"أيام الرباط الأولى" هو كتاب نادر لصاحبه الكاتب الصحفي الأستاذ طلحة جبريل. كان مؤلفه عازما على طبعه للمرة الثانية قبل أن يأتيه الطلب من "هسبريس" لتعيد نشره كرة أخرى منجما خلال شهر رمضان الأبرك، فلم يمانع الأستاذ طلحة، بل طالب من المعلقين أن يكتبوا بأسمائهم الحقيقية كي يستفيد من تعليقاتهم في تشذيب الكتاب أو إضافة ملحق للكتاب إذا ما تطلب الأمر ذلك. كتاب "أيام الرباط الأولى" وبالرغم من أنه سجل لذكريات قديمة فإنه استعارة لفضاء 1996، حينما كان طلحة يشعر بالغربة والعزلة بعد فصله من صحيفة "الشرق الأوسط"، شعر وكأنه لأول مرة يحل بالمغرب طالبا في شعبة الفلسفة بالرباط... لنتابع تقديم الكتاب مع مؤلفه الأستاذ طلحة جبريل بالصوت والصورة.. وقراءة ممتعة لباقي فصول الكتاب نتمناها لكم .... هنيئا مريئا .. الفصل 1: من الخرطوم إلى الرباط التحقت بقسم النجارين في هيأة النقل النهري في مدينة الخرطوم بحري، وأنا مازلت صبيا يافعا، كان ذلك في صيف عام 1969. كنت قد أكملت الدراسة في مدرسة كوستي الثانوية المهنية وتوقفت عند ذلك الحد. كانت هيأة النقل النهري التي تتولى صيانة البواخر النهرية التي تربط شمال السودان بجنوبه، وتتبع في إدراتها لهيأة السكك الحديدية، أفضل و أكبر مرفق خدماتي تركه الإنجليز خلفهم في السودان وبعد رحيلهم. في البداية كنت سعيدا بعملي، وأكثر سعادة لمساعدة والدي الذي كان يعيل أسرة كبيرة تتكون من 18 فردا عاشوا في وئام وانسجام رغم محدودية فدخل الوالد. كنت أعي آنذاك الدور الذي رسمته في ذهني لواجباتي تجاه أسرتي، وكان ذلك الهدف يتجسد أساسا في أن يواصل جميع إخوتي وأخواتي تعليمهم، إذا كان التعليم هو الحل للآسر الفقيرة في السودان لتحسين أوضاعها المعيشية. التحق أخواي إبراهيم وخضر، اللذان يكبراني، بجامعة الخرطوم لدراسة الهندسة والزراعة على التوالي، في حين كان بقية إخوتي وأخواتي في مراحل التعليم المختلفة. لم أحس بأي غبن لأني اضطررت للعمل لمساعدة والدي رغم أنني لم اكن الأكبر سنا. كنت عكس ذلك أحس بسعادة كبيرة و أنا أقوم بدور بدا لي نبيلا. مرت سنتي الاولى في العمل عادية، اكتسبت فيها خبرات و معارف. بعد احساس البداية الذي سيلازم الصبي اليافع عند دخوله عالم الكبار لأنه يعمل ويصرف على نفسه، في حين ما زال أقرانه يعتمدون على ذويهم، بدات تتكشف أمور أخرى. كان أقرانه يتحدثون عن مستقبل آخر بعد إكمال المرحلة الثانوية، فإما الجامعة أو دخول إحدى الجامعات المتخصصة، أو امتهان مهنة تليق بمن يحمل شهادة الثانوي في ذلك الزمان و كانت شهادة تفتح أبواب العمل على مصارعها . ثم بدأ الصبي يشعر أن "مركزه الاجتماعي" سيتحرك ببطء إذا إكتفى بمهنته المتواضعة في قسم النجارين، و أن أقرانه سينظرون إليه كأحد أولئك الذين تحرك قطار التعليم وتركهم في محطات مقفرة . ◙ ◙ ◙ قررت أن أفضل وسيلة لإدراك ما فات أو سيفوت هو مواصلة الدراسة في المساء و العمل في النهار . كان نظام العمل في السودان أيامئذ يتيح ذلك، إذ أن العمل يبدأ في الساعة السادسة صباحا و يتواصل حتى الساعة التاسعة و يتوقف لمدة ساعة لتناول وجبة الفطور ثم يستأنف في العاشرة ويتواصل حتى الساعة الثانية بعد الظهر. كان هناك نوعان من المدارس المسائية : مدارس يطلق عليها مدارس "إتحاد المعلمين" و هو اتحاد كان يضم المدرسين في جميع مراحل التعليم الابتدائي و الثانوي، و مدارس أخرى مسائية كذلك تتبع البعثة التعليمية المصرية التي كانت تدير عددا كبيرا من المدارس الاعدادية و الثانوية في بعض المدن السودانية . كانت الدراسة في كلا النوعين تبدا في الساعة الرابعة و تستمر حتى الثامنة ليلا، ويرتاد هذه المدارس عادة الذين توقفوا عن الدراسة في المدارس النظامية. في البداية حاولت الالتحاق بمدارس اتحاد المعلمين لتحضير الشهادة الثانوية (الثانوية العامة كما تعرف في مصر) يتطلب بدوره أن تكون قد تابعت تعليمك في مدرسة ثانوية، لكن وجدت أن البعثة المصرية تتيح إمكانية أخرى تتمثل في الحصول على شهادة المرحلة الإعدادية في نظام يطلق عليه (نظام الثلاث سنوات) أي الامتحان في مقررات السنة الأولى والثانية والثالثة إعدادي دفعة واحدة. هذا النظام كان يتطلب جهدا مضاعفا، لأن على الطالب استيعاب دروس مرحلة كاملة في سنة واحدة، ثم يمتحن مع الطلاب النظاميين للحصول على الشهادة الإعدادية، لكنه قبل ذلك لابد أن يجلس للامتحان في مواد السنتين الأولى والثانية وحتى لو نجح في امتحان الإعدادية ولم ينجح في امتحان السنتين الأولى والثانية فإنه يعتبر راسبا. إزاء ذلك كان لابد مما ليس منه بد، فبدأت الدراسة للحصول على الشهادة الإعدادية. ◙ ◙ ◙ كانت أياما صعبة. أستيقظ في الخامسة صباحا لأذهب إلى العمل من منزلنا في امتداد الدرجة الثالثة ممتطيا دراجة هوائية إلى الخرطوم بحري، لأكون في موعد العمل في الساعة السادسة صباحا وأعود إلى المنزل في حدود الساعة الثالثة، فوجبة غذاء سريعة ثم إلى المدرسة في الساعة الرابعة والعودة في حدود التاسعة ليلا. وحتى بعد العودة ليلا كنت أعمل في المنزل في تصنيع بعض الأثاث المنزلي وبيعه لأهل الحي. وبعد مجهود مضن في تلك السنة حصلت على شهادة الإعدادية بتفوق كبير، وجاء ترتيبي الأول على طلاب المدارس النظامية وغير النظامية في منطقة الخرطوم (1). انتقلت بعد ذلك لدراسة المرحلة الثانوية، بنفس الكيفية، أي العمل في هيأة النقل النهري في النهار ومتابعة الدراسة في المساء. ورغم المجهود الكبير الذي تتطلبه حياة بهذا الإيقاع المرهق فقد كنت متحمسا، خصوصا وأن تفوقي في المرحلة الإعدادية شكل لي حافزا كبيرا، إذ كانت تعد شهادة "معتبرة" في ذلك الزمن. ومما زاد شغفي بالعلم والتعليم أنني وبعد الحصول على تلك الشهادة تعاقدت مع مدرسة خاصة في حي الامتداد لتدريس تلاميذ المرحلة الابتدائية خلال فترة الصيف، وذلك من أجل الحصول على مدخول إضافي. واستهواني كثيرا أن يمنحني أولئك التلاميذ لقب (أستاذ) الذي كان يلقب به كل من يعمل في مجال التدريس في مختلف مراحله. هكذا ستسير الأمور إلى أن تقدمت لامتحان الحصول على الشهادة الثانوية (البكالوريا) فحصلت على نقاط ممتازة وهكذا أصبحت أتوفر على شهادة ثانوية في الشعبة الأدبية. كانت هذه الشهادة تفتح آنذاك أبوابا بلا حصر، ومن ذلك الحصول على وظيفة محترمة، أو متابعة الدراسة الجامعية. كان هدفي هو الجامعة. وبما أنني حصلت على شهادة جيدة في معدلها العام، فقد كان ذلك كافيا لدخول جامعة الخرطوم، أعرق جامعات السودان والتي كانت تعمل وفق منهج جامعة كيمبردج البريطانية المرموقة. بيد انني كنت قد قررت مغادرة السودان والدراسة في الخارج سأقول لكم، وفي عجالة، لماذا الدراسة في الخارج؟ بما أنني كنت أعمل وأدرس، فقد كنت مضطرا لترك العمل والدراسة في جامعة الخرطوم،إذ لم يكن متاحا الدراسة بالانتساب، وهو ما يعني عمليا أن أصبح طالبا يعتمد على غيره في الحصول على مصروفه. ثم إن أخوي اللذين يكبراني سنا كانا قد تخرجا في جامعة الخرطوم، وهكذا أضحى بإمكانهما تحمل جزء من نفقات الأسرة، وحزمت أمري على السفر إلى الخارج رغم معارضة الأهل والأقارب. كانت وزارة التعليم العالي في السودان هي التي تنظم إيفاد الطلاب للدراسة في الخارج، وبما أن فرص الدراسة للذين يتوفرون على شهادة أدبية محدودة، فقد كان التنافس شديدا للظفر بمنحة في الخارج. في تلك السنة ستعلن الوزارة عن مقاعد محدودة للدراسة خاصة بطلاب الشعبة الأدبية، في كل من مصر والعراق وتركيا ونيجريا والمغرب. تقدمت بالوثائق المطلوبة إسوة بمئات آخرين كانوا يتطلعون للدراسة في الخارج. كنت متيقنا أن حظوظي كبيرة نظرا للمعدل العام للشهادة التي حصلت عليها. وبعد فترة انتظار استمرت أسابيع، بدت لي آنذاك وكأنها سنوات، أعلنت الوزارة عن طريق الإذاعة أسماء الطلاب الذين تم قبولهم في الجامعة المغربية. كانوا عشرين طالبا فقط. لم أكن قد سمعت ذلك الإعلان، وأتذكر أنني ذهبت إلى الوزارة لسحب أوراقي بعد أن أعياني الانتظار، وفوجئت بالموظف المختص يبلغني بقبولي في الجامعة المغربية، وطلب مني الاستعداد للسفر.وهكذا شرعت في إنجاز الإجراءات: جواز السفر، تأشيرة الدخول،من السفارة المغربية، في الخرطوم، تأشيرة الخروج من السودان، شهادة التطعيم الدولية ضد الكوليرا والحمى الصفراء، تحويل مبلغ مالي متواضع إلى عملة صعبة، ثم بطاقة السفر بالطائرة. خلال هذه الفترة سأتعرف على بعض زملائي الذين حالفهم الحظ مثلي. كان الخط الوحيد الذي يربط الخرطومبالدارالبيضاء يتم عبر روما، على الخطوط السودانية او الإيطالية. وبعد مراجعة الخطوط السودانية اتضح لنا –وكنا سبعة - أننا سنكون على لائحة الانتظار من روما إلى الدارالبيضاء، وبما أن الإجراءات كانت قد استغرقت فترة زمنية، خصوصا وأننا جميعا لم نكن على دراية بالسفر إلى الخارج فما بالك إذا كان هذا السفر سيتم عن طريق عاصمة أوربية.ثم إن السفارة المغربية أبلغتنا أن الدراسة بدأت وأن علينا استعجال السفر. لم يكن هناك مجال للانتظار لتأكيد الحجز، لذلك قررنا السفر على أمل الحصول على حجز في مطار روما. وفي 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975 غادرت الخرطوم بالطائرة رفقة زملائي السبعة إلى روما. كانت تلك المرة الأولى التي أمتطي فيها طائرة. ولكم أن تتخيلوا كيف ستمر الرحلة من الخرطوم إلى عاصمة الطليان، بعد توقف قصير في القاهرة. عند وصولنا إلى روما وبعد حالة تيهان في المطار استغرقت ساعات، راجعنا مكتب الحجز فقيل لنا بعدم وجود إمكانية لمواصلة السفر، إذ علينا البقاء في روما ثلاث ليال حتى موعد الرحلة المقبلة إلى الدارالبيضاء. وبعد مراجعة مكتب الخطوط السودانية أبلغنا الموظف المختص أن الشركة ستستضيفنا ليلة واحدة بعدها علينا أن نتدبر أمرنا. نقلتنا حافلة صغيرة تابعة للشركة إلى فندق بدا لنا من عجائب الدنيا، أمضينا فيه ليلة بيضاء، فقد كنا نتجول جماعة في مرافقه، كما تجولنا في المنطقة المجاورة له، أما روما فقد خلناها جنة الله على الأرض. وأتذكر أن من بين الأشياء التي أثارت استغرابنا، الدخان الذي كان يخرج من أفواهنا وأنوفنا نتيجة البرد. كان بعضنا يدخن فاعتقدنا في البداية أن سجائر الإيطاليين تظل مشتعلة لفترة قياسية! ومن أكثر الأشياء التي بددنا فيها الوقت مصعد الفندق فقد وجدنا متعة كبيرة في الصعود والهبوط، خصوصا أننا جميعا كنا نستعمل المصعد للمرة الأولى في حياتنا. بعد الليلة الباذخة في ذلك الفندق خرجنا في اليوم التالي نبحث عن فندق آخر. كنا قد استبدلنا الدولارات بالليرة الإيطالية وبما أن الليرة تحسب بالآلاف، فقد اعتقدنا أن دولاراتنا القليلة تحولت إلى ثروة طائلة، حتى أدركنا الحقيقة لاحقا، ووجدنا أن النقود التي كانت معنا تكفي فقط لمرقد عنزة. تلقفنا إيطالي من أولئك الذين يصطادون الغرباء أمثالنا وأقنعنا بمرافقته إلى فندق صغير يقع وسط روما، ودفعنا في الليلتين نصف الثروة الطائلة التي حصلنا عليها من استبدال الدولار بالليرة. كنا نتجول جماعة في روما فنثير اهتمام المارة ونحن نرتدي الجلابيب ونضع فوق رؤوسنا العمائم البيضاء. ◙ ◙ ◙ وصلنا إلى مطار النواصر ولم نكن نعرف من العامية المغربية شيئا، فصرنا مع القوم أحير من ضب. ركبنا سيارة أجرة وقلنا لسائقها إن غايتنا هي الرباط، فقد أبلغنا ونحن في الخرطوم أننا سندرس في جامعة محمد الخامس، وأن على كل واحد منا اختيار الكلية التي يرغب فيها عند وصولنا الرباط. لم يعرف سائق سيارة الأجرة الكبيرة أين توجد هذه الجامعة وظن أن الأمر قد اختلط على هؤلاء الفتية، فقرر أن يحملنا إلى شارع محمد الخامس. كان الوقت ليلا، تشاورنا في الأمر وقررنا البحث عن فندق على أن نبحث في الصباح عن الجامعة. وكما في روما تكرر المشهد في الرباط، ثلة من الطلاب يرتدون زيا أبيض والعمائم فوق الرؤوس يحملون هذه المرة حقائبهم يجوبون شارع محمد الخامس يبحثن عن مكان يتناولون فيه فطورهم. لاحظنا أن المقاهي في الشارع بلا حصر، دلفنا إلى إحداها وطلبنا. كما اعتدنا في السودان. كأسا من الشاي ممزوجا بالحليب، ظن النادل أننا نرغب في كأس أتاي. رحنا نتحدث بعاميتنا التي بدت للنادل كرطانة، وتعجبنا كيف أن شاي الرباط أخضر والشاي الذي تعودنا عليه منذ الصغر أحمر اللون. أصيب الناد بالذهول وهو يرانا نخلط الحليب بالأتاي شرحنا له وشرح لنا ولم يفهم أحد شيئا! ورحنا نتجول في شارع محمد الخامس ونسأل الناس:أيها الإخوة أين توجد جامعة محمد الخامس. فلا نجد جوابا!! قلنا:يا ترى هل أرسلتنا وزارة التعليم العالي السودانية إلى جامعة سرية؟ إذ كيف يعقل أن لا يعرف الناس في العاصمة أين توجد مباني جامعة محمد الخامس وهي الجامعة الوحيدة في الرباط؟ بعد طول مشقة وكنا قد ذرعنا الشارع جيئة وذهابا حتى انتصف النهار، التقينا طلابا فلسطينيين وسألناهم: أيها الإخوة أين توجد جامعة محمد الخامس؟ عرف الفلسطينيون ورطتنا فسألونا ذاك السؤال الذي بدا لنا غبيا: الإخوة من السودان؟ ألا تدل سحناتنا السمراء أننا من هناك، من البلد الذي تئن حجارته من فرط الحرارة؟ "نعم من السودان، قطعا لسنا من السويد" قالوا:أنتم شعب طيب... ماذا جنينا من هذه الطيبة يا إخوتنا في العروبة والإسلام نحن الآن نبحث عن جامعة قيل لنا إننا سندرس بها. شرح لنا الفلسطينيون المسألة، توجد هنا وهناك كليات تضمها جميعا جامعة محمد الخامس وكان عليكم أن تسألوا عن الحي الجامعي لتضعوا فيه حقائبكم هذه التي تتجولون بها وبعد ذلك يذهب كل واحد منكم إلى الكلية التي يرغب في التسجيل بها لتكملة الإجراءات. إذن، فالأمر هكذا! *** (1) كان السودان يقسم إلى مناطق تعليمية، كل منطقة تضم محافظة (مديرية) أو أكثر.