لم أكن أنوي الرد على عالم تحت الطلب وصاحب فتاوى الجنس مع الأموات، المدعو عبد الباري الزمزمي، لأنه ببساطة لا يستحق الرد وليس خصما في مستوى المناظرة العلمية والسياسية، ولأننا مهمومون بقضايا ومصير وطن ودولة. إن ما أصاب صديقنا وأخانا المناضل الصابر المهندس أحمد بن الصديق من حيف وجور الحاكم، قد أصابنا أيضا بالحزن والألم ويستلزم اتحاذ موقف، لأن الموضوع ليس شخصيا كما تعمد عالم السلطة أن يطرحه ليوهم الرأي العام الوطني بأن السيد بن الصديق خلط بين الخاص والعام، وبأن المسألة لا تعدو أن تكون رغبة في الانتقام، وبالتالي فهي "أمر من أمور الجاهلية". لقد كان الزمزمي قاب قوسين أو أدنى من إخراج السيد بن الصديق من الإسلام وإعلان ردته، ومن تم الدعوة إلى إقامة الحد الشرعي عليه. نسائل هذا العالم المزعوم، هل كان تأخر الإمام علي رضي الله عنه في مبايعة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بستة أشهر أمرا من أمور الجاهلية؟ بل نحيله إلى قول الصحابي الجليل الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشأن طريقة مبايعة أبي بكر الصديق خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين وابن أبي شيبة في المصنف، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل أسموه بحديث السقيفة ، قال فيه عمر: "إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة (أي فجأة ولم تكن عن تدبر وترو) وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها. من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا". وفي رواية أخرى: "ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله المؤمنين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، ذكر هذا الحديث من علماء أهل السنة: السيوطي في تاريخ الخلفاء، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن الأثير في الكامل، والطبري في الرياض النضرة. إن مسألة البيعة، في السياسة الشرعية والتجربة النبوية والخلافة الراشدة، وكما تناولتها رسالة السيد بن الصديق، هي تعاقد سياسي واختيار شخصي وليست من مسائل العقيدة. وقد عُقدت للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم برضا الأمة وقبولها بصفتهم خلفاء ونواب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخذ البيعة من المسلمين نيابة عن الله سبحانه، مصداقا لقول تعالى في سورة الأحزاب: "إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم". أما في النظام القائم على توريث الحكم بين أفراد الأسرة الواحدة، فلا يمكن الحديث عن البيعة بمفهوم التعاقد الاختياري والرضواني المبرم بين طرفي البيعة، وهما الشعب والمَلك، وبالشروط الشرعية التي سيأتي ذكرها، وإنما هي عقد ولاء من طرف نواب الشعب وممثلي السلطة تجاه المَلك بطقوس مخزنية مذلة ومهينة لكرامة الإنسان ومواطنته، دون تكليف واضح أو تفويض مكتوب من الشعب. قال القرطبي في تفسيره "إن هذه المبايعة هي بيعة الرضوان بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أي قائمة على الرضا المتبادل، يد الله فوق أيديهم قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة .ويؤكد ذلك سبحانه في سورة التوبة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم". إنها أدلة تؤكد قطعا بأن بيعة المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم، وبيعة عامة المسلمين لأولي الأمر من بعده، إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى: "من يطع الرسول فقد أطاع الله". لقد تناولت رسالة السيد بن الصديق مسألة البيعة في بعدها السياسي، أما عالم السلطة الزمزمي فقد خلط بين البيعة والبيع ورأى أن تضامنه مع السيد بن الصديق، بما أوجبه الله ورسوله عليه كعالم، إذا كان كذلك، سيكون تجارة خاسرة وسيجلب عليه غضب السلطان وحرمانه من الهبة والعطايا، ففضل أن يبيع آخرته بدنيا السلطان، كما قال التابعي الجليل بشر الحافي رحمه الله في جوابه عن أكثر الناس شقاء يوم القيامة. إن هدف المدعو الزمزمي من إقحام مسألة البيعة تعسفا في مسائل العقيدة هو محاولة لتكفير من خلعها وإخراجه من جماعة المسلمين أو أهل السنة والجماعة، وإغلاق باب الاعتراض على الحاكم أو الخروج عليه إذا عطل أحكام الشريعة وأفسد العبادات واستباح أو سمح باستباحة أموال الناس وأعراضهم وأرواحهم وبلادهم، وهذا ما دأب عليه علماء السلطة منذ معاوية بن أبي سفيان، أول مَلك عاض، الذي أخذ البيعة لولي عهده الطاغية يزيد بحد السيف. ثم هناك تلفيق متعمد استعمله الزمزمي عنوة وبغير توفيق، هو جعل ولي الأمر فوق مرتبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. كيف يعاتب الله سبحانه نبيه وينبهه ويأمره بالاستقامة، وهو المعصوم عن الخطأ في تبليغ الرسالة، ويخبرنا في كتابه الكريم بأن أمر المسلمين "شورى بينهم" ويخير الإنسان بشأن مسألة الإيمان أو الكفر به سبحانه، ثم يقول الزمزمي بأن "بيعة الإمام تكليف شرعي لا مجال فيه لإرادة الإنسان المسلم واختياره، لأن طاعة الإمام من طاعة النبي ومعصيته من معصية النبي، مصداقاً لقول صلى الله عليم وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني، ولا يشترط في هذه الطاعة أن يكون الإمام عادلا أو صالحاً أو فاضلا". إن طالبا في سنة أولى دراسات إسلامية يعلم بأن ما قاله عالم السلطة المدعو الزمزمي مخالف لمنهج النبوة ومقاصد الشريعة وضوابط العقيدة والسيرة النبوية الشريفة، ولَي لكلام الله وافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم بتوظيف أحاديثه الشريفة في غير معناها ومقاصدها. أما استدلاله بجزء من آية الأمراء، كما سماها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، في قوله تعالى في سورة النساء: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، فهو استدلال من يقول "ويل للمصلين"، وكان على الزمزمي أن يستهل الآية من بدايتها ويكملها وألا يجزئها لتناسب هواه وتحقق مبتغاه، حيث يقول الحق سبحانه: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا". بداية، وهذا أمر يُفترض في عالم ألا يجهله، تنص الآية الكريمة على أن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقة وحجر الزاوية في مسألة العقيدة والإيمان، لأن الله سبحانه هو صاحب الحاكمية والألوهية والربوبية وصاحب الشريعة والعقيدة التي ارتضاها لعباده، وكلف رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغها وإقامتها في حياة الناس مجتمعا ودولة، كما أن الله أمر المسلمين برد أي نزاع بينهم وبين ولي أمرهم إليه وإلى رسوله الكريم، ولم يقل إلى أولي الأمر، وربط بين طاعته وطاعة رسوله بالإيمان باليوم الآخر، أما "طاعة ولي الأمر" فهي تعاقدية ومشروطة باتباع الله والرسول الكريم وتطبيق أحكام الله وشريعته والاهتداء بهدي نبيه وسنته. لقد جعل الله سبحانه طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عنه أصل في العقيدة ولم يذكرها عند أولي الأمر لأن طاعتهم مستمدة من صاحب الطاعة والبيعة الأصلي وهو الله سبحانه ثم رسوله الأكرم، وهو المبلغ عنه، ثم قيدها بشرط الإيمان و"منكم" عند أولي الأمر، فكيف يكون ولي الأمر منا؟ يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسيره، "في ظلال القرآن" المجلد الثاني الصفحة 690، بشأن "وأولي الأمر منكم "، أي من المؤمنين الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية من طاعة الله وطاعة الرسول، وإفراد الله سبحانه بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء والتلقي منه وحده، فيما نص عليه، والرجوع إليه أيضا فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء، مما لم يرد فيه نص، لتطبيق المبادى ء العامة في النصوص عليه". وطاعة" أولي الأمر منكم" تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يكرر لفظ الطاعة عند ذكر أولي الأمر, كما كررها عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله، بعد أن قرر أنهم (منكم) بقيد الإيمان وشرطه. وتقرر السنة حدود هذه الطاعة, يضيف سيد قطب، على وجه الجزم واليقين في الصحيحين من حديث الأعمش : " إنما الطاعة في المعروف "وفيهما من حديث يحيى القطان: " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، وأخرج مسلم من حديث أم الحصين: "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا". بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينا على شريعة الله وسنة رسوله ،أمينا على إيمانه ودينه، أمينا على نفسه وعقله، أمينا على مصيره في الدنيا والآخرة، ولا يجعله بهيمة في القطيع، تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع. فالمنهج واضح وحدود الطاعة واضحة والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد ولا تتفرق ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون"، انتهى كلام سيد قطب رحمه الله. بالله عليك يا زمزمي، قس الحالة المغربية على ما سبق ذكره وأفتنا إن البقر تشابه علينا، هل لازلت تقول بأن "خلع البيعة أمر من أمور الجاهلية"، وبأنه علينا معشر المسلمين ألا نسائل "إمامنا" وولي أمرنا في أمور السياسة والحكم والمال والأعراض والسيادة والفساد والرذيلة، وألا نحاسبه حتى ولو لم يكن عادلا وفاضلا؟ أي دين يحث على هذا؟ وأي رسول يجيز هذا؟ وأي إله يقبل بهذا؟ لا أجد ما أتوعدك به إلا قول العالم الجليل القاضي الفضيل بن عياض رحمه الله: "في جهنم أرحية تطحن العلماء طحنا، فقيل له من هؤلاء؟ قال: قوم علموا فلم يعملوا"، فانظر إلى موقعك الآن قبل فوات الأوان وإلى أين ستصير يوم القيامة، لا برلمان ولا حزب ولا سلطان، لن تجد إلا قول الله تعالى: "ونرثه ما يقول ويأتينا فردا". لم يستهدف هجوم الزمزمي المأجور المناضل الوطني المهندس أحمد بن الصديق كشخص، وإنما أراد بهذا الإخراج المكشوف، "خلع البيعة..والجاهلية"، أن يقطع الطريق على كل من فكر في أن يسلك نفس السبيل، في لحظة تاريخية مفصلية سقطت فيها كل الطابوهات والهواجس لدى الشعب المغربي، وعلى رأسه تاج فخره حركة شباب 20 فبراير، كما يندرج هذا التطاول على دين الله وسنة رسوله وحرمات المواطنين وحقهم في التغيير والعدل، في إطار هجمات وتطاول على الإسلام وقع في بحر الأسبوع المنصرم وستتسع رقعته، كان أولها محمد سعيد رمضان البوطي، عالم النظام البعثي الطائفي العُلوي في سورية المجاهدة، الذي أفتى بجواز السجود على صورة الطاغوت بشار الأسد، جراح عيون الشعب السوري الأبي وباع نفسه ودينه بحطام الدنيا والاستبداد، كما رفض "الداعية المصري الشيخ" محمود عامر محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك، معتبراً المحاكمة إهانة للشعب المصري والرئيس السابق، وأفتى بعدم جواز محاكمة طاغوت مصر، لأنه، حسب زعمه، "أحد أبطال حرب أكتوبر التي أعادت "الكرامة" لمصر، وأنه كان "سلطان" مصر، ولا يجوز أن يُهان أو يحاكمه أحد". لقد ظننا أن علماء السوء سيذهبون مع ذهاب سلاطينهم وكبرائهم المستبدين، ولكن نلاحظ أنهم باعوا أنفسهم بأقل من ثمن التراب ونصبوا أنفسهم مدافعين عن الطواغيت، حتى بعد سقوطهم وخلعهم، وراحوا، بدون استحياء، يبحثون في بطون كتب الأحكام السلطانية، بتعبير الماوردي، لإقناعنا بأن هذه الثورات وهذه الحركات التغييرية في الوطن العربي، على حد قول مفتي الجنس مع الأموات، مجرد "فتن وفوضى وغوغائية همجية". نسوق لك يا زمزمي بعض أحاديث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام عن تزلف العالم للسلطان والدخول عليه، لعلك تذكر أو تخشى. أخرج الشيرازي في "الألقاب" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون أمراء، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، وغشي أبوابهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يغش أبوابهم، فهو مني وسيرد علي الحوض" .وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والحاكم في تاريخه، وأبو نعيم، والعقيلي، والديلمي، والرافعي في تاريخه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا خالطوا السلطان، فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم". لقد دفع تحالف رجال الكنيسة وتواطؤهم مع الملوك في فرنسا وإضفاء الشرعية على سياساتهم وجرائمهم وجشعهم ونهبهم لثروات الشعب الفرنسي وتفقيره وظلمهم له وقهرهم للعلماء واحتقارهم للمرأة، دفع قادة الثورة عام 1789 ومفكريها ومنظريها إلى الكفر بالمسيحية وإعلام ورفع شعار أنهى هذا التحالف إلى الأبد: "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس". إننا ندعو العلماء الصالحين الصادقين، ورثة الأنبياء وملح البلد، أن يخرجوا عن صمتهم، كما فعل اليوم العديد من المناضلين الوطنيين من مشارب فكرية وسياسية متعددة، ويؤدوا أمانة العلم وبيان الحق الذي كلفهم الله به، ويرفعوا صوتهم عاليا حتى يميز الخبيث من الطيب، وأن يسيروا على درب سلفهم في محنتهم مع الحكام الطواغيت، ليعلم الشعب المغربي أنه حاشا لله أن يرضى العلماء الشرفاء بأن يكونوا شركاء مع علماء السلطة والحاكم المستبد في الصمت والجور. [email protected]