إن أحق ما يجب الوفاء به العقود،والبيعة من حيث هي عقد بين الحاكم والمحكوم تقوم في الفقه السياسي الإسلامي على أسس واضحة لا مجال لتحريفها عن مقصدها الرئيس وهو تثبيت الحكم الرشيد الذي يضمن للناس حقوقهم وكرامتهم،وتتأسس العقود على شروط معلومة تبين حقوق وواجبات كل طرف،والبيعة بعد انعقادها بشروطها الصحيحة لا تحتاج إلى حفل ولاء المحكومين وإنما تحتاج إلى حفل وفاء الحاكمين بالشروط التي بايع الناس على أساسها،وبيان كل هذا يقتضي رسم أمور: 1.في تاريخنا مالت كفة الميزان لصالح تفصيل حقوق الحاكم بشكل مبالغ فيه وعلى نحو أحال الأمة إلى كم مهمل خانع وتابع لما كان أفرادها يُدعون إلى بذل طاعة مطلقة بغض النظر عن سلوكيات الحاكم ومدى وفائه بشروط البيعة مما أسهم في تكريس الاستبداد وانتشار الفساد،ووقع الخلط بين نوعين من البيعة: البيعة الدينية والبيعة السياسية،فالأولى لا تكون إلا لنبي وتكون مُنشِئة للدخول في دين جديد وهي التي يكون عدم الوفاء بها أمرا من أمور الجاهلية،لأن الدين الجديد آنذاك نقل العرب من نظام القبيلة إلى نظام الدولة فكان الارتداد عن الإسلام ارتدادا إلى محاور الولاء القبائلي والعشائري،والثانية تكون لأي حاكم ولا يُعدُّ عدم الوفاء بها أمرا من أمور الجاهلية ما دام الأمر يخضع بشأنها إلى الاختلاف في تقدير المصلحة في الحال والمآل،والدليل هو أن ثمة صحابة ماتوا ولم يبايعوا أبا بكر رضي الله عنه فما سمعنا أحدا قال إنهم ماتوا ميتة جاهلية. 2. دأب مُستغِلو لقب البيعة وما يرتبط به إلى إدخال مسائل الحكم في أبواب العقيدة وهو خطأ فادح وجسيم جر التكفير والتقتيل والحرب الأهلية،والمعروف أن الحكم ومسائله لا يدخلان في مسمى العقيدة بل هما مُفوَّضان إلى نظر الخلق،والقول بدخولهما في مسمى العقيدة يفضي إلى تجريم الاختلاف،وإن وقع فيُحكم على المختلِفين بمقاييس الكفر والإيمان لا بمقاييس الخطأ والصواب ،وهذا الخلط أسهم في تخلف وتأخر عالمنا الإسلامي وفي مصادرة حقوق الشعوب في اختيار حكامها لفترات طويلة من التاريخ إما باسم"الخلافة" السنية بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة لصالح الملك العضوض والجبري اللذين ارتبطا بالتغلب والتوريث والخوض في الأموال بغير حق،وإما باسم الإمامة الشيعية التي توهم الناس أن الله لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليؤسس دولة تحكمها عائلته وسلالته- حاشاه-،فبقيت الحلقة المفقودة هي "إمامة الأمة". 3. كما تم استغلال أحاديث نبوية- لها سياقها الخاص- تطلب إلى الناس تقديم طاعة مطلقة للحاكم،من دون أن يكلف المستغِلون وصنائعهم من "العلماء" أنفسَهم مشقَّة السعي لمعرفة أسباب الورود، والقيام باستقراء كلي لأحاديث السمع والطاعة، فبعضها يَنُص ظاهرها على وجوب بذل طاعة مطلقة للحكام سواء عدلوا أم ظلموا كالحديث المروي عن عبد الله بن مسعود: "إنها ستكون أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسلون الذي لكم"، وفي الحديث الآخر عن عوف الأشجعي: "ألا ومن له وال فيراه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزع يدا من طاعة"، وبعضها الآخر ينص على طاعة مشروطة ومقيدة: فروي ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"، وفي الحديث الآخر عن علي: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف"، وفي الحديث الآخر : "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"، والثابت في قواعد الأصول أن المطلق يُحمل على المُقيَّد،فلا طاعة مطلقة لحاكِم. 4.بحكم انتماء المغرب إلى مجال حضاري إسلامي لا يمكن فهم الدلالات التاريخية والشرعية والفلسفية للبيعة بدون الرجوع إلى الفترة التأسيسية التي مثلتها التجربة الراشدية في الحكم،وهي تجربة اتسمت بتواضع أشكالها وعظمة مضامينها،وامتدت إليها أيدي الغدر في مرحلة مبكرة بالانقلاب والتغلب والتوريث مما حال دون تطور تلك التجربة إلى بناء مؤسساتي،ومن يومها أضيف إلى شروط البيعة شرط دخيل وهو شرط الوفاء ببيعة ابن المبايع له بعد موته،وتمت دسترة هذا الشرط ليتخذ الاستبداد طابعا "حداثيا"،فحينما عزم أول ملك على العهد بالحكم لابنه يزيد ، قال له عبد الرحمان بن أبي بكر:"إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله،وإنا والله لا نفعل،والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين أو لنعيدنها عليك جدعة ثم خرج"1،وبين مراد الانقلابيين فقال:" ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية،كلما مات قيصر قام قيصر"2 ، ونص كثير من فقهاء "الأحكام السلطانية" على التوريث وولاية العهد كشكل من أشكال انتقال السلطة برغم عدم شرعيته لأن المعروف فقها وقضاء أن الحكم ليس مما يرثه الابن عن أبيه،وترسخ ذلك التوريث بأساليب الترغيب والترهيب إلى أن أصبح"دينا" سماه ابن خلدون"دين الانقياد" فقال:" إذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه"3، ولقد اعتبر الكواكبي التوريث المتذرع بالدين من أشد أنواع الاستبداد فقال:"وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ منها الشيطان هي حكومة الفرد المطلق،الوارث للعرش،القائد للجيش،الحائز على سلطة دينية"4 5. عرف تاريخ البيعة عدة تطورات وتقلبات،إما في الاتجاه الإيجابي وذلك بالتركيز على البعد التعاقدي للبيعة،وبناء مؤسسات ديموقراطية حقيقية،وإما في الاتجاه السلبي بالتركيز على الجوانب الشكلية والبرتوكولية وتكلف خطابات التهويل، ويَنظُر إلى الشكل والمضمون حديث رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيه وَسَلمَ : "من بايع إِماما فَأعطَاهُ صفْقة يَده وَثَمَرةَ قَلْبِهِ فَلْيطِعْه ما اسْتَطَاع"،فثمرة القلب هي الرضى الذي ينتقل من مكنونات الضمائر إلى تجسيد واقعي بإقرار بروتوكولات (صفقة اليد) تجمع بين السلاسة والتلقائية وهيبة الدولة والشرف الدولي للإسلام،صفقة اليد لا انحناءة الظهر،وصفقة اليد لا تقبيل اليد. إن البيعة عقد مراضاة واختيار لا عقد إجبار وإكراه،فجل العقود المعروفة في الفقه الإسلامي تنبني على ركن الرضا،وباختلال هذا الركن يتحقق أعظم خوارم الرضا وهو الإكراه،وقد عرفه ابن حزم في "المحلى"بقوله:" "الإكراه كل ما سمي في اللغة إكراها وعرف بالحس انه إكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به والوعيد بالضرب كذلك أو الوعيد بالسجن كذلك أو الوعيد بإفساد المال..."،ثم قال : "الإكراه ينقسم إلى قسمين إكراه على كلام وإكراه على فعل فالإكراه على الكلام لا يجب به شئ وان قاله المكره كالكفر والقذف والإقرار والنكاح والطلاق والبيع والابتياع... فصح إن كل من اكره على قول ولم يتفوه مختاراً له فإنه لا يلزمه"،وغير خاف على أحد أن سبب محنة الإمام مالك رحمه الله هو إفتاؤه بعدم شرعية البيعة المبنية على الإكراه ولو بطرق ملتوية،لأن ملوك بني العباس كان يحلفون الناس بطلاق زوجاتهم إن لم يوفوا بالبيعة،فقال مالك:طلاق المكره لا يجوز. 6.إن الطريقة التي يتم بها أخذ البيعة في المغرب يحول عقد البيعة من عقد مراضاة إلى عقد إذعان بمقتضاه يطلب إلى نخبة المجتمع الالتزام بالطاعة بعد التوقيع بالموافقة على عقد نمطي بدون مناقشة،بينما كان الصواب هو نقل مضامين العقد إلى ساحة النقاش العمومي كالبرنامج الحكومي تماما مادام المبايع له يسود ويحكم،وإذا كانت الشرعية "تنطوي على تبرير السلطة والطاعة فإن رضا المحكومين ضروري لإقامة علاقة قانونية"5 ،ومن الخطأ اعتبار التبلد والسكوت الاضطراري من علامات الرضا،فالاستبداد يخلق حالات من الخوف والتوجس والتردد لا صلة لها بمفهوم الرضا،وحالات من الخنوع والتلذذ بالخضوع يخالها المستبدون نعمة استقرار تستوجب الشكر،وحالات من "الدعم الصاخب" لا تعبر عن الرضا بقدر ما تعبر عن الأنانية6. _______ 1 تاريخ خليفة بن خياط،ص 214 2 أمالي القالي 2/175 3 المقدمة ص 159 4 الكواكبي،طبائع الاستبداد،ص 14 5 د.مارك كواكو،الشرعية السياسية،ص 76 6 نفسه