علينا الإقرار بالحقيقة: لم يأخذ الربيع العربي في المغرب الزخم نفسه الذي اتسم به في دول أخرى، ولا كان بالدرجة نفسها من الجذرية. لا يبرر ذلك ادّعاء وجود "استثناء مغربي"، أو مجتمع "فريد" يتمتع في صميمه بمناعة ضد أي حركة احتجاج جذرية. فهذه الاخيرة كانت حقيقية في المغرب، مثلما هي الحال في بقية الدول العربية، وهي حملت في صلبها العلامات الثابتة عن التغييرات الآتية. وهي صنيعة الجيل الشاب بالدرجة الأولى. وبهذا المعنى، فهي كشفت للنخب السياسية المغربية مدى شيخوختها. والأهم من كل ذلك، أن هذه الحركة الاحتجاجية تشكل، من خلال شعاراتها، قطيعةً مع المطالب التي رُفعَت في الماضي. فهي المرة الأولى التي يتمّ فيها وضع المَلَكية نفسها موضع النقاش، إضافة إلى طرح السجال العام حول إحدى أسس المَلَكية، التي ظلّت تُعتبر غير قابلة للمسّ، أي قداسة الذات الملكيّة. وهذا تغيير عميق حقاً، ومؤشر لنموذج جديد هو حصيلة لتطور المجتمع المغربي الذي يبدو، من هذه الزاوية، مشتركاً مع الساحة العربية وإن تفاوتت الإيقاعات. والمحرِّك الأساسي في هذا السياق هو تثبيت مكانة الفرد في المجتمع، وذلك بفعل ظهور أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي تقع الأسرة النواتية في صلبها، وبفضل ارتفاع نسبة التعليم عند الشباب التي تسهّل اكتساب هذه البُنى لشرعيتها في الأذهان. لقد أصبح الفرد فاعلا اجتماعيا مركزياً. وهذا المعطى البنيوي يفرض نفسه بقوة، ويفسر التعبير الجريء لدى الحركة الاحتجاجية للمواطنين. غير أن السؤال يبقى مطروحاً حول الأثر الفوري الضئيل الذي تمتعت به "حركة 20 فبراير" الاحتجاجية في المغرب. بالتأكيد، أظهرت السلطة المركزية ذكاء كبيراً من خلال اعتماد مجموعة من الاجراءات الهادفة إلى تعطيل تصاعد المطالب المطروحة. ويندرج في هذا السياق الإصلاح الدستوري وتقاسم السلطات، وإن بشكل غير متوازن، بين رئيس الحكومة والملك. من المؤكد أيضاً أن القمع لم يكن فجاً في المغرب مقارنة مع دول أخرى كتونس وليبيا. كانت درجة تكميم الأفواه أدنى من أمكنة أخرى، كما أن التواجد الأمني كان أقل وضوحاً، والأهم أن السلطة كانت قادرة على التباهي بتقدم ملحوظ على أصعدة حقوق الانسان والمرأة. وقد أُتبعت خطوة الافراج عن السجناء السياسيين بمحاولة مصالحة لم تقتصر على نقاش مفتوح حول "سنوات الرصاص" فحسب، بل تخلّلها أيضاً تعويض مالي للمعتقلين السابقين. كما أن "المدوَّنة" الجديدة (قانون الأسرة في المغرب)، حتى وإن لم تقلب وضع المرأة جذرياً، إلا أنها سمحت بتحسين وضعها من خلال إصلاحات مسّت آلية الطلاق ووفرت حماية لبعض حقوقها. قد يكون هناك أسباب أخرى أكثر عمقاً ممّا سبق لتفسير ضآلة الأثر الفوري للحركة الاحتجاجية، وبطئها وميوعتها. لعل منها أن المجتمع المغربي تشكيل اجتماعي تتمفصل فيه أنماط الانتاج بطريقة سلمية سلسة، من دون تصادم بينها، وبلا تناقضات متفجرة من شأنها التسبب باجتثاث الأشكال الاجتماعية التقليدية. في هذه الحالة، يبدو التشكيل البدائي القديم طويل العمر. وبالنظر إليه من هذه الزاوية، يظهر المجتمع المغربي مركباً، جامعاً في طياته التقليد والحداثة، من دون أن يكون هذا الخليط عرضة للانفجار. لقد تطور هذا المجتمع منذ القرن التاسع عشر بلا انقطاعات جذرية. ولم يكن التغيير داخلياً وذاتياً في بداياته. كان التغلغل التجاري الأوروبي هو ما أنتج دينامية توسعية في الميدان الاقتصادي، وفرت ملامح استقلال ذاتي له عن الحيّز السياسي. هكذا حصل الانتقال من المجتمع القبلي إلى المجتمع الحديث من دون تدخل لدينامية داخلية وثورية. بعدها، ارسى الاستعمار دولة وجدها مترنحة. وهو حافظ عليها بأشكالها التقليدية حتى لا يتسبب باضطراب في النظام الاجتماعي. ووفق المنطق نفسه، حاول عدم المسّ بالنسيج الثقافي للمجتمع. وهي احتياطات اتخذها الاستعمار بهدف التحكم بالتغيير الاجتماعي وإفراغه من محتواه الثوري عبر تجميده ثقافياً، ولو أن وجوده وفعله أنبتا البذور الأولى الهادمة للنظام القائم. ومع الاستقلال، تسارعت وتيرة التغيير العميق. وكان الانفجار السكاني العامل الأول الذي دفع نحو انهيار البنى القبلية العاجزة عن احتواء فيضان مماثل، في حين لم تكن الزراعة منتجة إلى درجة كافية لتغذية هذا الفائض السكاني الكبير. فقد قفز معدل النمو السكاني من 0.6 في المئة طوال النصف الاول من القرن العشرين، الى 3.3 في المئة بين اعوام 1952 و1960. وحافظ على وتيرة 2.6 في المئة حتى 1994. كما حرم تمركز المُلكية الخاصة وتقلص مساحات الأراضي المشاع المشتركة التي كانت سائدة قبل الدخول الاستعماري، التنظيم الاجتماعي من الشروط المادية الضرورية لاستمراره. وقد أدّى وضع الملاك الكبار أيديهم على أفضل الأراضي الزراعية المرويّة، إلى تقليص ملكية الفلاحين بشدة، وتفتيتها، وحصر معظمها في قطاع الزراعة شبه القاحلة والبعلية أو التي تعتمد على الأمطار. فكان النزوح اضطرارياً بالنسبة لجزء كبير من السكان الريفيين حيث استقروا في المدن. وكان من شأن هذه المعطيات الجديدة التي أدت إلى تخبط البنى الزراعية، أن تتضاعف تأثيراتها بفعل هيمنة القطاع النقدي على الاقتصاد المغربي. لقد حلّ الأجر وسوق الصرف مكان الهِبات والعمل التعاوني المجتمعي والعمل الزراعي بالسخرة، وهو ما شكل ضربة قاسية للتنظيم الاجتماعي المؤلَّف سابقاً من مجموعات قبلية تتفاعل في إطار من الاقتصاد المكتفي ذاتياً، والذي ظلّ حتى تلك الفترة يعيد إنتاج نفسه من دون تغيير بنيوي، بسبب غياب التجديد، سواء على الصعيد التكنولوجي أو الاجتماعي. راحت الأسس الثقافية لأشكال الهيمنة السياسية المشرَّعة بفعل الطابع السري والمقدس للنظام، تتعرّض للتقويض تدريجياً على يد المكانة التي أخذت تتسع للاقتصاد في المجتمع، وإنتاج الثروات في إطار رأسمالي داخل القطاع الزراعي نفسه، إضافة إلى سيطرة موازين قوى اجتماعية جديدة يهيمن عليها التعامل المالي والتعاقد. أدّى إدخال التكنولوجيا الحديثة وشيوع التبادل وسهولة انتقال الأشخاص والسلع، إلى توسيع الأفق، وإلى نزع الطابع الشخصي عن العلاقات الاجتماعية التي أصبحت قابلة للقياس وللتفاوض على أساس موازين للقوى لا علاقة للسماء بها. لكن المستوى السياسي الذي تأقلم مع هذه الوضعية الجديدة، وقام بتحديث أدوات هيمنته، أظهر وعياً بشروط السيطرة الاجتماعية. فقد نجح في الحفاظ على هيمنته على الحيّز الاقتصادي من خلال التحكم بمفاصله الاستراتيجية. تدين الطبقة المسيطرة حالياً بالكثير للدولة. فهذه شجعت ظهور هذه الطبقة من خلال منحها مزايا، على صعيد الريع أو مختلف التنازلات والتسهيلات الادارية. هذه الطبقة مرتبطة عضوياً بالدولة، وهي لا تزال تعتمد على أفضالها، وتخشى غضبها الذي يمكن أن تمارسه بأشكال متعدّدة. فمهما تكن أسسها العقارية أو الصناعية أو المالية، تقيم شرائح الطبقة المسيطرة روابط تصاهر عائلية، سياسية واقتصادية، تجعل منها طبقة ملتحمة ومتجانسة في أهدافها، ومعتمدة بشدة على السلطة المركزية التي توفر لها الأمان. وتتحكم السلطة المركزية بهذه الطبقة، بشكل مباشر من خلال الاستثمار في القطاع الاقتصادي بصفتها مقاولاً أساسياً، وبشكل غير مباشر عبر مختلف الآليات الادارية والضريبية وغيرها، بما أن الدولة تمسك بيديها المفاتيح التي تسهّل الاستثمار وأدوات الوصول إلى مختلف قطاعات الحياة الاقتصادية، فضلاً عن التراخيص الضرورية لتأسيس أي نوع من أنواع الشركات. من شأن هذه الوضعية ألا تشجع العلاقات التي ترسو في المجتمعات الحديثة بين الحيّز الاقتصادي وباقي المؤسسات، ومن بينها السياسي، والتي تفتح الطريق نحو الديموقراطية من خلال حصر السلطة بالإطار السياسي، حيث يصبح تدخلها في المجال الاقتصادي غير مبرر إلا بمقدار ما يخص تنظيم تقلّبات ذلك المجال وتأمين سير المرافق العامة. تبقى الأسس الاقتصادية غير المحررة كلياً بعد، هشّة، والحيّز الاقتصادي لم يحقق استقلالية ذاتية كافية وقادرة على السماح له بفرض نفسه وبمقاومة السلطة السياسية. وهذا ما يفسر عجز البورجوازية المغربية عن التعبير عن نفسها بطريقة مستقلة، وعن أخذ مسافة في مواجهة الدولة، ويفسر أيضاً عدم قدرتها على فرض نفسها كنخبة من شأنها قيادة مشروع التغيير الاجتماعي. وخلال الحركة الاحتجاجية الأخيرة، أمكن بوضوح قراءة غياب البورجوازية المغربية كطبقة اجتماعية في أنماط تظاهرات الحركة. لقد ظهر خضوع البورجوازية، وافتقادها لوعي طبقي يُفترض أن يترافق مع تمكينها لوضعها الاقتصادي. إن علاقة تبعية وطيدة تربط البورجوازية بالسلطة المركزية. ويأتي النظام التعليمي في المغرب ليزيد من سوء الأوضاع، ويعطّل بشكل عام إمكانيات صياغة مشروع اجتماعي جديد يشكّل قطيعة مع الوضع الراهن. لقد تم سحق المدرسة الحكومية في المغرب بشكل منهجي، بما هي مساحة لتكوين نخب التغيير القادرة على افتكار المستقبل وأنماط التنظيم الاجتماعي المؤدية اليه. هناك اليوم مدرسة بسرعتين: المدرسة الرسمية المفرغة من محتواها التربوي والتكويني، وهي المتاحة لأطفال الطبقات الشعبية، والمدرسة الخاصة المولجة إعادة إنتاج النخب المهيمنة، أو "الوَرَثة". وأما خارج إطار المجموعات المهيمنة سياسياً واقتصادياً، فوحدهم أبناء الطبقة الوسطى العليا، المؤلفة من الكوادر العليا والمثقفين، يقدرون على تدبر أمورهم داخل النظام الحالي. إنّ هذه الملاحظة مهمّة لتقدير آفاق تطور المجتمع المغربي وموازين القوى فيه. لا يقتصر الأمر على الشرخ المتزايد بين المجموعات الثرية والطبقات الشعبية، وهو ما يظهر بشكل فاضح اليوم، بدليل مظاهر الثراء الفاحش من جهة، والنسبة الكبيرة من السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من جهة أخرى. بل هناك ما هو أسوأ من ذلك. فالوضع الحالي للمدرسة في المغرب يمنع أي إمكانية لترقي أبناء الفئات المحرومة. أي أنه يعطل الحراك الاجتماعي الطبيعي. ومن شأن وضع مماثل أن يختزن عوامل الانفجار. وفي هذا الإطار، يتمتع الاسلاميون بفرصة احتلال ساحة المعارضة، وتقديم المشروع الوحيد الواضح بالنسبة لمجتمع محروم من طبقة مثقفين فعالة. هكذا تولى حزب "العدالة والتنمية" قيادة السطة من دون أن يشكل ذلك تهديداً لمصالح المهيمنين المنظمين بشكل متين. ولا يبدو أن السلطة الفعلية، التي لا تزال بين أيدي المَلَكية، تعاني حقاً من الأمر أو تخشاه. فالإسلاميون المعتدلون يمثلون نمطاً في حلّ الصراعات التي ينتجها المجتمع. والاسلاميون المعتدلون هم نوع من متراس، أو مجموعة جديدة من العوازل بالنسبة للسلطة، تؤدي وظيفة امتصاصية لمصلحة الطبقة المهيمنة، في مواجهة الشباب الذين يعسكرون في الشوارع، وفي مواجهة انعدام الرضى المزمن من قبل المواطنين. لكنّ الأمور ليست بهذه البساطة. فالمؤسسة المَلكية قوية، وهي ممثلة مكانياً واجتماعياً بالقصر الملكي وبالبلاط (المسمى هنا "المشوار") (الذي يستضيف الاحتفال السنوي لتجديد البيعة للعائلة الملكية)، وتحديداً للملك محمد السادس. وتنبع مشروعية الملك من جذوره الشريفية حيث يعود بنسبه إلى النبي محمد، وأخيراً من التاريخ والتقاليد التي تجعل من الملَكية العامل الموحِّد للأمة، والمدافع عن تماسكها. وبعدما تزايدت الحملات عليها، وخصوصاً حول شرعيتها الدينية، قامت المؤسسة المَلَكية بتحديث قواعدها بفضل سيطرتها على الحيّز الاقتصادي في البلاد، وبسبب فرض نفسها كقطب لا يمكن الالتفاف عليه في أي مبادرة، تلتقي عندها جميع المفاصل، بغض النظر عن طبيعتها. تبقى السلطة إذاً متمترسة بقوة حول مواقعها حتى إشعار آخر. * مؤرّخ وأستاذ السوسيولوجيا الاقتصاديّة في جامعة محمد الخامس، الرباط