لأن (أرسطو) كان من الموحدين و الذين يؤمنون بوجود الخالق وأنه كان من المنزهين لصفات الخالق و أول من وضع البرهان لإثبات وجود خالق الكون. لكن المصيبة التي غفل عنها متبعي (ابن تيمية) هو أنهم لم يطلعوا على فكر (أرسطو) وأعطو رأيا خاطئا اتجاهه وتجاه الفلاسفة وتجاه منطقه. وهذا الشذوذ عبر عنه (ابن رشد) في كتابه "فصل المقال" على أنه " حاله حال من شهق بالماء ومات ويتساءل هل لنا أن نترك شرب الماء إذ أن أحدهم شهق ومات". - و القضية الأخرى هي عدم فهم مقصد الفيلسوف في رأيه إذ أن الفيلسوف هو شخص باحث عن أشياء مجهولة في العالم و لكن البعض اعتبر البحث كقضية تجاوز وفي الحقيقة هذا الكلام لا ينسجم مع الحقيقة العلمية التي يطرحها القرآن الكريم اذ أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بالبحث والتوصل إلى المجهولات و المعرفة الحقيقية التي تكمن وراء الأشياء وأساس هذه الحقيقة هو تعقل وتدبر في الكون و الحياة. قال سبحانه وتعالى: "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر, إن في ذلك لآيات لقوم لا يعقلون" النحل الاية12. - فيقول الفلاسفة أنه كلما بحثنا عن علل الأشياء كلها علمنا عظمة الخالق وهذا شيء لا يصطدم مع الدين و التشريع. كخاتمة - ما يمكن أن نستنتجه من معالجتنا لهذا الموضوع، أن الفلسفة لا تصطدم مع الدين أصلا على العكس بل الدين و التشريع يأمرنا بالبحث. لكن القضية وقعت إشكالاتها بين فقهاء الدين الذين فهموا الدين على هواهم و مزاجهم فأخذوا هذا الاتجاه المعاكس و المتشدد ومنهم (الغزالي) و (ابن تيمية) ومن معه، لأن الفلسفة تعارض فكر (ابن تيمية) الذي يقول **** للخالق والحركة وهذا مالا يقبله العقل و المنطق لأن هذه الأشياء من "الغيبيات" إذن فتصادم الفلسفة لم يكن مع الدين من أساس ولا مع التشريع بل التشريع و الدين يحثان على العلم و المعرفة. لكن الفلسفة اصطدمت مع فكر الهوى الذي اتبعه بعض الفقهاء ونشروا أفكارهم الشاذة في كل مكان. وفي الأخير أشكر كل أساتذتي وإن كنت قد قفزت على موضوع أكثر مني ومرة أخرى أكرر اعتذاري لهم .