غايتنا من إنشاء هذا الكلام أمران: الأول استئناف نقدنا لتقديس الحاكم فيما نراه وجها من أوجه إفساد حياة الناس الروحية والأخلاقية بعد أن تفسد حياتهم السياسية، والثاني وهو أمر متفرع عن الأول في مقام الاستدلال على صحته بأن نبين الفرق بين ضربين من العقد الاجتماعي والسياسي الذي عرف عندنا تاريخيا بالبيعة، وهي ضربان بينهما ما بين روح الإسلام وروح الجاهلية من مسافة، أما الضرب الأول فالبيعة الشرعية؛ والتي تستمد منطقها من الشرع بما هو عدل ومساواة واستحقاق تصنعه الجماعة وقيمها الوجودية والأخلاقية أو ما نسميه قوة الحق وواجب الحرية وليس الحق في الحرية كما يعبر فيسلوف اللغة المعاصر نيقولا برديائف، وأما الضرب الثاني فالبيعة الكسروية؛ وتستمد منطقها من نقيض الأولى أي حق القوة ومنطق الغاب والتغلب الذي أصبح قاعدة تحليلية للسلوك الاجتماعي والسياسي للإنسان والسلطة والمجتمعات بعدما بات النظر إلى الإنسان باعتباره حيوانا سياسيا. إنهما صورتان متضادتان في الشكل والمضمون ، بيد أن فقهاء السلطان وأشباه المثقفين عبر التاريخ كانوا على الدوام يتعمدون الخلط بينهما رغبا في التقرب لأصحاب الصولة أو رهبا من سطوة صاحب الدولة، وقد تغافلوا عن واجب البيان للناس وعن ميثاقية العلم المنافية لموقف الصمت والكتمان بمقتضى قوله تعالى:" وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ". والواقع أننا إذا تأملنا وجدنا أن البيعة الشرعية في الأصل أي في الصدر الأول كانت تعني الاختيار الطوعي للحاكم الذي يقوم على الرأي الحر من طريق بناء القناعة لا من طريق الإكراه، من طريق الشورى لا من طريق التغلب وولاية العهد، ثم جاء على الناس زمان كان مطلعه مع بني أمية أو ما يسمى في فكر المنهاج بالانكسار التاريخي استحالت فيه البيعة إلى وسيلة لفرض الحكم والإجبار على الطاعة، فتحولت البيعة من عقد مبايعة (مفاعلة) أي مشاركة، و عقد متفق عليه بين الحاكم والمحكوم إلى وثيقة إلزام للشريك الذي انتزعت حقوقه،أي الأمة. ولعلنا إذا استصحبنا ابن خلدون في مقدمته نجده يؤكد على ملاحظتين منهاجيتين في عرضه ونقده لمفهوم البيعة وما عرض لها من تحول وانزلاق من وضعها الشرعي إلى وضعها غير الشرعي أو الكسروي الذي جاء الإسلام أصلا لشن الحرب عليه وعلى قيمه المادية والرمزية لما تشكله من خطر على عقائد الناس وسلوكهم السياسي والاجتماعي: الملاحظة الأولى في شكل البيعة: ومقتضاها ما رافق انحراف "البيعة" عن أصلها من أخلاق الكبر والترفع الملكية التي اقتضت مع الوقت الانتقال من الشكل الأصيل في عقد البيعة باعتبارها أشبه ما تكون بصفقة تتم عبر المصافحة بين المبايِع والمبايَع، تُحفظ فيها كرامة الناس وإنسانيتهم إلى أشكال "كسروية" يتحول فيها الحاكم إلى "الإله المعبود" و"كسرى" الذي يركع له الناس ويسجدون.يقول ابن خلدون:"وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل؛ أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازا لما كان هذا الخضوع في التحية والتزام الأدب من لوازم الطاعة وتوابعها، وغلب فيه حتى صارت عرفية، واستغنى بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافيين للرئاسة وصون المنصب الملوكي". وحديث ابن خلدون عن"التنزل" و"ّالابتذال" الذي رافق التحول من"الشرعي" إلى "العرفي" غير الشرعي مشير إلى المسافة النفسية التي بدأت تتسع بين الناس و"حاكمهم"، والانتقال من العلاقة الأفقية إلى علاقة عمودية حادة، حتى صار من غير اللائق بحسب المراسيم السلطانية قبول مخالطته لهم أو اقترابه منهم أو أخذه البيعة بالمصافحة بدل طقوس الركوع لما تلحقه المصافحة في "الفقه السلطاني" و"الأدبيات البروتوكولية" من تقليل من قدره، ولما ترسخه الصلوات لشخص الحاكم في المقابل من تعميق لقداسته وطهرانيته ونقائه وبقائه. الملاحظة الثانية وتخص مضمون البيعة: ومقتضاها انتهاء البيعة بما هي التزام طوعي ومشترك إلى نوع من الإلزام والإكراه الذي اقتضاه الانتقال من النظام الشوري الديمقراطي الحر إلى نظام ولاية العهد الفردي على عقيدة الجبر حين تحولت مسألة الإمامة إلى مسألة عقدية وليست مصلحية اجتهادية، يقول ابن خلدون:"وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب، ولهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه وأنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه". والإشارة إلى قضية الإكراه ترجع بنا إلى ما استحدثه الحجاج وأشباهه من الطغاة من صيغ الإكراه، إذ كانوا يحملون الناس على أن يقولوا في بيعتهم بالقوة على سبيل المثال: عبيدي أحرار ونسائي طوالق إن خرجت من طاعة الإمام، وكان ذلك من شأنه أن يحمل الناس على الطاعة المطلقة، ولا يترك لهم خيارا في الاعتراض أو المخالفة، ومعروف أن فقه الإمام مالك الحقيقي هو ما جسده موقفه هذا المعارض لا ما يروى عنه من الاستكانة لأهل الشوكة والاستبداد، فقد كان يفتي للناس بأنه ليس على مستكره يمين، ولا طلاق لمكره، وهو موقف سياسي صريح في معارضة إكراه الناس على الدخول في البيعة، فالدخول في بيعة أي كان لا يكون بالقوة والقهر سواء المادي أو الرمزي، لأن البيعة ميثاق ومعاهدة، والمعاهدات والاتفاقيات كلها تقوم على التراضي وتبادل المنافع المتعادلة بين الطرفين كما تقضي فلسفة التعاقد، فإذا كان ثمت إجحاف بواحد من الطرفين، أو كان هناك إلزام لطرف واحد، بما يعني أنه لم يكن التزاما مشتركا، فالعقد باطل ولا أساس له نظريا وعمليا وأخلاقيا. ولقد كانت البيعة الشرعية عقدا حقيقيا مبنيا على الرضا والتراضي، ومنه يستمد الحاكم سلطته لأنه تعاقد بين الحاكم والأمة، ثم جاءت ولاية العهد فكانت الإعلان الرسمي أو الإنهاء الرسمي على الأصح لشروط البيعة التي تؤكد مرة ثانية على أن الحكم لم يعد عقدا توافقيا بين الحاكم والمحكوم، لأن الأمة تحولت إلى "إرث" منقول، وهكذا صار الأمر كما يقول ابن خلدون" مُلكا بحتا وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ".. ومع ولاية العهد والبيعة الكسروية تماهى الحاكم تاريخيا مع الدولة فصار هو الدولة وصارت الدولة هي الحاكم، وأضفيت القداسة على الحاكم باعتباره ظلا لله في الأرض، فتقدست الدولة معه باعتبارها التجسيد الأعلى للوجود المقدس المتعدي من الحاكم لإطار حكمه، وتحول مال الأمة إلى مال الحاكم الذي يشتري به الضمائر الميتة ويحمي به أركان عرشه بالرشى يوزعها ذات اليمين وذات الشمال إلى الحد الذي بلغ ببعض الحكام في تاريخنا أن منعوا كل المنافع حتى الطبيعية منها عن كل معارض لحكمهم على قاعدة ليون تروتسكي الذي قال مرة:"إن المبدأ القديم من لا يعمل لن يأكل قد حل محله مبدأ جديد هو من لا يطيع لن يأكل". إن الفرق بين البيعة الشرعية والبيعة الكسروية كما هو فرق في القيم البانية هو أيضا فرق في المآلات أو القيم الناتجة، إذ الأولى تقتضي منطق الشورى أو أسلوب الديمقراطية وكلمة الأمة والمسؤولية وينتج عنها "إنسان كامل الحقوق والكرامة" في حين تقتضي الثانية أي البيعة الكسروية قيم الملك وحكم الفرد وغياب المحاسبة والمسؤولية وينتج عنها بالاستتباع "إنسان مغتصب الحقوق منعدم الكرامة" . ولا شك أنه حين تغيب المحاسبة يصبح الناس سجناء للعابثين المتألهين. *أكاديمي مغربي