مفاهيم ينبغي أن تصحح مما شاع وانتشر إلى درجة الابتذال في أوساط المثقفين أن الخطاب الوعظي خطاب إنشائي عاطفي خال من الاستدلال البرهاني وهو يصح للعوام دون العلماء. وهو تهييجي أكثر منه توجيهي، وغالبا ما يساق الكلام عنه مساق التهكم والانتقاص. فقولهم هذا خطاب وعظي، أو كفى من الوعظ! يعني أن هذا النوع من الخطاب المنعوت بالوعظ، لم يرق بعد إلى مقام العقل والتعقل حتى يتأهل للإدراج في مصاف الخطابات العلمية. وهذا اللبس ليس وليد اليوم، بل هو قديم يمكن الرجوع به إلى عصر الصراع المفتعل تاريخيا في الفكر الإسلامي بين الشريعة من جهة والحكمة (الفلسفة) من جهة أخرى. وعند محاولة الفلاسفة المسلمين التوفيق بين الشريعة والفلسفة جعلوا الناس ثلاث مراتب من حيث تصديقهم بالحقائق: >فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية (الوعظية) كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية< (فصل المقال لابن رشد). واستدلوا لهذا التصنيف بقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). فالحكمة في الآية عندهم هي الفلسفة وبرهانيتها العلمية.. والموعظة هي الخطابية التي لا تليق إلا بالعوام، وجادلهم بالتي هي أحسن هي الأقاويل الجدلية التي نعتوا بها الفقهاء عموما وفقهاء الكلام خصوصا.. وانتهى الترتيب إلى كون الخطاب الفلسفي أعلى المراتب الثلاث، لأنه الأعلم في زعمهم بحقائق الدين ويتبعه في المرتبة، مع فارق كبير، خطاب أهل الجدل من علماء الشريعة، وفي الأخيرة الخطاب الوعظي الذي يمارسه الفقهاء عند مخاطبتهم "العامة". وقد رد هذا الترتيب فقهاء الشريعة الأعلام ردا عقليا ونقليا، وأبانوا تهافته وتهافت الاستدلال له بالآية الكريمة. ومن أقوى الردود القديمة ردود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إذ أظهرهم "عالة" على الفلسفة اليونانية وأبعد ما يكونون عن العبارة القرآنية وإن حاولوا توظيفها لإقحام تخيلاتهم الفلسفية المستعارة في المجال الإسلامي. وكشف رحمه الله عن عدم برهانية كلامهم وأقيستهم واستدلالاتهم. وأحال رحمه الله على الطريقة القرآنية فقال: >وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق أمور عظيمة، لا يقاربها بيان ولا تحقيق<. وممن كشف عوارهم في العصر الحديث "غزالي" هذا الزمان الأستاذ العلامة طه عبد الرحمان إذ أبان بما يكفي عن كون خطابهم الذي يدعي البرهانية، هو كغيره من الخطابات الأخرى، حجاجي وليس ببرهاني، إذ البرهان يقصي المستدل الإنساني، ولا يسمح لذاته بالتدخل في عملية الاستدلال، لأن هناك آلة مجردة تقوم بحساب المتوالية الاستدلالية البرهانية، أي أن من صفة البرهان إمكان التحويل إلى "توابع" رياضية صرفة. أما المقال الفلسفي فهو خطاب طبيعي خاضع لكل ما تتأثر به اللغة الطبيعية "ويجري عليه (المقال الفلسفي) ما يجري عليها! فلا مضامينه بمعزل عن تأثير محتويات هذه اللغة ولا مناهجة بمنأى عن توجيه وسائلها، فهو مثلها لا يظهر خفية ولا يكشف عن طوية، ولا يجلو عن ألفاظه المعاني والمعتقدات والمقاصد...< ومن هنا خرج بخلاصة قلبت الترتيب، وجعلت الأصوليين وعلماء الشريعة أفطن وأعلم بمجالهم، لأنهم كانوا أوعى من الفلاسفة بالأداة التي يتعقلون بها الوجود، ويتعاملون بها مع الأشياء. والأداة هنا هي اللغة الطبيعية التي بها نتخاطب ونتحاور ونتجادل ونتفاهم.. أي هي وعاء الفكر، فالوعي بها شرط أساسي للوعي بحركة الفكر الإنساني في الوجود، لأن الإنسان يفكر من داخل اللغة وبها. والفلاسفة ألبسوها حالا ليست منها، وهي حال الاستدلال المنطقي البرهاني، وكما يقول العلامة طه عبد الرحمان: "المنطق أنساق مبنية والكلام أحوال فطرية"، ولكل طبعا خصوصية وطريقته في العمل والتحقق، فالأولى (المنطق أنساق مبنية) يهدي إلى نتائج قطعية، والثانية (أحوال فطرية) قد تبدأ مثبتة للشيء في بداية الكلام وتنتهي نافية. وعليه فإننا في هذا العمود سنحاول رد الاعتبار إلى الوعظ في المجال الإسلامي ونظهر مقامه الشريف من خلال العقل والنقل وما جاء عند أئمة السلف والخلف. حتى يتحرر من النظرة الدونية التي تلاحقه في كل مكان، ومن طرف كثير من محترفي الكلام بما فيهم من يحسبون على الثقافة الإسلامية، وسيظهر بإذن الله أن الوعظ علم وفن يحتاجه العالم كما يحتاجه العامي، وهو أداء كلامي قاصد له ارتباط وثيق بمفهوم الحكمة في الطرح الإسلامي لعلنا نحييه كعلم وفن يساهم في بناء المجتمع وتوجيهه. رشيد سودو